قد يلجأ الحزب إلى التصعيد عند الحدود الجنوبية مع إسرائيل، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن يصل إلى حدّ الحرب الشاملة.
تنفّس كثرٌ في لبنان وخارجه الصعداء بعد الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، والذي كان الأول له منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس. فقد دافع نصر الله عن انخراط حزبه المحدود في الحرب الإسرائيلية في غزة، واصفًا الجبهة اللبنانية ضدّ إسرائيل بأنها جبهة “تضامن ومساندة لغزة”. كان الدافع الأساسي وراء كلام نصر الله التشديد على دور الحزب الثانوي في هذا الصراع الذي يتولّى فيه المقاتلون الفلسطينيون زمام القيادة.
ولكن إذا نظرنا أبعد من النقاط الواضحة التي أدلى بها نصر الله، يمكن استخلاص رسالتَين ضمنيّتَين في تشديده على استقلالية حماس في اتّخاذ القرار، ودورها المركزي في القتال ضدّ إسرائيل، وحتمية انتصارها في المعركة.
الرسالة الأولى مفادها أنه نظرًا إلى أن حزب الله لم يكن على علم بعملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، فهو لم يكن مستعدًّا عسكريًّا لتصعيد أوسع نطاقًا مع إسرائيل. ولعلّ ذلك يفسّر التصاعد البطيء والمتدرّج في وتيرة الاشتباكات المتبادلة عند الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وما تردّد عن استدعاء مقاتلي الحزب من بعض المناطق السورية إلى جنوب لبنان. إذًا، تطلّبَ الانخراط في تصعيد أوسع تهيئة جبهة جنوب لبنان بشكل أفضل. ولا يكتفي حزب الله بالتحضيرات العسكرية فقط، بل يعمَد أيضًا إلى الاستعداد سياسيًا ولوجستيًا، تحسّبًا لنزوح أوسع للمدنيين اللبنانيين من المنطقة الحدودية، ومن أجل ضمان الحصول على الدعم السياسي من الأفرقاء السياسيين البارزين. وهذا المجهود مستمرٌّ في الوقت الحالي.
أما الرسالة الثانية فهي أن تشديد نصر الله على انتصار حماس يعني أنه يضع ضمنًا خطًّا أحمر حول هزيمتها. فعلى الرغم من لهجة نصر الله المنضبطة نسبيًا، شدّد مع مسؤولين آخرين في حزب الله على أن حماس ستنتصر في حرب غزة تمامًا مثلما فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها المعلَن بالقضاء على حزب الله خلال الحرب التي شهدها لبنان في العام 2006. هذه المقارنة مع حرب تموز/يوليو 2006 تعني أنه إذا لم تتمكن حماس من إبطاء التوغّل الإسرائيلي في غزة وإذا ضعفت قوتها النارية، وأُعيد احتلال شمال غزة، ونزح أكثر من مليون فلسطيني، ووقع دمار غير مسبوق، ولقي عشرات آلاف الأشخاص مصرعهم أو أُصيبوا، فسيكون من الصعب على الحركة ادّعاء النصر.
قد تكون هذه الحصيلة في نهاية المطاف باهظة التكلفة لحزب الله وحلفائه، ولا سيما أن إسرائيل ستسعى على الأرجح إلى إعادة فرض معادلة ردع جديدة عند حدودها الشمالية بعد تحييد غزة. يدرك حزب الله التأثير العميق الذي خلّفته عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر على العقيدة العسكرية الإسرائيلية، أي أن الإسرائيليين لجأوا إلى ردٍّ غير متكافئ لردع أعدائهم في المستقبل. وهذا يعني أيضًا أنهم أقلّ استعدادًا للالتزام بقواعد الاشتباك الضمنية. في ضوء ذلك، إن توسيع حزب الله نطاق التصعيد الآن قد يكون أفضل من السماح لإسرائيل باختيار توقيت المواجهة بما يصبّ في مصلحتها.
ولكن يمكن أن يبقى هذا التصعيد ضمن الحدود الحالية. فبدلًا من التوسّع نحو قصف مواقع استراتيجية ومدن كبرى، قد ينطوي التصعيد على مهاجمة عدد كبير من المواقع الإسرائيلية، وربما أيضًا على شنّ هجمات برّية قريبة من تكتيكات حزب الله في التسعينيات، حين كان يُقدِم المقاتلون على السيطرة على قواعد عسكرية إسرائيلية داخل المناطق المحتلة في لبنان، ثم ينسحبون قبل حدوث ردٍّ انتقامي. سيتجنّب هذا التصعيد على الأرجح استخدام الصواريخ المتوسطة المدى، وغالب الظن أن يكتفي حزب الله بقصف المدن الإسرائيلية الواقعة ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها، وذلك ردًّا على استهداف إسرائيل لمدن لبنانية. مع ذلك، ستزيد الهجمات البرية والاشتباكات الأوسع على طول الحدود حكمًا مخاطرَ حدوث ارتفاع كبير في مستوى العنف.
ثانيًا، لقد أعلنت إسرائيل عن نيّتها اغتيال قادة حماس، وبعضهم موجودون في لبنان. نظرًا إلى محاولات الاغتيال السابقة التي نفّذتها إسرائيل في البلاد، ومنها محاولة اغتيال القيادي في حركة حماس، محمد حمدان، في العام 2018، ثمة احتمال بحدوث مثل هذه العملية داخل الأراضي اللبنانية. وفي حين أن حزب الله نجح سابقًا في ردع إسرائيل، ثمة شكوك أكبر حول قدرته على القيام بذلك بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، وعند انحسار النزاع في غزة.
ثالثًا، حتى لو تمكّن حزب الله من تجنّب صراع أوسع نطاقًا مع إسرائيل وبادر إلى خفض التصعيد من جانب واحد في جنوب لبنان، غالب الظن أن يحدث تغييرٌ في القيادة الإسرائيلية. فقد تتم تنحية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من منصبه لصالح بيني غانتس، ما يمكن أن يولّد تصميمًا متجدّدًا لدى إسرائيل على ردع حزب الله وإضعافه. ويمكن أن يترافق هذا التغيير في القيادة أيضًا مع دعم غربي، ولا سيما إذا حدث بالتوازي مع إعادة إحياء المفاوضات مع الفلسطينيين، بموافقة من الدول العربية. ومن شأن ذلك أن يمنح إسرائيل دوافع إضافية لاعتماد سياسة عدوانية ضد حزب الله لمنعه من عرقلة هذه العملية.
ختامًا، على نصر الله وحزب الله إيجاد حجج تبرّر الحرب من المنظور اللبناني، بمعزل عن التضامن مع الفلسطينيين. فهذا ضروري لقاعدة الحزب الانتخابية وللحسابات السياسية الداخلية على السواء. وقد بدأ نصر الله، في خطابه الأول بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر والحرب الإسرائيلية على غزة، التحضير لهذه الحجج من خلال تهديد إسرائيل في حال قرّرت شنّ هجوم على لبنان. وبعدما أقدمت إسرائيل على قتل مدنيين لبنانيين، من بينهم ثلاث فتيات وجدّتهنّ، تتوسّع هذه الحجج.
في ضوء المسار الحالي للعملية الإسرائيلية في غزة، سيكون من المستبعد إلى حدٍّ كبير عدم حدوث تصعيد أوسع من جانب حزب الله في لبنان. فالإطار الزمني لمثل هذا التدخّل يضيق، وقريبًا لن يكون باستطاعته التأثير على النتيجة في غزة. إذا ضعفت قدرة حماس على مقاومة التوغّل الإسرائيلي في الأسابيع المقبلة، فقد يتحوّل حزب الله إلى هدف للجيش الإسرائيلي.
يخوض حزب الله والفصائل الفلسطينية مواجهات مع الجيش الإسرائيلي عبر الحدود الجنوبية. وقد تؤدّي زيادة التصعيد العسكري من جانب حزب الله إلى ممارسة ضغوط أكبر على الإسرائيليين، ورفع معنويات المقاتلين الفلسطينيين في غزة، وربما تمهيد الطريق للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار من خلال التفاوض. يُشار إلى أن وقف لإطلاق النار في غزة ولبنان هو الحصيلة التي يفضّلها حزب الله، لأنه لا يريد خفض التصعيد من جانب واحد فيما تحتفظ إسرائيل بخيار شنّ ضربات عبر حدودها الشمالية. وفيما يدرك حزب الله أن الحرب الموسّعة ستكون كارثية للبنان، فهو يعتقد على ما يبدو أن هذه المواجهة حتميّة. لذا، من المحتمل أنه يفضّل أن يقرّر التوقيت بنفسه، بدلًا من أن يمنح تلك الورقة لإسرائيل.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط