أن نظرة طائر على مشاهد الحرب العدوانية الإسرائيلية على المدنيين فى قطاع غزة، تشير إلى حالة من التحلل الكامل من الشرعية الدولية لقانون الحرب، والقانون الدولى العام، والدولى الإنسانى، التى تشكلت تاريخياً من أجل ضبط السلوك السياسى، والعسكرى، والإنسانى لأعضاء المجتمع الدولى، ومنظمة الأمم المتحدة، وضبط غلواء الدول وقادتها من النزعات التدميرية فى الحروب، والنزاعات الدولية، والإقليمية، والتى تؤدى إلى دمار البشر، والحجر، واأنهار الدماء، وخاصة فى الدول الصغرى، والمجتمعات والشعوب المحتلة، والتى لا تزال تحت الحكم الكولونيالى وبقاياه، مثل الشعب الفلسطينى، وأراضيه المحتلة فى غزة، والضفة الغربية! الأخطر حماية المدنيين وقت الحرب، وحدود وضوابط سلوك المستعمر تجاه المدنيين، وأرض، وممتلكات الشعب المستعمر! المثير للسخط، والغضب أن المستعمر الاستيطانى الإسرائيلى لا يأبه قط، ومعه داعميه الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا ، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ودول الاتحاد الأوروبى، تساند وبقوة الحالة الاستعمارية الاستيطانية سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا بكل قوة. الأخطر – الأخطر هو التلاعب بقواعد الشرعية الدولية، وشرعنة العدوان الإسرائيلى بمقولة أننا إزاء دفاع شرعى تجاه عملية طوفان الأقصى التى قامت بها جماعة حماس والجهاد الإسلامى، ونسيان أن الحق فى المقاومة بكافة أشكالها هو عمل من أعمال الشرعية للشعب أو الجماعة المحتلة إزاء المستعمر الاستيطانى، من أجل تحرير الأرض، والشعب المحتلين. هذا النمط من التلاعب، واللا مبالاة بقواعد الشرعية الدولية يرمى إلى إضفاء الشرعية اعلى العدوان الإسرائيلى ونسيان جرائمه فى تمدد المستوطنات، والأبادة الجماعية للشعب الفلسطينى، والتطهير العرقى، والعقوبات الجماعية، وعمليات القتل، والتدمير الممنهج لإعداد ضخمة من المدنيين، والمبانى حيث وصل عدد القتلى – الشهداء- إلى أكثر من 13 ألف، وأكثر من 4506، طفل خلال ما يزيد قليلا على 4 أسابيع، وهو ما يفوق عدد الأطفال الذين قتلوا فى الصراعات المسلحة فى 22 بلدا حول العالم منذ عام 2020، وفق الأمينة التنفيذية للإسكوا -برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا-، وتشير أيضا منظمات حقوقية إلى مقتل طفل كل 7 دقائق،، وهو سلوك ممنهج فى عمليات القتل والتدمير، على نحو يكسف عن نزعة عدوانية متأصلة فى الثقافة العسكرية الإسرائيلية التى تجد سندا سياسيا وعسكريا داخل اليمين المتطرف الإسرائيلى، والمسيحية الصهيونية داخل الولايات المتحدة، وخارجها!
لا شك أن تفسير هذا السلوك العدوانى المتعصب مرجعه تركيبة الثقافة السياسية، والدينية داخل المجتمع الإسرائيلى، والطبقة السياسية، وجذور بعضها العسكرية والدينية الراديكالية إزاء الأغيار، وخاصة العرب، والمسلمين. أن بعض الخطاب الدينى التوراتى لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وحكومة الحرب المصغرة، وغيرهم فى الحكومة الموسعة، ومعهم الحاخامات المتطرفين تعيد طرح سؤال جديد، وقديم هل نحن إزاء صراع دينى، ومن ثم حرب دينية؟
هذا السؤال القديم/ الجديد مرجعه استخدام الميثولوجيا ذات السند الدينى، فى بناء تصورات أطراف النزاع المسلح فى خطابتهم، وفى أنظمة التنشئة الاجتماعية والدينية والسياسية، وفى نظام التعليم الإسرائيلى، على نحو يؤدى إلى إنتاج هذه الميثولوجيا الدينية التأويلية، وإعادة إنتاجها، فى تكوين وتشكيل المواطنين من مراحل الطفولة، والصبا، إلى مراحل الرشد المدنى. من هنا تدخل هذه الميثولوجيا الدينية التأويلية من منظور غالبية الحاخامات، والمعلمين في تشكيل إدراك، ورؤية المواطنين الإسرائيليين تجاه الأغيار – ” الجويم” -عموما، والفلسطينيين، والمسلمين والإسلام خصوصا ، على نحو يؤدى إلى هيمنة رمزية للإيديولوجيا الدينية وأساطيرها التأويلية التوراتية تجاه الشعب الفلسطينى، ومعها شرعنة دينية للقتل، والاستيطان، واحتلال أراضى الشعب الفلسطينى، وخاصة ما بعد 5 يونيو 1967!
ثمة انتهاك لقواعد القانون الدولى، وقانونى الحرب، والدولى الإنسانى، والقرارات الدولية 242، 338، وغيرها، -بل واتفاقية أوسلو 1993، وعدم الالتفات الإسرائيلي إلى المناشدات الدولية بوقف إطلاق النار، أو إقامة هدن إنسانية، وإنما إصرار علي تدمير المبانى الذى وصلت نسبتها إلى نصف مبانى قطاع غزة، سواء المبانى السكنية، أو الحكومية، وقتل الأطفال والنساء، والمسنين من المدنيين! والمدارس، وأماكن الإيواء، وقصف المستشفيات، ودور العبادة الإسلامية، والمسيحية، على نحو غير مسبوق فى النزاعات الدولية المسلمة!
أن عملية أسطرة الصراع الإسرائيلى، الفلسطينى، وتحويله من صراع بين المحتل الكولونيالى/ الأستيطاني، وبين الشعب الفلسطيني المستعمر، مرجعه استمداد أطرافه تاريخيا المرجعية الدينية سنداً، فى تبرير وتسويغ وشرعنة عمليات القتل، والتدمير، والأهم الاستخدام الوظيفى الإسرائيلى للميثولوجيا الدينية التأويلية فى بناء العقيدة العسكرية للجيش، والجنود والضباط إزاء الفلسطينيين والعرب عموما. هذا الدور الوظيفى للدين فى الميثولوجيا التأويلية للمسيحية الصهيونية مسيطر إعلاميا وسياسيا فى الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، علي الرغم من التناقضات التأويلية حول النصوص الدينية المقدسة لدى كل هؤلاء السياسيين الغربيين ، ورجال الدين ونساءه ! . من ناحية أخرى، تبرز حالة الهوس الإعلامى التقليدى فى فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة فى الدعم غير المسبوق لإسرائيل؛ وحربها العدوانية على قطاع غزة.، ومرجع ذلك “عقدة الذنب” التاريخية إزاء المحرقة لليهود، والتى لم يكن للعرب، والفلسطينيين أى دخل بها مطلقاً! إنها الميثولوجيا، والإسلاموفوبيا التى يؤججها اليمين الأوروبى، المتطرف، واليمين عموما ، وبعض من اليسار المأفون ضد الإسلام والمسلمين فى فرنسا، وبلجيكا، وألمانيا، وأوروبا إزاء إسلام الضواحى، والتهميش، والحصار له، وللمسلمين الأوروبيين من ذوى الأصول العرقية غير الأوروبية، من الأجيال الثانية، والثالثة من المولدين داخل هذه المجتمعات، وباتت تشكل حالة هوسيه لدى اليمين الأوروبى بكافة أطيافه، ومكوناته، ومعهم الطبقات السياسية الحاكمة، والسياسيين ما بعد الحرب الباردة، وملكاتهم السياسية المحدودة عن أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة!
أن تديين الصراع، يهدف إلى تحويله من صراع بين الشعب المستعمر ، الى وحقه فى الدفاع الشرعى عن نفسه، ومقاومة المحتل الاستيطانى على الأراضى الفلسطينية المحتلة ما بعد 5 يونيو 1967 إلى صراع أديان، وهو ما ينذر باحتمالات خطيرة بعد أن تنتهى هذه الحرب العدوانية، وظهور راديكاليات إسلامية سياسية جديدة ، ترد على مذابح الحرب الإسرائيلية. أن تديين الصراع السياسى بين الكونيالية الاستيطانية الإسرائيلية، وبين الشعب الفلسطينى، خطر على كافة الأطراف، لأنه يذكى عمليات القتل والمذابح والتدمير الممنهج للمبانى، والبشر.
قد يقال أن حماس والجهاد الإسلامى حركتين دينيتين، وخطابهما دينى! وهذا صحيح وجذوره ترجع إلى الاستدعاء المقابل للمرجعية الدينية التوراتية إزاء الكولونيالية الاستيطانية التى احتلت أراضى فلسطينية على أساس دينى! من ناحية أخرى جذر هذه الجماعات -الإخوان المسلمين لحركة حماس- الدينى والإيديولوجى واستخدامها الوظيفى للدين الإسلامى، يعود إلى فشل الأمم المتحدة، والدول الخمس الكبرى، فى إنفاذ قرارات الشرعية الدولية، وحل الدولتين، واللامبالاة بالعدوان المستمر على المدنيين. من هنا هذا التوظيف الدينى للمقاومة، مرجعه أن إسرائيل استخدمته فى مواجهة الجماعات الراديكالية فى تكوين منظمة التحرير الفلسطينية، وفى إفشال اتفاق أوسلو -42% من الأراضى المحتلة بعد 5 يونيو 1967 – ، وفى دعم وتوظيف الانقسام الفلسطينى بين سلطة أوسلو، وسلطة حماس.
عندما يغيب أفق حل الدولتين، والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، لا يجد الفلسطينيين أداة للتماسك الاجتماعى، والتضامن، والتعاضد، سوى الإسلام، والمسيحية الشرقية، وأداة هوياتية ضد المستعمر الاستياطنى، ووحشيته وخاصة فى ظل القصف الجوى، والمدفعى، والصاروخى، والقنص، وأنهار الدمار المتفجرة من الأطفال والنساء والمسنين، والآباء والأمهات، والأجداد!
هنا يبدو السند الرئيس للمدنيين، والمقاومة المشروعة للاحتلال متمثلا في الإسلام كهوية، وعقيدة، وأداة للتعبئة، والتعاضد الاجتماعى، وسط الدمار، لأن العالم لا يقدم سوى بعض الكلمات الفارغة التى تذهب هباءاً منثوراً فى الفراغ الإنسانى!
المصدر: بوابة الاهرام
هل نحن أمام صراع وحرب دينية بفلسطين/غزة ؟ الخطاب الديني التوراتي لنتنياهو وأعضاء بحكومته المصغرة والموسعة والحاخامات المتطرفين تعيد طرح السؤال ، يقابلها طروحات دينية من بعض فصائل المقاومة الفلسطينية ، لأن غياب أفق حل الدولتين، والدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس ، لا يجد الفلسطينيين أداة للتماسك الاجتماعي، والتضامن سوى الإسلام .