إغراء المال.. المغمَّس بالدماء

ألكسندر مُلر

مبيعات الأسلحة إلى البلدان المشارِكة في النزاع اليمني متواصلة على قدم وساق، على الرغم من الانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان وشروط نقل الأسلحة.

فيما تصبّ البلدان في مختلف أنحاء العالم جهودها على الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، لم تهدأ طبول الحرب من شمال أفريقيا إلى الخليج. ولكن الوضع في اليمن هو الأسوأ على الإطلاق، نظراً إلى أن القوى المحلية والخارجية المنخرطة بالنزاع مدجّجة بالأسلحة المتطورة.

في آذار/مارس 2015، قادت السعودية تحالفاً عسكرياً لإطلاق عملية عاصفة الحزم التي شُنَّت خلالها سلسلة من الهجمات الجوية ضد تنظيم أنصار الله المعروف بالتيار الحوثي، والذي تحالف مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، عدو السعوديين القديم، من أجل السيطرة على العاصمة صنعاء. وقد عانى اليمنيون، في السنوات الخمس الماضية، من تداعيات الحرب التي تُخاض على أرضهم بالوكالة. فقد لقي عشرات الآلاف من المدنيين مصرعهم، وتسبب النزاع بنزوح الملايين، فضلاً عن انتشار المجاعة والدمار الواسع الذي لحق بالبلاد. كان لإيران ودول الخليج حصة الأسد في ذلك، لكن الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية ليست بمنأى عن الملامة.

يُعتبَر اليمن البلد الثاني الأكثر تسلّحاً في العالم بعد الولايات المتحدة. وليست تجارة الأسلحة أمراً جديداً فيه. فقبل فترة طويلة من إطلاق عملية عاصفة الحزم، وحتى قبل اندلاع الانتفاضة التي أفضت إلى استقالة صالح في العام 2011، كان اليمن معقلاً لتهريب الأسلحة. أما الجديد اليوم فهو أنواع السلاح المتوافر في وكمياته. وتنتشر أسواق السلاح في طول البلاد وعرضها، بدءاً من صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين ووصولاً إلى العاصمة المؤقتة عدن، في منطقة تقع راهناً تحت سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات العربية المتحدة.

تقتضي الاتفاقيات الدولية لنقل الأسلحة عادةً إصدار شهادات المستخدم النهائي الملزمة لضمان أن الشاري هو المستخدم الوحيد للأسلحة والعتاد المشتراة، مع الامتناع منعاً باتاً عن نقلها إلى طرف ثالث. وفي هذا الصدد، وُجّهت مراراً وتكراراً إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة تهمة انتهاك شهادات المستخدم النهائي عبر إرسال العتاد، بما في ذلك المعدات العسكرية الأميركية والأوروبية، إلى كلٍّ من المجموعات المنضوية ضمن تحالفهما العسكري، وإلى القوات التابعة للرئيس عبد ربه منصور هادي، وبصورة خاصة إلى قوات المقاومة الوطنية التي تتألف من مجموعات مسلّحة تقاتل بالوكالة، مثل ألوية العمالقة وكتائب أبو العباس، والأخيرة هي ميليشيا سلفية مرتبطة بتنظيم القاعدة. اللافت هو أن السعودية والإمارات قد حذتا، في تشرين الأول/أكتوبر 2017، حذو الولايات المتحدة في تصنيف كتائب أبو العباس في خانة التنظيمات الإرهابية. لكن الناطق الإعلامي باسم كتائب أبو العباس، رضوان الحاشدي، أعلن أن هذا لم يؤثّر على علاقة التنظيم مع السعودية.

بثّت قناة “سي إن إن” في العام 2019 تقريراً مثيراً للصدمة، إذ عرضت مقاطع فيديو ظهرت فيها فصائل متناحرة في اليمن مسلّحةً بعتاد أميركي أُرسِل في الأصل إلى السعودية والإمارات. وفي العام 2018، كشفت شبكة دويتشه فيله الألمانية النقاب عن الانتشار الواسع للأسلحة الأوروبية في اليمن، والتي كانت مخصصة أصلاً للسعودية والإمارات. واشتملت هذه الأسلحة على قنابل يدوية سويسرية، وبنادق هجومية نمساوية، ورشاشات بلجيكية، وآليات مدرّعة أميركية، وآليات بريطانية لإزالة الألغام، إضافةً إلى رشاشات وبنادق وبنادق هجومية ألمانية. وقد عُثر على هذه الأسلحة بحوزة القاعدة وكتائب أبو العباس والحوثيين وحزب الإصلاح الذي تجمعه روابط بجماعة الإخوان المسلمين.

وقد ذكرت مصادر من داخل قوات المقاومة الوطنية أن العناصر غالباً مايعمدون إلى بيع أسلحتهم عندما يكونون بحاجة إلى النقود، لأنهم لايتقاضون رواتبهم في أحيان كثيرة. بيد أن التحالف العربي ينفي الاتهامات الموجّهة إليه بتزويد هذه المجموعات بأسلحة أميركية وأوروبية، إذ صرّح المتحدث باسم التحالف، العقيد الركن تركي المالكي، في مؤتمر صحافي في العام 2018، أن هذه المعلومات “لاتستند إلى أي أدلة”.

يرِدُ على الموقع الإلكتروني الرسمي للاتحاد الأوروبي أن “سياسته الخارجية والأمنية تتوخّى الحفاظ على السلم” و”ترقية… احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وترسيخها”. حتى إن الموقف المشترك للعام 2008، أي سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن مبيعات الأسلحة، يعهد إلى الدول الأعضاء مهمة التأكد من أن البلدان التي تُرسَل إليها الأسلحة تحترم حقوق الإنسان الدولية والقانون الإنساني، الأمر الذي تجاهلته السعودية وحلفاؤها تجاهلاً سافراً في اليمن.

ومع ذلك، لم تتوقف مبيعات الأسلحة إلى دول الخليج. فعلى سبيل المثال، أورد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في تقريره السنوي الصادر في آذار/مارس الماضي، أن واردات الأسلحة السعودية ازدادت بنسبة 130 في المئة بين عامَي 2015 و2019. صحيحٌ أن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا أوقفت بيع الأسلحة إلى تركيا على خلفية ممارساتها في شمال سورية، لكنها لم تتّخذ خطوة مماثلة مع السعودية، ما أثار تساؤلات بشأن ازدواجية المعايير لدى الاتحاد الأوروبي. وفي آذار/مارس 2018، بدا أخيراً أن ألمانيا تعيد النظر في موقفها من خلال فرملة اتفاق تسلّح مع الرياض بقيمة 400 مليون يورو، بيد أنها عدلت عن قرارها في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، وكلن ذلك بعد أسابيع قليلة على مقتل الصحافي جمال خاشقجي.

وفي الولايات المتحدة، يسود أيضاً استياء واسع من عمليات نقل الأسلحة. فقد صرّح السيناتور كريس ميرفي، وهو كبير الديمقراطيين في اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية المعنية بشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا وآسيا الوسطى ومكافحة الإرهاب، أن “السعوديين ينتهكون قواعد النزاع منذ سنوات” من خلال استخدام قذائف أميركية الصنع “لإلقائها عمداً على المدنيين”.

وفي تموز/يوليو 2019، صوّت مجلس الشيوخ الأميركي ذات الأكثرية الجمهورية، في إطار مجهود مشترك بين الحزبَين، لصالح وقف صفقة بقيمة 8.1 مليارات دولار لبيع الأسلحة إلى السعودية والإمارات، عازياً خطوته هذه إلى المخاوف بشأن الانتهاكات السعودية والإماراتية لحقوق الإنسان، وممارسات الدولتَين في اليمن. بيد أن الرئيس دونالد ترامب نقض هذا الإجراء، ولم يتمكّن مجلس الشيوخ من بلوغ أكثرية الثلثين الضرورية لإسقاط الفيتو الرئاسي. وكان ترامب قد نقض أيضاً مشروع قانون سابقاً كان يهدف إلى إنهاء التدخل العسكري الأميركي في اليمن.

من سخرية الأقدار أن الأسلحة التي ترسلها الولايات المتحدة إلى حلفائها في الخليج قد تستخدم في نهاية المطاف ضد الأميركيين أنفسهم، نظراً إلى أن كمية كبيرة منها هي الآن في قبضة أعداء الولايات المتحدة. مع ذلك، تسعى إدارة ترامب إلى إبرام صفقات تسليح جديدة بمليارات الدولارات. ففي أيار/مايو 2020، كشف السيناتور روبرت مينينديز، العضو الديمقراطي البارز في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، أن وزارة الخارجية الأميركية كانت تعمل على بيع آلاف القنابل الموجّهة بدقة إلى السعودية. فهل يستأنف الكونغرس جهوده الآيلة إلى وقف مبيعات الأسلحة إلى بلدان الخليج في المستقبل؟ في هذه الحالة، من المِستبعد أن يتمكّن مجلسا النواب والشيوخ من حشد الدعم الكافي لدى أعضاء الحزبَين من لقطع الطريق أمام فيتو رئاسي جديد.

يعاني اليمن بأسره من تداعيات الحرب بالوكالة التي تدور رحاها في البلاد ولا توفّر أحداً. فقد أقدم التحالف الذي تقوده السعودية على قصف منشآت طبية تديرها منظمة أطباء بلا حدود خمس مرات منذ العام 2015، كما واصل استهداف المدنيين، حتى إنه قصف حافلة مدرسية في مدينة ضحيان في العام 2018، ما أسفر عن مقتل ما لايقل عن 29 طفلاً وإصابة ثلاثين آخرين بجروح. وفي حين يصرّ التحالف على نفي ضلوعه في قصف المدنيين، تواصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي غضّ الطرف عن ممارساته، على الرغم من أن الحرب في اليمن هي الكارثة الإنسانية الأخطر في العالم.

***

يشكّل هذا المقال جزءاً من مشروع أوسع يعمل عليه المؤلّف مع مؤسسة فريدريش إيبرت شتيفتونغ والمعهد العالمي للسياسة العامة.

 

المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى