تجيء غزّة في سردٍ بصريّ طويل وموجع، يتسلّقه موتٌ أحمق من كل الاتجاهات، منذ أن قُصف مستشفى الأهلي المعمداني يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، بضحاياه الذين قاربوا 500 مدنيّ، وحتى قبل ذلك، وربما بعده أيضاً. وذاك سردٌ بصريٌّ فجٌّ يتكّئ على معنى “الإبادة الجماعية” بمعناها الوافر والغزير، ويبثّها من دون هدنة، خصوصا حين يأتي محمولاً من شاشاتٍ لا تملّ إرساله إلى الجميع. وحين يحضر إلى سورية، فإنه يصير مرئياً أكثر من أي مكانٍ آخر، وكأنه يُبثُّ من سورية نفسها بلا أيّ مغالطاتٍ تُذكر، كما لو أنّ السوريين يقفون أمام مرآة تُجاهرُ بصورة فنائهم منذ تطوّع بشّار الأسد لتدمير البلاد قبل 12 عاماً.
يتساوى السوريون والفلسطينيون إذاً في تلقّي فعل الإبادة، ويتدرّبون على تخطّيه مراراً، ذلك أن السلطة في سورية ومثلها السلطة في إسرائيل تبرعان بإنتاج دمارٍ ممنهج، يمكن الاستدلال عليه ومراقبته حال تتبّع نمطي سلوكهما السلطويّ في سياقات تعامله مع الآخر المختلف، إما سياسياً مثلما هو الحال في سورية، حين صفّى النظام خصومه من المجتمع المعارض لسلطته، أو إثنيّاً مثلما هو الحال في إسرائيل التي تحاول على نحوٍ حثيث تصفية الفلسطينيين المعارضين لعنصرية سلطة الاحتلال هناك. غير أن رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، وحين يتفقّد إحدى القواعد العسكرية التابعة للجيش، بعد عملية السيوف الحديدية التي ردّت بها إسرائيل على عملية طوفان الأقصى، نجده طيّعاً لكل الانتقاد المُكال إليه، حيث يكون بإمكان جنديّ هناك أن ينهره لأن “أصدقاءه تمَّ ذبحم” وأن يلومه لأنه “خرّب إسرائيل”. فيما يواصل بشار الأسد مزاولة لعبة اختفائه عن المشهد العام، اللعبة التي يبرع بها من دون أن ينافسه أحد عليها، ومن خلالها يعلن للملأ إفلاسه السياسي، وكيف صار دميةً مضحكة للغاية، ولو قرّر أن يزور إحدى القواعد العسكرية التابعة لجيشه، فلن يجد فيها جنديّاً ينهره، أو يلومه لأنه تسبب بذبح الجميع، وكان بحق عرّاب خراب سورية.
ولعلّ فراس، نجل رفعت الأسد، قد تنبّه، مثلما تنبّه آخرون، إلى غياب بشّار الأسد، وهو غيابٌ يشبه الهروب المشين على أيّ حال، اختفاءٌ يمكن تصديقه وفهم دلالاته النابعة من شخصية رئيس نظامٍ يمكن التكهن مسبقاً بسلوكه السياسي، وبخطابه الكلاميّ أيضاً، وهذه المرّة قرّر بشّار أن يتعكّز على صمته، حتى لا يتفوّه بشيءٍ فيه آثارٌ تدّلُ على “محاربة الإرهاب” و”النيْل من العدو الصهيوني”، وحتى لا يتقيّأ كلاماً ملَّ السوريون رائحته، ثم بقي متوكّئاً على صمته ذاك، بعد أن قصفت إسرائيل مطاري دمشق وحلب ثلاث مرّات متتالية خلال أسبوعين فقط.
يفيده الصمت كثيراً، إذ يحجُب معه فضيحة تواطئه المستتر، وربما المعلن مع خيارات حكومة الاحتلال الإسرائيلي حيال فلسطينيي غزّة، ومع خياراته هو، بوصفه رئيس نظام ديماغوجيّ يحتلُّ الفضاء السياسي لبلدٍ تقسّم، ويواصل عناق تقسيمه على نحوٍ حثيث، ثم يفيده صمته أكثر لئلا يتبجّح بأنه ونظامه جزءٌ من “محور المقاومة” وبأن حركة حماس التي تصالح معها تعنيه، وتعنيه خياراتها، وكي لا ينطق بما يدين فيه “انتفاضة السويداء” في جنوب البلاد، المتواصلة ضدّه وقد دخلت شهرها الثالث، ومواصلة اتهامها بأنها منجذبة إلى “مشروع انفصالي” عن جسد البلاد، المجزّأ أصلاً إلى مناطق نفوذ للأكراد والإيرانيين والروس والأميركيين والأتراك. غير أن السوريين يتبرّأون من صمت بشّار ذاك، يعتبرون أن الدمَ المُراق في غزّة كأنما هو دمهم المراق على حيطان 12 سنة مثّلت عمر ثورتهم، يَحْكُون ذلك على صفحات تواصلهم الاجتماعي المدرّبة جيداً على استمراء التعاطف، أو يخطّون الفكرة على لافتاتٍ يرفعونها في الأماكن القادرة على الحراك السياسي، كأن ألمهم لا يكفيهم ليستعيروا آخرَ يشبهه، وربما يكون هذا وجهُ الحكاية الثاني لمنطقةٍ مقبلةٍ على إعادة تدوينٍ لمكوّناتها وصياغة جديدةٍ لحدودها وكياناتها قد تنقُضُ شكلها الراهن كلّياً.
لذا نجد أنّ إسرائيل تنفقُ بسخاء على إبادة الشعب الفلسطيني، إذ تجاوز عدد من قتلتهم بآلتها العسكرية في قطاع غزّة ستة آلاف مواطن منذ بداية “طوفان الأقصى”، ثلثهم على الأقل من الأطفال بحسب أرقام “يونيسيف” مثلما أنفق بشّار الأسد ونظامه بسخاءٍ أيضاً على إبادة الشعب السوري، فوصل عدد من قتلتهم آلة النظام العسكرية وحلفاؤها قرابة نصف مليون شخص بين عامي 2011 و2018، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
يظهر نتنياهو أمام مجتمعه، فيما يغيب بشّار عن المشهد، وربما يكون هذا هو الفارق الطازج الوحيد بين “الحليفين”، حتى وإن قصفت إسرائيل، أخيرا، نقاطاً عسكرية لجيش النظام السوري في ريف درعا، وكبّدته أكثر من 11 قتيلاً، فإن رأس النظام السوري يظلُّ نائماً، أو ربما مغشيّا عليه، أو لعل حليفه الإسرائيلي يريد منه ذلك، أن يتطبّع بالصمت، ويحتذي به، خصوصا أن جبهة الجنوب السوري بدأت تنشط فعلياً من خلال المليشيات الإيرانية التي تسكُن هناك، وأخذت تقصف من تلك المواقع الأراضي الإسرائيلية، ولأن إيران ومليشياتها الرديفة هي التي تتحرّش بإسرائيل، نجد كثيراً من حياد السوريين إزاءها، فلا هم معها، ولا هم ضدها، وكأن الأمر برمّته لا يعنيهم. ما يعنيهم فقط دماءُ الغزّيّين، ونعوات موتهم اليومية، والتي تشبه في صياغة مفرداته نعوات موت السوريين المتواصلة منذ أكثر من عقد.
ليس صعباً إذاً أن نجد غزّة وقد التصقت بملامح السوريين، المعارضين منهم نظام بشّار، والمؤيدين، تفعل غزّة ذلك بلا مشقّة، مع كلّ الموت والخراب اللذيْن يتجوّلان بين أعصابها المنهكة، فالسوريون خبراء بإعراب الموت والخراب ومنحنياتهما أينما يحلّان، كما حال الفلسطينيين أيضاً.
في كتابه “فلسفة الفوضى” لا يمانع الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك من تناول فنجان قهوة مع جوليان أسانج، الأب الحقيقي لموقع ويكيليكس، لكنه يحذّر من مخاطر ذلك الإجراء، ونجده أيضاً يتساءل بعمق وكفاءة عالية عن حدود الديمقراطية وانقلاباتها المتلوّنة وإيهاماتها التي لا تنتهي، وهل من الممكن إحياؤها مع الرئيس الأميركي جو بايدن؟! ولو قُدّر لجيجيك أن يؤلف كتابه ذاك في عامنا الحالي، لوجدناه أكثر انبهاراً وتلاعباً بماهيّة الأشياء، وبضرورة إنباتها في مزارع سخريته. ربما سيكون غير ودود مع عملية السيوف الحديدية، وأكثر ودّاً مع المخيّلة العالية التي أنتجت “طوفان الأقصى”، وجعلته يرتدي ثياباً مرئية، وربما سيكون مهتمّاً أيضاً بميلاد حدود جديدة في المنطقة تكنس كل الرومانسية السياسية، وتستبدلها بكثير من الشقاء والبؤس القادمين إلينا. … يا ليته فعل.
المصدر: العربي الجديد