ليس هذا الاسم لملك أسباني، ولا لأمير قشتالي، ولا لمحارب قديم، إنه اسم عالم الآثار الإسلامية، وأستاذها في جامعة مدريد.
كانت هذه زيارته الثانية إلى مدينة حلب، فلقد زارها قبل عام مع بعثة آثارية أسبانية متخصصة بترميم الآثار الإسلامية، وذلك بتخصصات ضيقة: كالأخشاب والأحجار والفسيفساء والزجاج.
جاء “فرناندو بالدس” إلى حلب هذه المرة ومعه زوجته التي تتقن العربية وتتحدثها بطلاقة، وقد درستها كما قالت لي في مدريد وتدربت على الحديث بها خلال الأسفار الطويلة. جاء “فرناندو” إلى حلب مشاركاً في بحوث الندوة العلمية الدولية حول “ابن حزم الأندلسي”،والتي اقيمت عام 2002 على مدرج معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب . وذلك ببالتعاون بين جمعية العاديات وجامعة حلب ومعهد ثربانتس الاسباني . وقد وصل بالطائرة من مدريد إلى حلب، بعد منتصف الليل، وقال: إن مدينة حلب أعجبته وهي نائمة كما أعجبته وهي حية يدب فيها نشاط النهار.
* * * * *
قدم “فرناندو” خلال الندوة بحثاً عنوانه: (قرطبة ابن حزم: قراءة أثرية لطوق الحمامة)، والبحث طريف جداً وغني جداً بمعلوماته، فلقد أحصى الباحث المواقع التي ورد ذكرها في كتاب (طوق الحمامة) “لابن حزم”، وهذه المواقع كثيرة جداً، فقرطبة “ابن حزم” كانت قد بلغت أوج عظمتها واتساعها وفخامتها أيام “ابن حزم”، خلال النصف الأول من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. فكان فيها الجامع العظيم الذي لم يعرف له العالم الإسلامي مثيلاً بأعمدته الرخامية التي تزيد على ألف عمود، وكان فيها قصور (الزهراء) التي بناها “عبد الرحمن الناصر” وابنه “الحكم”، وكان فيها قصور (الزاهرة) التي بناها “المنصور بن أبي عامر”، وكان فيها قصر الخلافة أو (منية الناعورة)، وأسواق قرطبة، وبرج الشرقية، ومئات الحمامات، والقناطر، والأسوار، والدور الباذخة، والمساجد.
ويروي “ابن عذاري المراكشي” أن هذه المساجد بلغ عددها 3 آلاف مسجد بين كبير وصغير في ذروة عصر الخلافة في القرن الرابع للهجرة.
وتوسع السور المحيط بالمدينة، فبعد أن كانت المدينة الداخلية يحيط بها سور طوله 4 كليومترات، أصبح السور يزيد على 16 كم بعد اتساع المدينة، وفيه أكثر من عشرة أبواب من أهمها: الباب الجديد، باب الفرج، باب عبد الجبار، باب القنطرة، باب الجزيرة، باب طليطلة، باب اشبيلية، باب طلبيرة.. الخ.
* * * * *
قدم لنا “فرناندو” خلال محاضرته مصوراً رسم فيه مدينة قرطبة في عصر “ابن حزم”، ومن خلال بحث في كتاب (طوق الحمامة) عن الأماكن المذكورة في هذا الكتاب، ومطابقة ما بقي منها على أرض الواقع حتى اليوم. ومن المعلوم أن الأستاذ “فرناندو” هو أستاذ الآثار الإسلامية وقام بعدة تنقيبات في قرطبة وسواها، وقد سبقه منقبون آخرون علماء وموضوعيون من أبرزهم “فيلاسكث بوسكو” و”فيلث هرناندث ” وآخرون كثيرون وصولاً إلى “فرناندو بالدس”.
وقد حاول “فرناندو” إرشادنا عبر الصورة التي عرضها إلى بعض بقايا آثار قرطبة “ابن حزم” قبل ألف سنة من الآن، ففي قرطبة اليوم الجامع الكبير وقنطرة الوادي الكبير وبقايا السور، وأطلال الزهراء، وبقايا مآذن تستخدم اليوم أبراج كنائس ولكن مدينة الزاهرة لم يتم العثور عليها حتى الآن كما أوضح السيد “فرناندو بالدس”.
أشار السيد “فرناندو” إلى أنه تم العثور على مقبرة قرطبة خلال عصر “ابن حزم”، ويجري التنقيب هناك بصعوبة نظراً لأن المنطقة مأهولة بالسكان، ولكن أهم ما تحدث عنه فرناندو هو اكتشافه مدينة إسلامية قرب الحدود البرتغالية الحالية وقد تم العثور على أطلال هذه المدينة خلال هدم ثكنة عسكرية بقصد بناء ثكنة جديدة مكانها.
ورغم اعتراض بعض بقايا المتعصبين الضيقي الأفق، فإن عمليات التنقيب تجري بشكل جيد للكشف عن بقايا تلك المدينة التي يزيد عمرها عن ألف عام.
* * * * *
قدم “فرناندو” مداخلة فائقة الأهمية خلال محاضرة الدكتور علي دياب حول موقف المستشرقين من “ابن حزم”، ومن المعلوم أن الاستشراق الأسباني فيه مدارس شتى: منها الموضوعية، ومنها الحاقدة، ومنها المتعاطفة مع العرب ومنها المتحيزة ضدهم.
ودار الجدل حول الأصل العرقي “لابن حزم”: فمن قائل أن جده الأعلى فارسي دخل الأندلس مع جيوش الفتح، وأكثر النسابين على ذلك بمن فيهم “ابن حزم” نفسه في كتابه (جمهرة أنساب العرب)، ومنهم من يقول إن أصل أسرته مسيحية وقد اعتنق أحد أجداده الإسلام فهو بالتالي من أصل أسباني وحسماً لهذا الجدل وقف الأستاذ “فرناندو” فقال:
1- إن ابن حزم عربي اللغة والثقافة.
2- إن ابن حزم ذو ثقافة إسلامية متمكنة.
3- إن المجتمع الأندلسي كان يضم أشتاتاً من الشعوب والقبائل انصهرت تماماً في الإطار الحضاري للثقافة العربية وللحضارة الإسلامية الواسعة التي استوعبت كل الحضارات الأخرى ولم تناصبها العداء.
4- لهذا كله فإن “ابن حزم” عربي مسلم بكل المقاييس الحضارية والثقافية واللغوية. وفي عصره لم تكن كلمة أسبانيا معروفة أصلاً، فمن اللغو إطلاق تسمية أسباني عليه.
والشعوب يقاس انتماؤها بثقافتها ووحدة مطامحها، وليس بما يجري من دماء في عروقها.
* * * * *
صفّق الجميع لفرناندو الإنسان المثقف.. فلقد حسمت مداخلته كل الجدل حول “ابن حزم” وأصوله وانتمائه وثقافته.
المصدر: موقع جمعية العاديات