قراءة في كتاب: مذكرات السلطان عبد الحميد

أحمد العربي

لن أتحدث عن مقدمة المترجم، لأنها تكاد تكون إعادة سرد لمفاصل حياة السلطان عبد الحميد الثاني، وهو صاحب المذكرات، باستثناء جزئية انه ترجم الى العربية النص الكامل لمذكرات السلطان عبد الحميد بعد أن نشرت مجزأة وتباعا.

ما لم تقف عنده المذكرات، أو التقديم، هو المناخ العام لعصر السلطان عبد الحميد الثاني حيث استمر بالحكم ثلاثين عاما، كان حكمه في أواسط العقد التاسع من القرن التاسع عشر، وهو من أواخر السلاطين العثمانيين الذين وصلو الى ستة وثلاثين سلطان، كان ترتيب عبد الحميد الخامس والثلاثين. لقد كان عصر عبد الحميد هو عصر انتهاء الامبراطوريات المؤسسة على قاعدة التوسع العسكري مع الاستناد إلى مشروعية سياسية دينية. حكم العثمانيين بمسمى الخلافة ستة قرون، على أنهم يمثلون خلافة المسلمين الشرعية كدولة اسلامية تحكم العالم الاسلامي. كما كان عصر عبد الحميد هو عصر التوسع الأوروبي في كل أنحاء العالم على قاعدة مصالحها الرأسمالية، وأصبحت الدول ادوات امتدادها واستثمارها عالميا. كان عبد الحميد يصارع القوى العالمية الصاعدة المعتمدة على العلم والتكنولوجيا والمصالح الرأسمالية، يضاف اليها تحرك هذه الدول على قاعدة الفكر الليبرالي الذي أسس للرأسمالية والدعوة القومية، التي أدت لإنهاء الامبراطوريات التوسعية الأوربية في العصور الوسطى، وخلق امبراطوريات قومية رأسمالية جديدة في أوروبا وامتدت في العالم عبر التوسع الاستعماري. كان للسلطنة العثمانية مشكلة وهي  أنها تخلفت عن الركب العلمي الأوربي، الذي جعل أوروبا متفوقة على السلطنة علميا وتكنولوجيا وعسكريا وعلى كل المستويات. اضافة الى الامتداد الواسع للسلطنة العثمانية التي اسميت بالرجل المريض، وطمع الدول الغربية وعملهم على تقسيمها بينهم كغنيمة حرب.

ثانيا: عصر السلطان عبد الحميد الثاني.

وعند الحديث عن واقع السلطنة العثمانية ما قبل مجيء السلطان عبد الحميد، سنجد أن السلطنة ضائعة بين الهيئة الحاكمة من السلطان وحاشيته وعسكره، وبين بلاد ممتدة تعيش حياة القرون الوسطى بفقرها وتخلفها، وبين مجموعة من المتنورين الذين يرون بالغرب الأوربي النموذج الفكري والسياسي وكذلك طريقة الحكم، يريدون تمثل هذا الغرب، إنه نموذجهم: الفكر الليبرالي وضرورة وجود دستور وقانون يحكم البلاد، وكذلك مجلس تشريعي منتخب يعبر عن رأي الناس في كل امور الحياة. وهذا يعني تحجيم سلطة السلطنة والسلطان، ومشاركته بالحكم على أقل تقدير. شكلوا لأجل ذلك تجمعا سياسيا لهم اسموه الاتحاد والترقي، كذلك تركيا الفتاة، كان لأغلب هؤلاء المتنورين ارتباط مباشر مع الدول الاوربية خاصة انكلترا وفرنسا وروسيا، وكان البعض يتلقى اموال لدعم حراك هؤلاء داخل السلطنة، لذلك قوي حضورهم، مما دفع السلطان عبد العزيز عم السلطان عبد الحميد لقبول المشروطية (الدستور) وتشكيل مجلس المبعوثان (المجلس النيابي)، كان كل ذلك قد تفاعل وتأجج في أوساط قادة الجيش وكثير من الباشوات الذين تشربوا هذا الفكر وقرروا تعميمه، لم تستطع سلطة السلطنة أن تمنع هذا من الحصول، قاومت قدر المستطاع. وهكذا أصبحت العاصمة اسطنبول مركز صراع على النفوذ، فالسلطنة تحاول استيعاب المتغيرات مع الحفاظ على امتيازاتها وسلطتها، و جماعة الاتحاد والترقي، تعمل لتأخذ الكثير من الامتيازات وتنفيذ ما تراه صحيحا. اختلفوا مع السلطان عبد العزيز، واستطاعوا أن يخلعوه من الحكم، وبعد فترة قتلوه، واشيع انه انتحر، ووضع مراد سلطانا بديلا عنه، ولكن لم يقبل السلطنة، كان مجنونا، وبذلك أصبح عبد الحميد سلطانا وسط هذه الأجواء التي كان يدركها كلها.

ثالثا: السلطان عبد الحميد في الحكم.

منذ اللحظة الاولى التي استلم بها عبد الحميد الحكم، عرف أنه جاء في زمان لا يحسد عليه. حيث الغرب المتفوق على العثمانيين في كل المجالات، وكذلك تغلغل هذا الغرب داخل السلطنة عبر كثير من المسؤولين فيها، ضمن خلط متعمد بين كونهم يناضلون من أجل تنفيذ الإصلاحات التي يتطلبها الانتقال الى دولة يحكمها الدستور والقانون والمجلس النيابي، وبين الولاء للغرب الذي يتعامل مع السلطنة بكونها امبراطورية يجب انهاءها وتقاسمها فيما بينهم، اضافة للنزعة المصلحية الذاتية لكل فرد منهم. وهكذا تختلط افعال هؤلاء المصلحين بين خدمة قضية عظيمة وخيانة أمة ودولة. ضمن هذه المعادلة تم إقصاء السلطان عبد العزيز من قبل ناظر حربيته (وزير الحربية) انتقاما منه على عزله سابقا من قبل السلطان، ومن ثم خلعه عن العرش وقتله، والقول بأنه انتحر، ومجيء السلطان مراد بعده وكان مجنونا ولم يستلم الحكم ابدا. لذلك وصلت السلطنة لعبد الحميد الثاني، الذي كان يفهم واقع السلطنة العثمانية بكل مشاكلها وعيوبها، وواقع الصراع بين الإصلاحيين والسلطنة كحكام وطريقة حكم، والهجوم الغربي على السلطنة لإسقاطها وتقاسمها. لقد أدرك عبد الحميد أنه جاء في وقت صعب، وأراد ان يعوض الكثير من النقص، فقد تقبل تقاسم السلطة مع تنفيذ المشروطية والمجلس التشريعي والحكومة التي تنتج عنه، عمل بكل طاقته ليبني جيلا عثمانيا متعلما، كان يدرك أن العلم هو الوسيلة الأهم لحماية السلطنة وتطويرها. عمد الى اللعب دوليا بين الاطراف الرأسمالية الصاعدة، فقد تحالف وتصادم مع كل تلك الدول حسب مصلحة السلطنة، بحيث يمنعها من الحرب ذات التكاليف الهائلة، في حال الهزيمة او النصر، حارب الروس وانهزم أمامهم في مرحلة، و هادنهم في مراحل، وكذلك هادن الانكليز والالمان، حارب اليونان وخسر بعض الجزر، حارب في البوسنة والهرسك، كان حريصا على سلطنته التي تمتد من أوروبا إلى آسيا الى إفريقيا. تقبل أخذ الإنكليز لمصر، كان وصول محمد علي حاكم مصر فاتحا الى تخوم اسطنبول مؤشرا قاسيا على الازمة التي تعاني منها السلطنة. وأن الغرب هو من ردع محمد علي وليس القوة الذاتية للسلطنة. كانت الطبقة العسكرية والسياسية المحيطة بعبد الحميد اقل نضجا بالمعنى الاستراتيجي من عبد الحميد نفسه. كانوا ينظرون لمصالحهم الضيقة او لرؤياهم الاصلاحية، ولم يدركوا انهم كانوا مطيّة خطط الغرب للقضاء على السلطنة وتقاسم ولاياتها. كان الكثير مخدوعين بالغرب او مخترقين من قبله، مشترين بالمال، البعض منهم جواسيس، والبعض يعتبر نفسه يخدم قضية الإصلاح، وبالنتيجة كلهم كانوا أدوات لتهديم السلطنة والدولة من الداخل، لقد وصل الاختراق الى أجهزة الدولة الحساسة، مثل الصدر الأعظم والوزراء وقواد الجيوش. وكان عبد الحميد يتحمل ذلك ويعدل سياساته كل الوقت ليحمي السلطنة والسلطة والحكم. حاسب من تأكد من خطئه او خيانته، أسس نظاما استخباريا، يوفر له المعلومات الصحيحة ليصل الى التصرف السليم، ادرك شراهة الغرب الى ولاياته وخاصة التي يحتمل وجود النفط بها،  كما حاول الانكليز والالمان مع عبد الحميد تحت دعوى مساعدة الناس هناك على حفر آبار الماء، ليكشف انهم يبحثون عن النفط. كان عبد الحميد حريصا على انتداب ولاة مقتدرين الى الولايات، ولكن واقع الأجواء الدولية المحيطة تنذر بصراع دولي كبير قادم.  فالروس الإنكليز والالمان والفرنسيين، كلهم متلهفين للتوسع في أطراف الدنيا، يملكون السلاح والتقدم العلمي والتكنلوجي والصناعي لخلق مستعمرات لهم حول العالم، كانت السلطنة العثمانية بامتدادها مثيرة لشهية الغرب، حاول عبد الحميد جرهم للصراع البيني بين بعضهم مؤجلا مصير سلطنته العثمانية من السقوط. لقد كانت آخر إمبراطورية قائمة على الدين كمبرر ومشروعية في العصر الحديث، كانت متخلفة علميا وعسكريا وتكنولوجيا مما جعل الغرب قادر على أن يهزمها في كثير من المواقع، كان الخلاف الداخلي بين الإصلاحيين: تركيا الفتاة والاتحاد والترقي مع السلطة ممثلة بالسلطنة، جعل الدولة ضعيفة وقابلة للسقوط. استطاع عبد الحميد عبر ثلاثين عاما من الحكم أن يؤجل هذا السقوط وليس أن يمنعه، للأسباب التي ذكرناها.

رابعا: خلع عبد الحميد من الحكم:

كانت للهجمة الغربية على السلطنة وعلى شخص عبد الحميد الذي أعتبر حجر عثرة أمام اسقاط السلطنة وتقاسمها، كان الإصلاحيين بنوعيهم المخلصين لمبدأ المشروطية (الدستور والبرلمان) أو الذين يجسدون مصلحة الغرب في السلطنة العثمانية، قد وصلوا الى اعلى المراكز في الجيش ووسائل الإعلام وعلاقاتهم قوية مع الدول الأوربية حيث تم دعمهم بالمال وبعض العصابات المسلحة من الارمن وغيرهم، كما تم تحريك بعض الجيوش في السلطنة نفسها لإسقاط عبد الحميد تحت حجج واهية. والحقيقة هي انهاء حكمه وترك السلطنة نهبا للغرب وأزلامه. نُصب رشاد سلطانا جديدا بدل عبد الحميد، وعزل عبد الحميد عن الدنيا، وبدأت حملة تشويه له ولفترة حكمه وتحميله كل اعمال سيئة سواء كان له علاقة بذلك أو لا. كانوا سيئين معه الى درجة اجباره على تخليه عن ماله الخاص الذي كان سندا له ولعائلته. راقب عبد الحميد الحكم الجديد لجماعة الاتحاد والترقي، وكيف جعل السلطان رشاد العوبة بيدهم، وكيف كانت السلطنة العوبة بيد الدول الغربية، وكيف وقعت السلطنة في خطأ التورط بالحرب العالمية الأولى التي أدت عمليا إلى إنهاء الخلافة العثمانية وامتدادها، واقتصارها على ان تبقى دولة بحدود الأناضول، دافع بعض الجيش العثماني عنها، لقد انتصر الجيش العثماني على الدول الغربية في معركة سنة قلعة، حيث هزمت الدول الغربية وفرضت مفاوضات ادت لتشكل الدولة التركية الحالية، كان بطل شنا قلعة الضابط مصطفى كمال وهو من سيؤسس الدولة التركية الحديثة. كان عبد الحميد يراقب ما يحصل من القصر الذي يسكن به معزولا و مبعدا، وقد وجد ان السلطنة قد ذهبت إلى غير رجعة، وانها اصبحت في ذمة التاريخ وانه تجرع مرارة ذلك. لكن ما حصل حصل ولا يستطيع ان يفعل اي شيء ليغيره.

خامسا: ما بعد عصر عبد الحميد:

كان لدخول السلطنة العثمانية مع الألمان بتحالف ضد الانكليز والفرنسيين في الحرب العالمية الأولى وهزيمتهم، الاثر الاهم بخسارة امتداد السلطنة العثمانية كلها، لقد اصبحت غنيمة للدول المنتصرة، الفرنسيين والانكليز وغيرهم من الاوربيين في كل امتداد السلطنة العثمانية في آسيا وافريقيا. سوريا والعراق ومصر والجزائر وتونس وليبيا… الخ، كلها أصبحت مستعمرات وغنيمة حرب، ولولا صمود بعض الجيش العثماني لسقطت الأناضول نفسها واسطنبول بيد الدول الغربية، استطاع مصطفى كمال أن يحافظ على هذه البقعة من الخلافة، تركيا الحالية، ويبني دولة حديثة، كان همه الأول أن تكون دولة على النمط الغربي في كل شيء لعلها تلحق في ركب التقدم والنهوض وبناء الحياة الأفضل لشعبها.

لقد كانت هزيمة السلطنة ومن ثم تحول اغلب ولاياتها الى مستعمرات اوربية، تؤكد حقيقة العصر الرأسمالي الجديد، تمدد مصالح الدول القومية لصناعة مستعمرات، بعضها عمّر لقرون والبعض لعقود، لكنها أسست لعصر القومية وتمدد الرأسمالية في العالم، سواء بطريقة الاستعمار المباشر، كما حصل، او غير المباشر عبر خلق السلطات التابعة للدول المستعمرة المحافظة على مصالح تلك الدول، وهذا ما حصل في أغلب الدول العربية المستقلة لاحقا. لقد انتهى عصر الامبراطوريات القائمة على الدين او المعتقد، كما سيحصل مع الشيوعية التي ستلد على أنقاض الحرب العالمية الأولى في روسيا ١٩١٧م وتتوسع في دول كثيرة صانعة الاتحاد السوفييتي، ثم لتسقط هذه الامبراطورية مجددا عام ١٩٩٠م، وعودة دولها لواقعها السابق في انتصار ساحق ويمكن مؤبد للرأسمالية وحضورها في العالم.

أخيرا:

المهم أن ندرك دروس مذكرات السلطان عبد الحميد الذي كتبها بعد خلعه من السلطنة في عام ١٩١٧م، وقبل سقوط الخلافة العثمانية بسنوات، وأثناء تشكل معالم النظام العالمي الجديد، ان نؤكد على أن الدول تقوم بالعلم والصناعة والتكنولوجيا، وخلق اجيال للقيام بادوارها في بناء مجتمعاتها، وأن الدول يجب أن تمثل مصالح شعوبها، من حرية وعدالة وديمقراطية، وان ذلك يعني إدراك هذه الدول لوجودها في العصر وأولويات هذا الوجود وماذا عليها أن تفعل وكيف تصنع مستقبلها الافضل. وليس أن تكون سلطات مستبدة تستعبد شعوبها كما حصل في أغلب الدول العربية حديثة الولادة، ولا تكون مجرد أدوات بيد القوى العظمى ووكلاء لمصالحها على حساب شعوبها، للحفاظ على مصالحها وسلطاتها، ولو كانت مستغلة وظالمة ومستعبدة وقاتلة لشعبها، كما هو حاصل الآن عند أغلب دولنا العربية… للأسف.

إدراك ما نحن عليه وكيف وصلنا اليه، هو مقدمة لإدراك طريق تجاوز ما نحن عليه، وبناء حياة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل …من هنا نبدأ.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى