تضاءل ورود اسم إيران نسبياً تحت ضغط الانفجارات العاصفة في غزّة، لكنّها بقيت موضوعاً لا يغادر حسابات كلّ مدقّقي الحسابات المتعلّقة بالمنطقة. كان مناوراً ومداوراً ذلك الشكل الذي تحدث به بايدن وبلينكن عنها، حيث نزلت منزلتها لفظياً إلى مستوى» المتواطئ»، ولم يصل غالباً إلى حدّ اتّهامها بكونها السبب والدافع إلى عملية» طوفان الأقصى». وقد خدمها بالاتّجاه نفسه تطيّر أهل المنطقة ذاتهم من ذكرها؛ لا ليجلب ذلك سوء الطالع وحسب، ويزيد من وجودها وتكريس دورها ويزيد من فتحة أشداق الجحيم؛ بل أيضاً لمنع تأثير ذلك الذكر على استدعائها أكثر إلى دائرة التداول بالمسائل التي تحتدم وتزداد أواراً.
تضع القيادة الإيرانية لنفسها هدفاً كبيراً في المنطقة: «الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا!»، بما يعنيه ذلك مباشرة ومن دون مداورة، من محو لإسرائيل على الخريطة. هذا لا يستجلب الهتافات العلنية وحدها، بل تلك التي تعلو وراء الأبواب المغلقة أيضاً. وتدرك تلك القيادة أيضاً أن الولايات المتحدة هي «الغول» وراء إسرائيل، وهي تستهدفها بالضغط لإضعافها بشكل غير مباشر، يرى البعض أنه قد يخفي عشقاً كما يتعمّق علم النفس، وهو أمر- لو صحّ- يشمل حتى إسرائيل ذاتها.
ترغب إيران أيضاً إلى تعطيل مسار التطبيع العربي – الخليجي مع إسرائيل لأهدافٍ دنيوية، وعلى الجهة السعودية على وجه التحديد. من أجل ذلك الهدف يركّز مسؤولوها وإعلامها الكثير من جهودهم، بذلك تضمن قيادة خامنئي الخروج بالحدّ الأدنى من المكاسب «على البارد المستريح»، من دون المغامرة بخسارة شيء مما تملكه من أوراق، في هذه الجهة يبدو أن الطرف الآخر قد ربح أيضاً بانتقال العرب إلى منطقة أقرب إلى التعميم في ذكر المساواة في انتقاد استهداف المدنيين ما بين إسرائيل وحماس.
مع ذلك، لا تبدو المراهنة على القضم من سمعة الولايات المتحدة ومن دورها المستقبلي في المنطقة ناجحة كالعادة، في أية معركة مع إسرائيل، حتى عند الحديث عن المعايير المزدوجة؛ وحتى أمام وضوح حجم من الدعم الأمريكي لإسرائيل يكاد يكون غير مسبوق في بعض جوانبه. تبدو مطارح قوة إيران تابعة لطبيعة محلّات تأثيرها، ولأدوات فاعليّتها العملياتية والسياسية. فهي تتمتّع بنفوذ مادي قوي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي غزّة بالطبع والضرورة، وفي الأخيرة ربّما- ربّما وحسب- سوف تكون السياسة الإيرانية مسكونة بالحكمة الفارسية بعد بدء الحرب، واتضاح حدودها التي قد تتمدّد شكلاً ومضموناً.
ابتدأت إيران بتصعيد تحرّشها من العراق مؤخّراً، وأطلقت الميليشيات التابعة لها القذائف والصواريخ على قاعدة عين الأسد، التي تتضمّن مركزاً تكتيكياً مهماً للقوات الأمريكية؛ وكذلك توجّهت نحو تجمّع القوات الأمريكية في التنف عند مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية؛ كما عادت إلى محاولات إحراج الولايات المتحدة وقواتها التي تحمي أهمّ حقول النفط والغاز السورية في شمال وشرق الفرات، وطوّرت من هجماتها نوعياً حين وصلت قذائفها إلى الحسكة مؤخّراً.
