إذا كان سيبويه قد مات وفي نفسه شيء من « حتى »، فإن العرب الشرفاء في هذا العصر، وكل من عنده ضمير حيّ من بني البشر، سوف يموت وفي نفسه شيء من « لكن، But، Mais »، التي غدت أحجية من أحاجي العصر، ومتراسا يحتمي به ساسة الغرب، وكأنها ما وجدت في اللغات، إلا لتستخدم ضد مصالح العرب، والفلسطينيين على وجه الخصوص…! بل هي القاعدة الذهبية التي سار ويسير عليها الغرب منذ مرحلة ما بعد الاستعمار فيما يخص قضايانا، مستغلا ضعف شعوبنا، وحكامنا الذين نصبهم حراسا لمصالحه، ولا يخالفون له أمرا.
نسف قواعد العقل
وهي قاعدتهم اللامنطقية، التي تنسف كل قواعد العقل، والقوانين، والشرائع، والمفاهيم الإنسانية، وتثبت المستثنى الباطل، ليصبح هو القاعدة والأساس، من دون أن يشرحوا لنا، أين حدود هذا الاستثناء، الذي هو بلا شك، جامع مانع لكل ما هو ضد مصالح أمتنا العربية وشعوبنا…!
وكما أن « لكن » في النحو تنصب وترفع، فكذلك هو حال ربيبة الغرب الصهيوـ استعمارية، فإنها تنصب وتبتز، وتستغل بلا حدود، وتفرض رأيها، وأيضا ترفع.. نعم ترفع أنظمة بدعمها لها، وتلعب الدور الأهم في نجاح الرؤساء عبر صناديق الاقتراع، وفي فشل آخرين.. فهي اللاعب الأول بلا منازع في سياسات الديمقراطية الغربية، التي إن تناول حكامها مجرد اسمها، تحدثوا عنه بكثير من الإعجاب والاحترام، وإن كانوا يضمرون عكس ذلك. وإلا.. فسلام على كراسي الحكم، والمناصب المختلفة.
الهم الفلسطيني
نقاشات طويلة مستفاضة مع باحثين، وأساتذة أكاديميين، وكتاب، ومثقفين غربيين، منذ أن وطأت أقدامنا أرض أوروبا في مطلع الثمانينات، كانت تدور في معظمها حول الهم الفلسطيني، وبعض قضايا أمتنا العربية.
كنا نحس خلالها وبعد جهد جهيد، وكأننا وصلنا معهم إلى نتيجة ما. وفجأة يطالعونك بذلك الاستثناء الفج والصاعق، الذي ينسف ساعات طويلة من النقاش المنطقي، « ولكن »…! وهم يدركون في قرارة أنفسهم أنهم على خطأ، كما وصفهم القرآن الكريم في موضوع الحق ﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾… لأنهم هم من زرع البذور في البداية، وهم من سقاها بوعدهم المزعوم « وعد بلفور »، وهم من يداري سوأتها بالدفاع المستميت، والفيتوهات المتكررة، والقرارات الأممية التي على المقاس، وأيضا هم من يسترد دعمهم المادي والمعنوي لها أضعافا مضاعفة من دولنا وبلادنا وعلى حسابنا، عبر عقود تجارية، وأخرى لشراء الأسلحة والتدريب، ومعاهدات نفوذ تصب في صالحهم حتما.
العقول المدبرة
إن الغرب، كل الغرب، وبما لا يدع مجالا للشك، إن كان على مستوى الدول، أو العقول المدبرة والمفكرة، وحتى البسطاء منهم… يعرفون اليوم حقيقة هذا الكيان وأكاذيبه، ويدركون مدى مظلومية الشعب الفلسطيني، « ولكن »، وهنا بيت القصيد، من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها…! وهذا يعني من وجهة نظرهم، أنه من حقها أن تقتل وتذبح وترتكب أبشع المجازر، وبشتى الوسائل، وأن تستخدم في ذلك كل أنواع الأسلحة، المحرم منها، وغير المحرم…
لقد كشفت لنا هذه الحرب الظالمة على غزة، ومعركة طوفان الأقصى، بشكل واضح جلي، أن إسرائيل مجرد أداة، ورأس حربة لمشاريع الغرب الاستعمارية، وأن كل تلك الحروب التي خاضتها أمتنا منذ عام 1948، لم تكن يوما مع إسرائيل فقط، بل كانت مع كل الدول الاستعمارية من… إلى… نعم، كانت في الواقع مع كل الغرب الاستعماري، بمؤسساته الدولية ذات المسميات واليافطات المختلفة، من الأمم المتحدة بأذرعها ومكاتبها، إلى صندوق النقد، إلى أجهزة الإعلام الغربي المتصهين بطبعه، إلى الشركات العالمية الكبرى التي في حقيقتها مجرد مرضعة وممولة، وأدوات تابعة للأخطبوط الصهيو ـ استعماري، ولهذا من حق هذا الكيان المارق فعل كل شيء، نعم كل شيء…
إن الغرب، صاحب الشعارات البراقة، والذي طالما صدع رؤوسنا بحقوق الإنسان، وحرية الكلمة والتعبير والنشر وعلى كل المستويات، وحريات أخرى لا تحصى… « ولكن »، على رسلك يا هذا… فهي لهم، لوحدهم، وليس لأحد غيرهم من حقه أن يقول ما يريد، فأنت محاسب على السكنة والحركة، وما إن ترفع إصبعك وصوتك بكلمة واحدة تدافع فيها عن فلسطين، أو عن الإسلام… حتى يواجهوك بقائمة طويلة من الاتهامات والقوانين، التي يخرجوها من ثلاجات الماضي الحاقد والمنحاز، فيوصمونك بتهمة « العداء للسامية »، و « الإرهارب »، وغيرها من التهم، التي أصبحت جاهزة في كل وقت وحين، وفضفاضة جدا، وبإمكانها أن تستوعب كل من يخالف لهم رأيا، ويلصقونها بمن أرادوا، متى شاؤوا…!
الجرائم ضد الإنسانية
أما أنت يا عزيزي فبصفتك كعربي، كل شيء محرم عليك يا مسكين.. بينما هو بالنسبة للكيان الصهيو ـ استعماري وحُماته، يقع تحت بند «ولكن»… فهل تعرف ذلك…؟
نعم كل شيء من حقهم؛ فالهولوكوست مثلا، فرانشايز خاص بهم، وعندما يعيدون إنتاجه، ويرتكبون في فلسطين وغيرها من بلدان العالم أبشع المجازر، والجرائم ضد الإنسانية التي يندى لها الجبين، وما أكثرها… فإن العزيزة « ولكن »، تحضر فورا، وأنت لا يحق لك أن تنسب إلى الهولوكوست أفعالهم، أو تضعها تحت حيزه مطلقا، بل عليك أن تعض على جراحك، وتطوي صفحات جرائمهم في كل مرة طي النسيان، لأنهم فوق كل القوانين والمساءلة.
يدعون الإنسانية، ويذرفون الدموع حتى على ديدان الأرض، «ولكن»، فيما يخص أطفال فلسطين ونساءها وشيوخها الذين يمارسون عليهم فاشيتهم وساديتهم الفجة، فهم عينات لاختبار أنواع أسلحتهم الفوسفورية الحارقة والمخصبة، وغيرها من الأسلحة المدمرة والمحرمة دوليا… يحرقون الحقول والمنازل والمتاجر، وحتى الأطفال الأبرياء أحياء، ويدمرون القرى والبيوت.. « ولكن »، ممنوع عليك أن تدافع عن نفسك.. وإلا فأنت متطرف وإرهابي…!
إنهم يُزورون ويُدلسون الحقائق والتاريخ، ويكذبون عن وعي في كل شيء، حتى في بكائهم، وهذا دأبهم منذ أن.. والعالم الغربي الاستعماري يعرف ذلك وموقن بأنهم كاذبون، « ولكن »، يردد كذبهم، ويتباكى معهم، ويمارس عرضا مسرحيا عاطفيا لصالحهم! ويدلي حكامه بتصاريح تحمل بعضا من الشفقة عليهم، وكثيرا من الحقد علينا، مع مطالبة الكيان الفاشي في أن يكون أكثر حذرا ورأفة، عند التدمير وقتل للأطفال والنساء والشيوخ…
تُصرح أمريكا آلهة الإمبريالية والاستعمار في عصرنا، أنها سوف ترسل كميات من البترول والأدوية والأغذية والمعونات الإنسانية إلى غزة، وأنها سوف تفتح الحدود.. « ولكن »، كل ذلك مجرد كلام وتسويف، إلى أن تنتهي ربيبتهم من مهمتها، ومن عملية الذبح على الطريقة الصهيونية « كوشير / Kosher »… وهذا الإدخال المقنن والضئيل جدا للمواد الغذائية، والمعونات الإنسانية، أشبه ما يكون بإعطاء الخراف قليلا من الماء لكي تشرب قبل ذبحها…!
مؤتمر القمة العربي ـ الإسلامي
تقرر 55 دولة في مؤتمر القمة العربي ـ الإسلامي، إرسال خيم لإيواء النازحين ومعونات غذائية وإنسانية فورية إلى قطاع غزة وفتح المعابر… « ولكن »، قرر الكيان الصهيوني بحزم، أن لا يفتح الحدود، وأن لا يدخل إلى القطاع إلا ما يسمح به فقط، ويمر من تحت حذائه… فإذا ما قال الكيان الصهيو ـ استعماري أمرًا فصدقوه، فإن القول ما قالته الصهيو ـ استعمارية.. أما الرفاق الـ 55، قادة تلك الدول المسكينة فهم حائرون، صامتون، يتفرجون، يكسو وجوههم العار، لأنهم لم يستطيعوا إدخال حتى “البامبرز” للأطفال…!
نحن اليوم أمام كارثة بكل المعاني والمقاييس، يذبح فيها أهلنا في غزة، ويُقتلون، وتُدمر بيوتهم، «ولكن»، صمودهم الأسطوري الذي فاق كل التوقعات، أعاد الثقة إلينا جميعا، وأحيا الآمال فينا جميعا..
ولا تنتظروا أيها السادة من الغرب الاستعماري إنصافا، وكل ما يدلي به حكامه من تصاريح لا تصدقوه، فتكونوا كالنعاج التي تصدق ذئبا، لأن إسرائيل قبل كل شيء تمثل مصالحهم، ووجودهم الاستراتيجي في المنطقة، وهي رأس حربتهم.. مع العلم أن بعض حُكامنا لم يُقصروا يومًا في تحقيق مصالح ذلك الغرب، ولا مصالح ربيبته على حد سواء.
وتأكدوا، وتيقنوا، أنه لا بد وأن يأتي ذلك اليوم الذي يحل محل « ولكن » أختها « ليت ».. ويومها لن ينفع الندم، ولات حين مناص، وما طوفان الأقصى إلا بداية البدايات…
المصدر: القدس العربي