يبدو المشهد المقبل في حرب غزة أكثر اقتراباً من التفاهمات الثنائية والإقليمية والدولية مما هو نحو الانفجار الأوسع، بالرغم من خطورة ما يحدث على الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية. الأسباب الرئيسية تشمل التالي:
أولاً: نجاح إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تطبيق معادلة “العصا والجزرة” مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها، فاجتمع مبدأ “التهديد والترغيب” في ردع انخراط إيران مباشرةً في الحرب مع إسرائيل، وحصر نشاطات أذرعها في “قواعد الاشتباك”- وكان لحاملة الطائرات الأميركية دور في ذلك.
أما الترغيب، فقد اتخذ أكثر من مسار مع طهران، وشمل التعهّد لها بالمليارات وبرفع عقوبات مقابل عدم تدخّلها. هذا إلى جانب الاصطفاف الأوروبي والعربي مع الولايات المتحدة في عملية ترغيب إيران، ليس فقط بالمكافآت المالية الضرورية لتنفيذ مشروع النهضة الاقتصادية والقومية في إيران، وإنما أيضاً في إطار فكّ العزلة عنها والمقاطعة لها وتهيئة الأرضية لدخولها طرفاً أساسياً في الترتيبات الأمنية المستقبلية لمنطقة الخليج والشرق الأوسط.
ثانياً: “لاءات” وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لإسرائيل ومشاريعها في غزة من التهجير القسري، إلى الإمعان في إبادة المدنيين الفلسطينيين، إلى إعادة احتلال غزة، إلى جانب معارضة محاولات إسرائيل استدراج “حزب الله” إلى حرب اقتناصاً لفرصة التخلّص من صواريخه بمساعدة أميركية- كلها “لاءات” فرضت على إسرائيل إعادة الحسابات والتفكير مليّاً، لأنّ رسائلها كانت بعنوان: لن نتورّط.
معادلة “أ-أ” أي إيران وإسرائيل، كانت حاضرة بقوة في حسابات “حماس” عندما قامت بعملياتها غير المسبوقة في 7 تشرين الأول (أكتوبر). فهي أرادت حرباً إقليمية تجرّ اليها إيران، وليس فقط الدول العربية. راهنت “حماس” على تكامل “ساحات المقاومة”، فافترضت انّ “حزب الله” لن يبقى خارج المعادلة، وأنّ إيران لن تتخلّى عن الحركة وتتركها وحدها في مواجهة عسكرية ضانية مع إسرائيل.
المفاجأة الإيرانية أتت بتنصّل طهران و”حزب الله” من أية معرفة سابقة بعمليات “حماس” يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تمّ إبلاغ الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي “حماس” أثناء استقباله اسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، أنّ طهران لن تدخل الحرب نيابة عن “حماس”، وأنّ عليها إسكات الأصوات التي تدعو إيران و”حزب الله” إلى الانضمام إلى المعركة ضدّ إسرائيل بكامل قوتها.
ماذا كان وراء هذه البراغماتية الإيرانية؟ ولماذا قرّرت طهران عدم الاندفاع إلى الحرب مع إسرائيل؟ بالطبع، انّ استفراد “حماس” بزمام وتوقيت المبادرة العسكرية قد يكون عاملاً مهمّاً- علماً أنّ البعض يشكّك بصحة ذلك، ويعتبره مجرد حجّة. الأهم أنّ إيران لم تكن تتوقع أن تتحرّك حاملات الطائرات الأميركية بتلك السرعة لتوجّه اليها إنذاراً واضحاً بأنّ كلفة دخولها الحرب إلى جانب “حماس” ستدفع بالولايات المتحدة إلى التضامن عسكرياً مع إسرائيل في حربها الموسّعة، بما في ذلك على إيران.
أمام هذا الإنذار وجديّة التهديد، ارتأت القيادة الإيرانية، بحسب مقرّبين من تفكيرها العسكري والأمني:
أولاً، عدم المغامرة ببرنامجها النووي، لاسيّما وأنّه في مراحله الأخيرة. القرار البراغماتي أتى لصالح حماية البرنامج النووي واستكماله بدلاً من تعريضه للتدمير إذا خاضت إيران الحرب ضدّ إسرائيل. بكلام آخر، إنّ جديّة الردع الأميركية لاقت براغماتية إيرانية.
ثانياً، وبحسب المصادر ذاتها، دقّقت إيران في قدراتها العسكرية في حال فتح باب الحرب مع إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، فاستنتجت أنّ المغامرة ستكون جداً كبيرة ومكلفة عسكرياً.
تابعت المصادر، انّ الحرب الأوكرانية والمشاركة الإيرانية فيها لصالح روسيا عبر المسيّرات وغيرها، دفعت بطهران إلى مراجعة قدراتها وإلى الإقرار بأنّ برنامجها للدفاع الجوي والأنظمة المضادة للصواريخ ليست بالقدر من الفعالية الذي كانت تظنّه. وبالتالي، خافت المؤسسة العسكرية الإيرانية من الفشل ومن تعرية مزاعمها بالتفوّق عسكرياً في حال المواجهة مع إسرائيل، فقرّرت ألاّ تغامر.
ثالثاً، ارتأت طهران انّ الدخول طرفاً في الحرب سيُكلّفها “حزب الله”- بمعنى انّها ستخسر قيمة الردع التي يمثّلها الحزب، بمعنى ردع الخطر عن إيران، لأنّه ولبنان الصف الأول في المعركة. وعليه، كانت الرسالة من طهران إلى “حزب الله” أنّ عليه الحذر وعدم الانزلاق الى فتح الاستفزاز الإسرائيلي. طلبت منه عدم عبور الخطوط الحمر والاحتفاظ بالوضع الراهن. ذلك أنّ “حزب الله” ورقة ثمينة لا تريد طهران التفريط بها. فهو وحده ضمن “الأصول الثابتة” لإيران، قيمته لديها دائمة وليست مرحلية، كما قيمة الحوثيين عندها.
رابعاً، إنّ إغراءات المليارات ورفع العقوبات ليست هامشية، وإنما هي ضرورية إذا كانت للقيادة الإيرانية أن تُنقذ اقتصادها، وأن تنفّذ برنامج “النهضة” renaissance الذي وضعته، آملة باستقطاب الشعب الإيراني عبر القومية الفارسية، وبالذات جيل الشباب. فطهران تدرك أنّ في خاصرة النظام قنبلة موقوتة، إذا لم يتنبّه النظام الى ردود فعل الشباب ضدّه في ظل القهر والفقر والثيوقراطية، فيما البيئة المجاورة له في الدول الخليجية العربية تقدّم لشبابها المستقبل برؤيوية وحيوية وديموقراطية.
خامساً، قرّرت طهران أنّ لديها فرصة مميزة مع الدول الخليجية العربية التي تقوم بوساطات نيابة عنها، وتلك التي تفتح أبوابها لها على كل الأصعدة، وهي تريد الاستفادة من العناصر الإيجابية في الاتفاقية الثنائية بينها وبين السعودية برعاية صينية.
كل هذه الأمور تفيد أنّ أجواء الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا المنعطف هي أجواء “الواقعية السياسية” وليست أجواء المزايدات الإيديولوجية. فماذا قد تفعل طهران بأذرعها لو قرّرت حقّاً وفعلاً تعديل الإيديولوجيا إنقاذاً للنظام؟ وكيف ستبرّر قبولها بـ”الجزرة” المالية مقابل التعهّد بعدم التدخّل العسكري؟.
قبل ذلك، وعودة إلى معادلة “أ-أ”، إنّ التهادنية التاريخية بين إيران وإسرائيل عادت إلى الأذهان. حسبما يبدو اليوم، تمّ نزع الفتيل بين إيران وإسرائيل- وهذا إنجاز كبير لإدارة بايدن مساهمة كبيرة فيه بمساعدة خليجية عربية.
القمّة العربية- الإسلامية في الرياض لعبت دوراً مهمّاً لجهة طمأنة إيران بأنّ الصفحة الجديدة في انتظارها على كل مستويات التعاون، خصوصاً بين طهران والعواصم الخليجية العربية وفي مقدّمتها الرياض. مشاركة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي كانت فائقة الأهمية، ليس فقط لجهة حضوره القمّة وإنما أيضاً لناحية موافقته على بيان ختامي غير تصعيدي، بعيد عن المزايدات، قوامه البراغماتية في طرح المواقف العربية- الإسلامية نحو فلسطين ونحو إسرائيل. خطابه لم ينطوِ على تمجيد لما قامت به “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)- بل أنّ جميع المتحدثين لم يأتوا على ذكر بطوليات “حماس”، وإنما تجاهلوها، في رسالة واضحة بأنّ لا دور لها على طاولة التسوية.
بكلام آخر، توافقت الدول العربية والإسلامية على مسار واحد نحو فلسطين وإسرائيل، وأطلقت آلية متابعة من أكبر وأهم الدول، لإبلاغ الولايات المتحدة أنّ الوقت حان للضغط الجدّي على إسرائيل لتكفّ عن التملّص من حل الدولتين، وأنّ في حال نجاح الجهود الأميركية وتمّ تحقيق حل ينطوي على الإنصاف مع الفلسطينيين، فإنّ الجهوزية للتعامل مع إسرائيل والتطبيع معها إسلامية وليس فقط عربية. هكذا أعادت قمّة الرياض لعام 2023 إعادة “تعليب” المبادرة العربية التي انطلقت من قمّة بيروت عام 2002.
حدث 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه من بطش إسرائيلي بالمدنيين في غزة أدّيا الى رفع “فاتورة” التطبيع مع إسرائيل- عندما يحدث. في السابق، كانت الحقوق الفلسطينية موجودة في طروحات السعودية كجزء من التوصّل الى التطبيع. اليوم، انّ أدوات النفوذ والتأثير levarage السعودية، بأبعادها الثنائية والعربية والإسلامية، أكثر حدّة وفعالية وقدرة على رفع السقف لصالح الحقوق الفلسطينية وفرضها على طاولة التفاهمات مع إسرائيل.
المواقف الأميركية والأوروبية وغيرها التقت مع المواقف العربية برفض “التهجير القسري” للمدنيين كجزء من الحل في غزة، كما كانت إسرائيل تريد وتسعى وبدأت تنفيذه. لربما في المستقبل تتغيّر الصورة، فتقبل مصر باستضافة عدد من الفلسطينيين في سيناء. لكن الأمر مرفوض حالياً حكومياً وشعبياً في مصر مهما كانت المكافأة المالية. إلاّ أنّ الإغراءات المالية لمصر، الأوروبية ووراءها الأميركية، بدأت في الظهور. فالحديث لم ينتهِ في هذه المسألة.
إنما ما لا تريده الولايات المتحدة وأوروبا هو أن تتصوّر إسرائيل أنّ سياسة التهجير القسري نجحت من غزة الى سيناء، وأنّ في وسعها تطبيق النموذج بإبعاد قسري للفلسطينيين من الضفة الغربية الى الأردن- “الوطن البديل”- في القاموس الإسرائيلي.
المشهد المقبل إلى غزة سيبقى مؤلماً، لأنّ الكارثة الإنسانية رهيبة. عسكرياً، تسعى إسرائيل لاستكمال “تنظيف” غزة من البنية التحتية العسكرية لحركة “حماس” مهما كانت الكلفة الإنسانية للفلسطينيين، ومهما تضاءل الدعم الغربي لإسرائيل نتيجة همجية عملياتها.
ما يحدث وراء الكواليس هو استمرار التفاوض بين إسرائيل و”حماس” حول الرهائن والسجناء ووقف النار. وما تقوله المصادر العسكرية، هو أنّ إسرائيل تحقّق أهدافها بعملياتها العسكرية المستمرة ضدّ “حماس”، وأنّها على وشك الانتهاء من عملياتها العسكرية في غضون أيام، ترافقها في ذلك الصفقات التي يتمّ استكمالها مع “حماس”.
الموقف الأميركي يتجّه نحو الإقرار بأنّ لا مجال لإسرائيل لتحقيق السحق الكامل لـ”حماس”، وأنّ “حماس” ستستمر في الوجود. ما ترضى به إدارة بايدن بل وتسعى وراءه، هو أن تبقى غزة فلسطينية إنما من دون “حماس” في القيادة. هذه هي المعادلة. أما التفاصيل فإنّها تبحث مع “السلطة الفلسطينية” ومع دول إقليمية ودولية.
عودة إلى إيران وعقيدة النظام وأذرعه ومستقبل إيران في الترتيبات الأمنية للمنطقة. هناك رأي يشكّك بالتحوّل نحو البراغماتية والواقعية السياسية، ويعتبر ذلك شركاً وخدعة decoy إيرانية لشراء الوقت وتمتين العقيدة وأذرعها وأهدافها التوسعية. هذا الرأي يعتبر أنّ النظام سيسقط إذا عدّل منطقه، وأنّ المسألة وجودية. وبالتالي لا ثقة.
الرأي الآخر يشير الى أنّ بقاء النظام يتطلّب بالضرورة تعديل منطقه وأدائه، على الصعيد الداخلي الإيراني وعلى الصعيدين الاقليمي والدولي- وبالتالي، إنّ تعديل reform عقيدة النظام هي أساس إنقاذ النظام في طهران. في هذا الحال، سيضطر النظام إلى إعادة صياغة ما يريده من أذرعه وكيف سيعيد تأهيلها.
الذراع الأهم هو “حزب الله”- فماذا قد تقرّر طهران أن يكون دوره في زمن التفاهمات المرحلية والتسويات الدائمة التي ستتطلّب، إذا تمّت، لجم نشاطات الحزب الإقليمية؟ يقول مطّلِع على تفكير القيادات الإيرانية وقيادات “حزب الله”، إنّ الحزب لربما لاحقاً يستثمر بنفسه ليكون “عنصر استقرار”، بدلاً من كونه عنصر تخريب إقليمياً، ومن اعتماده مبدأ مصادرة الاستقرار المحلي في لبنان.
كل هذا سابق لأوانه حالياً، لأنّ ترتيبات التسويات الكبرى تستغرق وقتاً، ولأنّ خطر الانزلاق خارج “قواعد الاشتباك” ما زال قائماً، بأخطاء تكتيكية. لكن المهم والأهم، هو أنّ القرار الإقليمي والدولي هو احتواء النزاع اليوم مع نزع فتيل التصعيد، والعمل الجدّي نحو تسويات دائمة، بقرارات استراتيجية.
المصدر: النهار العربي
قراءة وتحليل منطقي لأحداث 7 اكتوبر وتداعياته وخلفيات الظاهرة والمخفية للقوى الفاعلة ، الدول تنطلق من مصالحها الاستراتيجية من هنا كان الموقف الأمريكية ولاءات بلينكن -بوريل ، وكذلك موقف نظام ملالي طهران وتخاذلها لوحدة الساحات “التي اعتمدت حماس عليها” ليكون تصور الحل بعد انتهاء المعارك باحتواء الصراع ونزع فتيل التصعيد، والعمل الجدّي نحو تسويات دائمة، بقرارات استراتيجية.