عادت أيضاً قيادة الحرس الثوري وفيلق القدس إلى التحرّش بإسرائيل عن طريق الضربات المُغفلة في البداية، وإلى تشغيل خطوط الإمداد عن طريق المطارات السورية في حلب ودمشق خصوصاً، الأمر الذي يتمتّع بأهمية بالغة لإسرائيل لما تعتبره خطراً عليها، ولحزب الله في سوريا ولبنان كخط تطوير للتسليح والتذخير، والإمداد عموماً. ردّت إسرائيل أكثر من مرة بقصف مدرّجات المطارين باستراتيجية تصرّ على تعطيلهما عن العمل. وكانت إيران أكثر حذراً في لبنان وجبهتها مع إسرائيل في البداية، وربّما تبقى على تلك السياسة. يعتبر البعض أنها ليست بعيدة عن تشغيل وتنشيط القوى الفلسطينية المتمركزة هناك – حماس والجهاد خصوصاً- التي كانت تتحرّق للإسهام بحرب غزّة وتخفيف الضغط عنها. أطلقت تلك القوى صواريخ وقذائف باتّجاه ما وراء الجدار الإسرائيلي، في الوقت نفسه الذي كان فيه حزب الله يقوم ببعض العمليات على خط الحدود أو وراءها بقليل، خصوصاً في المناطق اللبنانية/السورية التي تحتلها إسرائيل على أطراف إصبع الجليل. لكنّها في يوم الجمعة السابق، وضعت على لسان حسن نصرالله تهديدات جديدة رفعت مستوى التحدّي والخطر، وبالطبع ليس على إسرائيل وحدها. وكمنت في اليمن بعض أكبر احتمالات الضغط على إسرائيل عن بعد، حين استهدفها الحوثيون بصواريخهم وطائراتهم المُسيّرة التي تستطيع الوصول إليها، أو إلى مشارف أجوائها، من ذلك البعد. هنالك حرارة تتزايد على ألسنة الحوثيين، لا توحي بانحسار ذلك الاحتمال. وهنالك حشود أمريكية بالقرب من سواحل اليمن، في البحر الأحمر خصوصاً، لردع أي شيء من هذا القبيل، خصوصاً منع إغلاق طريق البحر من الجنوب على الصادرات الإسرائيلية بكلّ أنواعها.. وعلى التجارة الدولية أيضاً. لكنّ أرض الاختبارات الأكبر هي غزة نفسها، وحماس مع حلفائها في مواجهة الجيش الإسرائيلي، والقصف الجوي المتصاعد، مع الاستمرار بتجهيز الحرب البريّة، التي ستكون كارثة على كارثة تحقق الكثير منها حتى الآن.
يقوم الجيش الأمريكي وحاملات طائراته وقوات التدخل السريع لديه بتهديد صامت لإيران وحزب الله، لردعها عن التدخل المباشر والواسع بالحرب؛ كما أنها تؤمّن تعويض إسرائيل عمّا تفقده من ذخائر، وتسدّ ثغرات قوتها التدميرية بكلّ أشكالها. قام أحد الخبراء من صانعيّ السياسة الأمريكيين بوصف السياسة الإيرانية على الشكل التالي: «الطريقة التي تعمل بها إيران هي أنها تدخل في جغرافية معينة. تُحدِّد هوية مُشعل الحريق الواعد؛ ثم تقوم بتمكين وتدريب ودعم موارد مشعل الحرائق هذا، للسيطرة على جميع مشعلي الحرائق الآخرين في منطقته، في تلك الجغرافيا المحدّدة؛ وبعد ذلك تعطي لمشعل الحريق» أعواد ثقاب» محددة للغاية. كانت هذه الأدوات في العراق هي المقذوفات المتفجرة، الذخائر المرتجلة المدعومة بالصواريخ. في اليمن، كانت صواريخ باليستية وكانت طائرات دون طيار، أما بالنسبة لحماس فهي صواريخ وقذائف من العيار الصغير نسبياً، مع أن صواريخ فجر 5 خطيرة؛ طائرات دون طيار؛ والقدرة على تطوير الأسلحة محليا في مصانع الأسلحة السرية». لكن الحرائق الأكثر ضرراً في المنطقة، تلك التي قد تشلّ سياسات دولها، هي تحريك الشارع العربي والإسلامي عموماً، أو تحريك انقساماته الأفقية المدمّرة أيضاً. يعرف قادتها تماماً منزلة القضية الفلسطينية في وجدان الناس في منطقتنا، ويعرفون الحساسية التي لا تفتأ تظهر كلّما ظهرت الطائرات الإسرائيلية في الأجواء وأخذت بقصف أعدائها لا تميّز- أو لا تستطيع أن تميّز- في حالة غضبها وخوفها القاتلين- بين مدني ومقاتل، وبين طفلٍ وامرأة وشيخ ورجل. في الشارع المنتمي هذا، وأيضاً في الشارع الشعبي- الدولي، أو النخب الأممية، هنالك استعداد كامن لا يحتمل إلّا نداء وحيداً من الضحايا حتى يتحرّك رويداً رويداً، ويتسّع مداه وتأثيره… لون الدماء ورائحتها تستدعي ردود فعل متباينة، أقربها التضامن الإنساني الواجب والصحي، وأقربها من الباطن دوافع الانتقام والثأر التي تحتاج إلى شرارة أو صاعق صادم، كما هي مجازر غزة الحالية.
ذلك طبيعي ومفهوم، لكنّه أيضاً هدف للسياسة الإيرانية، بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة، الظاهرة أم الباطنية. الحراك الشعبي فعّال على الخطين: يمكن أن يكون أداة تثبيط للقتل وسفك الدماء بشراهة متزايدة، أو مدخلاً لتحريك الأمور بشكلٍ مفيد لاستراتيجية النظام الإيراني، وأقسامه أكثر راديكالية وروحاً مغامرة.
كلّه يمكن أن يدفع بدوره إلى مناورات تمهّد لخلافة خامنئي الذي يكاد يأفل ويتوارى بعد عمر طويل، حيث تكون الحرائق من مصلحة التيّارات المتشدّدة؛ والحكمة وضبط النفس والوساطة من أجل الرهائن، والتمسك بالتطبيع مع حكومات المنطقة – الخليج خصوصاً- من مصلحة التيارات الأكثر اعتدالاً. عبّر زعيم حزب الله عن مثل ذلك جيداً في خطابه الأخير يوم الجمعة الماضي.
وفي كلّ الحالات، تبقى مأساة غزة وأهلها هي ذلك الدمار الشامل، الذي يراه العالم على الهواء، وذلك الدم المسفوك بغزارة لن يجعل السلام في المستقبل سهلاً على الإطلاق.. لذلك صحيح ما نادى به المتظاهرون في كلّ مكان من مطالبة بوقف الحرب، ووقف إطلاق النار.. أوّلاً، حتى يكون البحث والتفكير ممكناً ثانياً!
المصدر: القدس العربي
ماذا يريد نظام ملالي طهران من #طوفان_الاقصى ؟ عرقلة ووقف التطبيع العربي وخاصة السعودية مع الكيان الصه.يوني ؟ وأن تعود أمريكا الشيطان الأكبر بالنسبة للعرب ، إن هرولة الدول الاستعمارية بقيادة أمريكا وبريطانيا وحشد الأساطيل والجيوش والمشاركة بطريقة مباشرة وغير مباشرة بحرب غزة لتكون هناك متغيرات نتيجتها مأساة بغزة وأهلها ودمار شامل ودم مسفوك بغزارة لن يجعل السلام في المستقبل سهلاً على الإطلاق .