انتظر المؤيدون والرافضون خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وسمعوه يوم الجمعة الماضي (4/11/2023)، فالحزب قوّة لبنانية وإقليمية وازنة. وعدا ذلك، إنه يتموضع في إطار السياسات الإيرانية في المنطقة، وحتى في الموقف من الكيان الصهيوني. كانت الاستراتيجيات في المنطقة، قبل عملية طوفان الأقصى، تقوم على تطبيع أغلبية الدول العربية، وتَبنِّي محور “المقاومة” استراتيجية وحدة الساحات، وانفتاح تركيا على دولة الاحتلال.
بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وخطاب نصر الله، وعتب قادة من حركة حماس على حزب الله، لم يتغيّر الموقف العربي؛ فبعد شهرٍ من حربٍ الإبادة على غزّة لم يعلن أحد من الدول العربية المطبعة مع إسرائيل قطع العلاقات، ولم تتفعّل وحدة الساحات. ورغم قول نصر الله إنهّم في حزب الله دخلوا الحرب في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، 8 أكتوبر، فاستطاعوا تحييد نسبٍ معينة من قوات الكيان، وأكّد أن معركة غزّة فلسطينية بامتياز، وليس في الأفق الانتقال من حرب المناوشات على الحدود اللبنانية إلى حرب وحدة الساحات، أوضح نصر الله أن الانتصار على الكيان يتم بالنقاط وليس دفعة واحدة. وهذا تأكيدٌ إضافي على أن استراتيجية وحدة الساحات لن تتفعّل، ما يتلاقى مع رغبة أغلبية اللبنانيين في عدم دخول الحرب، ومع الموقف الإيراني بعدم دفع الحرب لتصبح إقليمية، وتحذير الولايات المتحدة والكيان من خطورة ذلك، وهذا يتطابق مع موقفٍ أميركي يحذّر من الحرب الإقليمية.
المشكلة في المواقف المتطابقة أعلاه، الأميركية والإيرانية وحزب الله، بل وكل الدول العربية في أنّها لا تقترن بموقفٍ جازم بضرورة إيقاف إطلاق النار والعدوان على غزّة. وبالتالي، تَستغلّ دولة الكيان مواقفهم تلك للاستمرار في حرب الإبادة على غزّة، أرضاً وبشراً، ولا سيما أن هناك رفضا فلسطينيا وعربيا للتهجير إلى مصر.
يقول التفكير العقلاني قبل الخطاب إن نصر الله لن يأتي بجديدٍ عن المناوشات، ولا سيما أنَّ سياساته تنطلق من الاستراتيجية الإيرانية، والتي تشهد تقارباً مع السياسات الأميركية في المنطقة، منذ غزو الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، والصمت عن وجود حزب الله في لبنان، والصمت عن تدخّل الأخير الواسع في المقتلة السورية بعد 2011، واستمرار الموقف ذاته رغم تشكيل الأميركان حلفا دوليّا ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية عام 2014. ويؤكّد تزامن وجود المليشيات الإيرانية وحزب الله في سورية مع القواعد الأميركية في سورية عدم وجود تناقضاتٍ حقيقيةٍ بين أميركا وإيران، وأن هناك طرقا لإدارة الخلافات، وليس عبر الحرب بين الدولتين. بعد عملية 7 أكتوبر، سبحت بوارج أميركية إلى شواطئ المتوسّط، ومعها بوارج غربية، ومع ذلك، ظلت مواقف هذه الدول تؤكّد عدم الانجرار إلى حربٍ إقليمية.
إذاً، لم تكن سياسة وحدة الساحات قبل 7 أكتوبر سوى أداة أيديولوجية للردّ على استراتيجية التطبيع العربية. لقد تخلّى نصر الله عنها في المناوشات وفي الخطاب، في تفسيرنا، مدّعيّاً أن قرارات كل أشكال المقاومة خاصة بتلك الأشكال، وما فعلته “حماس” كان أمّراً مستقلاً بها؛ وإذ كنّا لا نرفض ذلك بما يخصّ “حماس”، فإن قرارات بقية المقاومات المرتبطة بإيران ليس كذلك، بل هي تعمل وتحارب بقرارٍ كاملٍ من إيران، ومناوشات حزب الله، والحشد الشعبي والحوثيين في العراق وسورية واليمن ليست أكثر من أوراق بيد الإدارة الإيرانية، ومن أجل التفاوض مع الإدارة الأميركية على كل شؤون المنطقة، ومنّها غزّة، ومستقبل القضية الفلسطينية؛ ووزير الخارجية الإيراني يتنقل في العالم وكأنَّ فلسطين قضية إيرانية!
ضعف السياسة العربية، وتبنّي عدة دول التطبيع، وعدم إيقاف اتفاقياتها مع الكيان، هو ما يُفسح المجال لإيران للتدخّل بقضية فلسطين وقضية غزة الآن، وهو ما يتيح للدول الغربية الاستمرار بسياسات التأييد الكامل للكيان منذ 7 أكتوبر؛ وقد كرّر وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، في عمّان، بعد اجتماعه مع خمسة وزراء خارجية عرب، رفضه إيقاف العدوان ووقف إطلاق النار، وكرّر الهجوم على حركة حماس وتحميلها مسؤولية ما يجري في غزّة، وكأنّ المشكلة “حماس”، وليس دولة الاحتلال.
يوضح وصول البوارج الغربية بشكلٍ دقيق هشاشة دولة الكيان، والتأثير القوي لعملية طوفان الأقصى، وكذلك وفود الحجّ الغربية إلى تل أبيب، ولا سيما الأميركية. الملفت هنا أن الولايات المتحدة لم تعد داعمة للعدوان، بل هي مشاركة، دبلوماسياً في مجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة، وعسكرياً في التخطيط لكيفية التخلّص من “حماس” والمشاركة المباشرة في الحرب، وهذا جديد نوعي في السياسة الأميركية، واقتصادياً، وسواه. لا شيء قبالة ذلك يتحقّق عربياً أو إيرانياً، ومناوشات حزب الله وقصف القواعد الأميركية في هذه الدولة أو تلك، ليس أكثر من رسائلٍ بحصر الحرب في غزّة من جهة إيران. الحصيلة هنا أن غزّة تركت لمواجهة العدوان بمفردها بكل معنى الكلمة.
الغموض التي قال به السيد حسن نصر الله، أو أن الخيارات كلّها على الطاولة، لا تعدو أكثر من تهديدات إضافية لإسرائيل بألّا توسّع الحرب إلى لبنان، وكذلك تذكير أميركا بهزيمتها في لبنان، وانسحاب المارينز عام 1983. وأيضاً، إن حزب الله أعدّ العدّة لتلك البوارج في عرض البحر. وحديث نصر الله عن انتصار بالنقاط وليس بوحدة الساحات رسالة دقيقة لجهة توافق مواقف الحزب مع إيران في منع الحرب الإقليمية، وهو موقف كل الدول العربية، بل والغربية أيضا.
ليست الحرب الإقليمية نزهة، وليس الكاتب من دعاة الحروب، ولكنّ حرب الإبادة على غزّة مستمرة. والقصد أن هناك ضرورة للتحشيد الدولي والإقليمي من أجل إيقاف العدوان؛ وهذا ما كان يجب التأكيد عليه في عمّان مع الوزير الأميركي، ورفض إجراء أيّ نقاشات معه قبل تحقيق ذلك، وإيقاف اتفاقيات التطبيع حاسم في ذلك. صحيح أن الوزراء العرب رفضوا نقاش اليوم التالي بعد “القضاء على حماس”، وهذا جيد، ولكن الضرورة تقتضي رفض أيّ حوارات معه سوى إيقاف العدوان، وكذلك بخصوص مصير “حماس”؛ فللحركة قيادة، وهي من يجب النقاش معها، كما تمَّ مع قيادة حركة طالبان مثلاً، قبل جلاء القوات الأميركية من أفغانستان.
مع عدم تفعيل وحدة الساحات، وعكس سعي حزب الله إلى الاستقرار ورفض الحرب الإقليمية، ترفض دولة الكيان السلام وحلّ الدولتين، وتستمر في سياساتها العدوانية والاستيطانية ضد قطاع غزّة والضفة الغربية وفلسطينيي 48. وبالتالي، فوّت حزب الله على نفسه فرصة مثالية لوحدة الساحات، وإعلان الحرب الشاملة، وهذا ما كان سيخفّف عن غزة، ويجبر أميركا وحلفها على إيقاف العدوان، وإيجاد مخرجٍ لحركة حماس ذاتها ويحافظ عليها، والأمر ذاته يخصّ الدول العربية، فلو اتخذت موقفاً صلباً وأنهت اتفاقيات التطبيع، فإن هذا كان سيُعلي من شأنها مع الكيان مستقبلاً. وهنا لا بد من السؤال: هل من ضماناتٍ أميركيةٍ بألّا تفكر إسرائيل بالحرب ضد حزب الله في المستقبل بعد الوصول إلى تسويةٍ ما بخصوص غزّة؟
اهتزت دولة الاحتلال كثيراً، وأصبحت مسنودة كليّا من الإدارة الأميركية، بينما لم تَستغل ذلك إيران أو الدول العربية ولا حتى حزب الله، وكان في مقدورهم أن يناوروا، كما أوضحت السطور أعلاه، ولا سيما أن هناك أطرافاً دولية، كالصين وروسيا، تعلن ضرورة إيقاف العدوان، وهذا ما كانت ستفكّر به الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي مليّاً.
يا لبؤس المواقف العربية والإقليمية من القضية الفلسطينية، ويا لبؤس أنظمة هذه الدول.
المصدر: العربي الجديد