شهر مرّ على الحرب والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكّان قطاع غزة من دون ظهور أي نتائج سياسية فعلية تسمح في الخروج باستنتاجات عن قرب انتهائها.
فلا حركة حماس استطاعت ترجمة ضربتها العسكرية الخاطفة والمؤلمة في العبور إلى غلاف غزة من خلال “طوفان الأقصى”، في ظل مساندة دولية واسعة لنتنياهو وحكومة اليمين الفاشي، ولا إسرائيل نجحت حتى الآن في توجيه ضربة قاضية للبنية العسكرية المتماسكة لحماس كمدخل إلى تغيير مسار الصراع في الشرق الأوسط، وهو الهدف الذي حددته حكومة الحرب الإسرائيلية، منذ 7 تشرين الأول.
لذا يرى المراقبون أن أفق الحرب بات مفتوحاً وهو ما لا يمكن استمراره إلى ما لا نهاية، لا بل إن الهامش الدولي المُعطى للحكومة الإسرائيلية بدأ يقترب من النفاد، فالتعاطف العارم للمجتمعات الغربية بدأ يتبدّل بشكل كبير إثر المشاهد المروعة للمجازر اليومية الحاصلة.
وما يُحرج الحكومات المنخرطة في منح إسرائيل دعماً مفتوحاً وعلى رأسها الإدارة الأميركية، ويدفع باتجاه توقع الاقتراب من إرغام إسرائيل على القبول بوقف إطلاق النار، قبل نهاية الشهر الحالي، يجعلها ملزمة بالسعي لتحقيق أهدافها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وفي حين دعت إدارة ماكرون لعقد مؤتمر دولي بشأن إقرار وتأمين مساعدات إنسانية عاجلة لغزة في التاسع من هذا الشهر، والمؤتمر الذي سيسبق القمة العربية الاستثنائية في السعودية، ستحضره مصر والأردن والسعودية وقطر، وعلى الرغم من أن طابعه سيكون إنسانياً بحتاً إلا أنّ كواليس هذا الاجتماع ستكون سياسية بامتياز وهو ما يفسّر استثناء باريس لـ”تل أبيب” من الدعوة لحضوره.
من هنا يمكن فهم خلفيات استثناء الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله لفرنسا من هجومه الذي طال أبرز الدول الأوروبية وبالاسم، ولهذا الأمر دلالاته من دون شك، فالواضح أن “حزب الله” يريد المحافظة على تواصله مع المجتمع الدولي من خلال إدارة ماكرون، رغم تصنيف البعض لموقف ماكرون خلال زيارته إلى إسرائيل بالمنحاز والذي تحمّس في الأيام الأولى للحرب عبر دعوته إلى تشكيل تحالف دولي شبيه بالذي شُكّل لمحاربة داعش.
وعلى الرغم من أن ماكرون فتح حسابا جاريا في السياسة والمخابرات لـ نتنياهو، لكنه في الوقت نفسه يسعى عبر مستشاريه للشؤون الإسلامية والمسؤولين عن متابعة العلاقة مع الجالية المسلمة والعربية لإرسال رسائل إيجابية عن تعاطفه مع آلاف الغزاويين، فالجالية الإسلامية في فرنسا تتجاوز 8 ملايين مواطن فرنسي.
لكن في المقابل هنالك زهاء نصف مليون يهودي يحمل معظمهم الهوية الفرنسية، صحيح أن الفارق كبير بين حجم الجاليتين، لكن الجالية اليهودية تعتبر فاعلة جداً وهي تُمسك بمفاصل مهمة في فرنسا ما يجعلها الجالية اليهودية الثانية الأكثر تأثيراً على المستوى الدولي بعد مجموعة الضغط اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية.
ومع اندلاع الحرب في غزة ببشاعتها وقساوة المشاهد التي يراها العالم على الهواء مباشرة، كان من المنطقي أن تأخذ الإدارة الفرنسية في عين الاعتبار هذا التوازن الداخلي الدقيق، خصوصا مع اندفاع اليمين المتطرف الفرنسي الصاعد لصالح إسرائيل، ففي السابق انطلق هذا اليمين المتطرف على أساس عدائه للجالية اليهودية، لكن الأمور تبدلت خلال السنوات الماضية مع اللقاءات المستمرة بين أحزاب اليمين المسيحي الفرنسي وأشباهه من اليمين الصهيوني.
وبات مرجحاً أن القلق الفرنسي اليميني من ملف الهجرة الذي يعتبره الفرنسيون بأنه بات يشكل تهديداً وجودياً للهوية الفرنسية هو سبب هذه الانعطاف الفرنسي، خاصة أن ماكرون الذي بات أقرب في التوجهات الداخلية إلى اليمين الفرنسي، يروّج لسردية أن حكومته تعيش مواجهة صعبة مع الجالية الجزائرية والتي يشيع مقربون من دوائره أن موسكو دخلت على خط دعمها لحسابات الحرب الحاصلة في أوكرانيا، لا بد أن تكون قد شعرت بالخشية من عودة الاضطرابات ولكن بشراسة أكبر هذه المرة، وخاصة أن هذه الجالية هي من تقود وتنظم الجزء الأكبر من الاحتجاجات في باريس ومدن أخرى دعماً لقطاع غزة.
وأمام كل هذه الوقائع بات السؤال الأهم لدى الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة، هو كيف ستكون نهاية هذه الحرب؟ وهل تملك إسرائيل صورة واضحة للاتجاه الذي تسير به الحرب وما إذا كانت قادرة على تحقيقه خلال الأسابيع المعدودة المقبلة قبل نفاد الوقت المعطى لها؟
وخاصة أن صواريخ المقاومة الفلسطينية ما تزال تتساقط على البلدات الإسرائيلية وصولاً إلى “تل أبيب” نفسها، والقدرات القتالية البرية لحماس ما تزال قوية وفاعلة، كما أن شبكة الأنفاق ما تزال في جزئها الأساسي تعمل بصورة سليمة وآمنة وحتى تلك التي تربط القطاع بمصر، في ظل ما يحكى عن استمرار تدفق السلاح إلى القطاع عبر سيناء.
وهذا المسار يتزامن مع تشبّث القيادة العسكرية الإسرائيلية بالحديث عن قدرتها على تحقيق الأهداف الموضوعة تحت عنوان “اجتثاث حماس”، ومن هذا المنطلق بات لدى الإدارة الأميركية بكل تفرعاتها السياسية والعسكرية والمخابراتية قناعة راسخة أن إسرائيل تراوغ وتطيل أمد المعركة خوفاً من اليوم التالي لأي مشروع وقف إطلاق للنار.
ومن هذا المنطلق أجرت القيادة العسكرية الأميركية رسائل تحذير لإسرائيل من أن تكون حماس تعمل على استدراج قوات النخبة الإسرائيلية إلى أزقة غزة وإنزال خسائر جسيمة بها حتى في ظل الدمار الحاصل، وبالتالي العمل على إطالة أمد الصراع والاستفادة من استنفاد كامل التأييد الدولي لصالح إسرائيل.
وبات لدى القيادة العسكرية الإسرائيلية عبر ما يتسرّب من الإعلام الإسرائيلي والغربي تخوّف من أن واشنطن ستفرض على حكومة الحرب الإسرائيلية وقفاً سريعاً لإطلاق النار في ظل المواقف العربية والإقليمية المتصاعدة، لذا هناك مَن يعتقد أن “تل أبيب” تحاول استفزاز “حزب الله” في المعركة الشمالية لتوسيع نطاق الجبهة، وهي بذلك تستدعي تدخلاً أميركياً عسكرياً إلى جانبها.
على اعتبار أن الحرب الإقليمية وتصعيد الجبهات من قبل محور الممانعة سيؤدي إلى تعزيز سردية إسرائيل وإعادة اعتبارها في سياق الاستهداف من قبل أكثر من طرف، كما أنّه سيجعل الصراع إقليمياً بين إيران وإسرائيل، ما سيؤدي إلى إضعاف موقف حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وتحويل المشروعية الفلسطينية إلى إلتحاق إقليمي وهذا ما ترفضه واشنطن من اللحظة الأولى عبر رفض اتهام إيران، وهذا بالضبط ما تلقفته إيران وترجم في خطاب حسن نصر الله حين لم يعلن الانخراط في الحرب، وشدّد على أن عملية حماس هي في إطار استقلالية خيارها السياسي في سبيل قضيتها الفلسطينية، وهذا ما اعتُبر تحييد للبنان عن الصراع، وحماية البنية العسكرية للحزب، ونزع أي ذريعة للإسرائيليين للاستمرار في المجازر، وبالتالي زيادة منسوب الضغوط على نتنياهو المأزوم.
وعليه، فإنّ المشاريع القائمة لترتيب مرحلة ما بعد الحرب ترتكز على خريطة فلسطينية جديدة تتضمن شراكات إقليمية ودولية، وهو ما يعني استطراداً التأسيس لإعادة رسم خريطة نفوذ سياسي في الشرق الأوسط وإعادة رسم استراتيجيات جديدة أيضاً، هذا إذا لم تحصل تطورات ميدانية غير متوقّعة من الآن وحتى موعد تثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما سيؤدي إلى نتائج سياسية أخرى ومختلفة، ومع عدم إغفال القناة التفاوضية القطرية بين واشنطن وطهران والتي بَدا واضحاً أنها تعمل بنشاط وتقدّم بسرعة الضوء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا