“تأزم الأوضاع يتزامن مع ما يشهده العالم من تحولات جيوسياسية في السياسة الدولية” .
أحداث الشرق الأوسط تنعكس على الحالة السياسية في أوروبا عامة وفرنسا خاصة وهذا الأمر ليس مستجداً نظراً لموقع فرنسا وعلاقاتها التاريخية مع المنطقة، ولما كان يعرف أيضاً بسياسة فرنسا العربية التي ولدت التجاذبات على الساحة السياسية الفرنسية، وردود الفعل على تصريحات السياسيين حول ما يصنف في خانة الإرهاب من جهة وما تعتبره الجهة المقابلة “مقاومة” إلى ما تعرض له ليونيل جوسبان، رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق، في الأراضي الفلسطينية في جامعة بير زيت في فبراير (شباط) عام 2000، ورشقه بالحجارة من قبل الطلاب لوصفه أعمال “حزب الله” بالإرهابية.
وفي إسرائيل أيضاً ردود الفعل على مواقف فرنسا كانت لا تتأخر حيث كانت الصحافة تعتبر الرئيس السابق جاك شيراك مؤيداً للعرب في العديد من مواقفه، والمشادة الحامية مع عناصر الأمن الإسرائيلي خلال زيارته إلى القدس في 1996 حادثة تكررت مع الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته كنيسة سانت آن في 2020.
السيناريو يتكرر اليوم على وقع الأحداث التي انطلقت بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة “حماس” على إسرائيل، حيث باغت عناصرها الجنود الإسرائيليين في 50 موقعاً عسكرياً في غلاف غزة، والتي أوقعت أكثر من 1300 قتيل والعديد من الجرحى إضافة إلى احتجاز أكثر من 200 رهينة، بحسب الجيش الإسرائيلي.
واليوم الوضع المتأزم في المنطقة ينعكس على الحياة السياسية في فرنسا وأوروبا، أساسها وصف على عملية “حماس” بـ “الإرهابية”، لدرجة يبدو فيها مصير التحالف اليساري الجديد “نوبس” في فرنسا في مهب الريح (تحالف يضم أحزاب اليسار من اشتراكيين وشيوعيين وحزب الخضر، وأقصى اليسار “فرنسا الأبية”).
ووجهت الاتهامات إلى جان لوك ميلانشون لرفضه وصف ما قامت به “حماس” بـ”العمل الإرهابي”، هذا الرفض تمسك به معظم نواب “فرنسا الأبية”، والتساؤل يدور حول مستقبل التحالف، حيث التجاذبات على أشدها بعد اختيار الحزب الاشتراكي تعليق مشاركته، في حين كان دعا الحزب الشيوعي إلى طي الصفحة والبحث عن صيغة عمل أخرى بين أحزاب اليسار، كل ذلك على خلفية رفض “فرنسا الأبية” وصف عملية “حماس” في غلاف غزة بعملية “إرهابية”.
بدورهما، يواجه اليسار في إسبانيا وبلجيكا الحالة المشابهة والانقسام حول الموقف من “حماس”.
وفي السياق نفسه تندرج حادثة الطعن التي طالت المدرس دومينيك برنار، في مدينة أراس بشمال فرنسا، عشية إحياء الذكرى الثالثة لحادثة ذبح أستاذ التاريخ صامويل باتي.
يأتي هذا الجدل المحتدم على وقع إنذارات وإخلاء أماكن عامة متعددة طالت متحف اللوفر وقصر فرساي والمدارس والثانويات، ويتزامن مع قرب طرح مشروع قانون جديد حول الهجرة، قانون تم تأجيله مرات عدة بسبب الجدل حول قانون التقاعد، ومن المتوقع أن يطرح للنقاش على مجلس الشيوخ في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، قبل أن يطرح للنقاش أمام البرلمان بداية عام 2024. المشروع الذي طرحه وزير الداخلية جيرالد دارمانان، يشدد التدابير حول الهجرة غير الشرعية وطلب اللجوء.
تهديد السلم الأهلي
وتشتد الأجواء المحقونة التي تعيشها فرنسا حدة بشكل متواز مع ما تشهده الساحة في غزة.
ويحاول ماكرون إدارة الأمور، بعد منع المظاهرات المؤيدة لغزة، وحاول تفسير الموقف بعد جنازة المدرس دومينيك برنار حيث اعتبر أن “الوضع في الشرق الأوسط قد يشكل عامل انقسام في حال سوء إدارة الوضع في فرنسا”.
المناخ متوتر
وحول ذلك يشير الباحث في العلاقات الدولية باسكال دروهو، “إن عملية الـ 7 من أكتوبر شكلت منعطفاً في أوروبا، حالة من التحول في الوعي وإدراك حالة مستجدة، وعي بالخطر المباشر إثر هجوم بروكسل، الذي أودى بحياة مواطنين سويديين، وكذلك الإنذارات التي طالت مطارات فرنسا والمتاحف، وإخلاء متحف اللوفر وقصر فرساي”.
واعتبر أن “الرأي العام بات لديه تصور جديد لهذا التحول على صعيد الواقع الدولي. كوننا نرى عبر وسائل الإعلام ترددات الصدمة على الصعيد العالمي تتجلى بمظاهرات في كل مكان بعواصم العالم”.
تجدر الإشارة إلى أن التساؤلات لم تعد تتعلق فقط بالمسألة الأمنية في أوروبا، بل تطال التركيبة الاجتماعية. “هناك بالطبع حالة من عدم الرضى والتساؤل حول لحمة المجتمعات والوحدة الوطنية، وفي هذا السياق في فرنسا وبلجيكا، والسويد (البلد الذي يشهد أكبر عدد من عمليات القتل في أوروبا سنوياً) هناك تساؤلات بشأن تحول المجتمع إلى كانتونات (مجموعات أثنية)، بالطبع هذا يولد حالة من التوتر المتواصل في هذه البلدان، خاصة في فرنسا التي عانت من الهجمات المتكررة في السنوات الأخيرة منذ نوفمبر 2015، شارلي إيبدو في يناير (كانون الثاني) عام 2015 واعتداء نيس في يوليو (تموز) عام 2016 بالإضافة إلى عمليات قتل الكهنة، ما يولد جدلاً داخلياً يؤجج الشعور بالخطر المباشر وخطر الاعتداءات” بحسب دروهو، وبرأيه أن “فرنسا لم تصل بعد إلى الجدل السياسي حول تشكل المجموعات بمعنى كانتونات، مكان الإسلام في المجتمع الفرنسي والأوروبي، المسألة مطروحة في عدد من الدول الأوروبية لكننا سنصل إلى ذلك”.
كيف يمكن التعامل مع هذه الحال؟
من جهته يرى ألكسندر فوترافيرس، كولونيل في هيئة الأركان السويسرية ومدير تحرير المجلة الحربية السويسرية، أن “تأزم الأوضاع في الشرق الأوسط يتزامن مع ما شهدناه من تحولات جيوسياسية في السياسة الدولية”.
ويعلق على عملية “طوفان الأقصى” بالقول: “العملية كانت عنيفة وعلى نطاق واسع، والجرائم التي ارتكبت صدمت الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، وهذا بالطبع اعتداء إرهابي، والتساؤل كان كيف استطاعت مجموعة صغيرة تعمل بأدوات منخفضة الكلفة من التمكن من عدو مجهز وقوي طالته في نقطة ضعفه الأهم”.
وأضاف، ردود الفعل التي نتجت عن الهجوم كانت حسب المتوقع “الاشمئزاز والانتقام بالنسبة للإسرائيليين، الشفقة من قبل الغرب واضطرابات داخلية، انشقاق وانقسامات بين صفوف الأقليات، ومعارضة واحتجاج في الغرب ضد الحكومات والمسؤولين. لكن عنف وقبح الجرائم والمذابح ترغم كل حكومة وكل شخص على انفراد، بأن يتموقع ويختار خانته”.
ويتابع بالقول “إذاً الانقسام الذي طال اليسار هو نتيجة بديهية للتوجه الأيديولوجي، اليسار ضد النظام أصيب بانقسام في فرنسا، تارة لرفضه التقليدي للحرب والعنف بسبب روح التضامن التي ينادي بها. من جهة أخرى كشفت العناصر الهوياتية والموالية لما كان يعرف بالعالم الثالث والمعادي للغرب والمنتفض، عن رفضها لبلدانها ولأنظمتها وقيمها وهذا ليس بمفاجئ”، ومن باب المقارنة يذكر بما حصل قبل ما يزيد عن عام، حين اختلف أقصى اليسار الألماني حول مسألة مساندة ألمانيا لأوكرانيا إثر الهجوم الروسي.
حيال هذه الأحداث المأساوية، وعمليات القتل برز ضعف أوروبا وعدم قدرة أجهزة الاستخبارات على استباق كل شيء، فبرأي فوترافيرس، فإن أجهزة الاستخبارات الوطنية هي بمثابة الآذان للقادة. كما تجدر الإشارة إلى ما حصل قبل 50 عاماً، حيث تلقت عدة أجهزة مخابرات معلومات عن تحضيرات لهجوم وتولى بعضهم إعلام الحكومة الإسرائيلية بذلك، لكنها لم تقم بأية ردة فعل.
والعبرة من ذلك أن مشكلة الاستخبارات نادراً ما تنجم عن قلة المعلومات، بل غالباً لا يتم التجاوب معها من قبل القادة أصحاب القرار لعدة أسباب.
ويشير إلى ما يميز بين نشاطات الاستخبارات الخارجية، التي تتوقع أعمالاً في الخارج، وبين الاستخبارات الداخلية التي غالباً ما تكون نشاطاتها وأهدافها أكثر بوليسية بشكل عام، ويرى أن تراكم الأزمات الجيوبوليتيكية والديموغرافية والمناخية والهجرات والنزاعات المسلحة، تؤدي حتماً إلى مراقبة دقيقة وحازمة للحدود في أوروبا، كما في أماكن أخرى حول العالم.
صعوبة توقع الأحداث
ومقارنة مع عالم الأمس في ظل القطبية الثنائية كانت نسبة الخطر متواجدة على الدوام لكن توقع الأحداث كان أسهل. إذ كان من الممكن توقع الأحداث لأن التحالفات كانت ثابتة والفاعلين محددين. ولم يكن بالإمكان الانتقال من معسكر إلى معسكر آخر وفي حال حصول ذلك كان يؤدي بشكل مباشر إلى أعمال عسكرية، والدليل على ذلك أحداث بودابست في 1956 وبراغ في ربيع 1968 والحروب الأهلية في ما بعد في أميركا اللاتينية.
ولكن اليوم العالم بات غير مستقر بسبب عدم استقرار بعض الدول على الصعيد السياسي (تغير الأحزاب أو الحكومات) وأيضاً على الصعيد الاقتصادي، بسبب الأزمات والديون، انعكس ذلك على سياسة التحالفات، التي باتت تعتمد مبدأ الأبعاد المتغيرة، التي تتشكل وتنحل بسرعة، ولم يعد الاستثمار والتطور على المدى الطويل هو الخط المتبع، إذ تم التخلي عنه لصالح الكسب السريع على المدى القصير، في السياسات الاجتماعية الاقتصادية. وبات من الصعب التنبؤ والاستباق بمستقبل العلاقات الدولية.
ويرى فوترافيرس، أنه في المقابل يمكن التنبه والاهتمام ببعض المتغيرات والمؤشرات الاستراتيجية التي ستترك بصماتها في العقود المقبلة والتي يمكن تعدادها كالآتي:
أولاً: إعادة التمركز، لأن تراجع مكانة روسيا على إثر النزاع في أوكرانيا قد يغير بشكل هام من دينامية العلاقات بين الدول والترابط الاجتماعي في أوروبا.
ثانياً: كبح جماح العولمة والمبادلات الدولية، وإمكانية إعادة تنظيمها وتشكيلها في ظل تعاظم دور الصين، وكل ذلك سيلقي بوزنه على سياسة إعادة التصنيع في الغرب، ما قد ينبئ بعودة سياسات الحماية والسياسات المركنتيلية (سياسة اقتصادية صممت لزيادة الصادرات وتخفيض الواردات لتحقيق الفائض في الميزان التجاري).
وأضاف “وأخيراً التقارب بين بعض دول الشرق الأوسط من شأنه أن يخلق جواً من الاستقرار والسلام والتطور، لكن اعتداءات (حماس) والوضع الصعب الذي يمنع الفلسطينيين والإسرائيليين من تحديد مصيرهم أو المضي في طريق السلام يبعدنا للأسف عن آفاق مسقبلية سعيدة”.
ما دور إيران؟
من جهته يرى المتخصص بالعلاقات الدولية، برتران بادي، أن كل ما نسمعه في ما يتعلق بدور إيران في عملية “طوفان الأقصى”، لا يمكن أخذه بعين الاعتبار “لعدم توفر معلومات دقيقة حول هذه المسألة”. ويضيف “أنه من الساذج الاعتقاد بانخراط دول في مثل هذه العمليات”، مشيراً إلى أن “كل ما تحاول فعله إيران هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، بمعنى أنها تحاول إدارة النتائج أكثر من تحديد العوامل وهذا يدخل في إطار المحاولات لشرح أن هذا الهجوم كان خلفه استراتيجية وليس قضية تتعلق برفض المتواصل لحقوق الشعب الفلسطيني لذا يجب البقاء على حذر حيال تلك المقولات”.
ويرى بادي أنه يجب الابتعاد عن مقاربة العلاقات الدولية من زاوية المؤامرة، كون “الواقع السوسيولوجي لهذه المسألة أكثر عمقاً”.
ويعتبر أن “التوصل حل الدولتين هو الحل الوحيد لهذه القضية، إذ ليس هناك حل عسكري، ولا أرى سوى الحل السياسي، وللتوصل إلى حل الدولتين فذلك يتطلب تغييراً في السياسة الإسرائيلية فالقوى السياسية في تل أبيب التي تقبل بصدق بحل الدولتين نادرة، كما أن الحل يتطلب من الجهة الأخرى تجاوز الانقسامات الفلسطينية، ونحن بعيدون كل البعد عن ذلك، كما يتعين على المجتمع الدولي بأن يتمتع بالقدرة على فرض الحل وهو لا يملكه حالياً”.
المصدر: اندبندنت عربية