في كل فاجعة في العراق وهن كثر، جديدها أخيرا حريق في أثناء عرس في قاعة الهيثم في قضاء الحمدانية التابع لمدينة الموصل، يحصي العراقيون الجرائم التي اقتُرفت ضدهم وما تزال، من دون أن تكون هناك محاسبة قانونية، فلا مساءلة ولا بحث عن مسؤولية ضحايا تصل أعدادهم إلى مئات من القتلى والجرحى. بل أصبحت القاعدة في التعامل مع كل أحداث قتل مدنيين وجرحهم وتغييبهم إما تبرئة المسؤولين عنها كما في مجزرة سبايكر (2014) ومستشفيي ابن الخطيب (2021) في يغداد والحسين في الناصرية (2021) واليوم في الحمدانية، أو عدم الاهتمام بما يحصل، مثل حريق مول الكرادة (2016)، وغرق العبارة في الموصل (2019)، ليتم نسيان الموضوع بعد أيام من الكلام عنه في الإعلام وبرامج الحوار في القنوات الفضائية. لكن حتى الحوادث التي لها علاقة بشروط السلامة والبناء وشروط الاستخدام الآمن، كما في حادثة العبّارة في الموصل، أو عدم توفر المواد والأجهزة المستخدمة لإطفاء الحرائق في حالتي المستشفيين في بغداد والناصرية، لم يتم التعامل معها بطريقة مختلفة لا من رئاسة الوزراء ولا الوزارات أو المحافظ ولا الجهات الأدنى التي تمنح الإجازات والرخص الخاصة بالبناء والعمل والكهرباء، بل يوما بعد آخر، تتسع الممارسات غير القانونية والمخالفة لشروط السلامة والحوادث الناتجة عنها في مختلف مدن العراق، سواء من مقاولي الأحزاب والمليشيات وحاشياتهم والمستفيدين الذين يصرفون المليارات وليس الملايين من عقود المقاولات والبناء والتجارة والأتاوات ووضع اليد على الأملاك العامة وأراضي الدولة أو إقامة مشاريع عليها للربح والاستغلال.
لن يكون مفاجئا أن تلصق التهمة ببعض الأشخاص ممن يتحمّلون مسؤولية محدودة للتغطية على المجرمين الكبار الذين يقفون وراء الحادث الإجرامي لحريق قاعة الحمدانية، بعدها يتم تهريب المجرمين إلى إيران، كما حدث مع قتلة الباحث هشام الهاشمي، وسجن القاتل بعد الضغط الشعبي وهو يقضي في أحد سجون العاصمة سجنا مرفّها بحسب شهادة الناشطين، يتمشى في السجن كأنه المسؤول الكبير فيه، كذلك الحال مع قاتل الناشط سجّاد العراقي المحكوم عليه بالإعدام عام 2020، وقد عاد ليناقش رسالة الماجستير بحسب ما نُشر في الإعلام.
انتهت لجنة التحقيق المشكّلة في وزارة الداخلية إلى أن الحريق في قاعة العرس ليس مدبّرا، لكن الصحافي غسان مطر ذكر، في برنامجه في قناة “وان نيوز”، خبرا حصل عليه من أهالي منطقة الحمدانية، عن وجود عسكري كبير يُدعى أبو الحكم في القاعة، وهو مسؤول الحمايات، وقد تم حرقة هو وعائلته ووالدته، بعد أن جرى عزلهم في غرفة في البناية، ويبدو أن هذا المسؤول هو من يقف ضد هيمنة مليشيات “بابليون”، ومحاولاتها سرقة أملاك المواطنين المسيحيين وآثارهم في سهل نينوى ومحاولة السيطرة على الكنائس والأديرة. وقد أظهرت قناة الحدث الإخبارية فيديو من القاعة لشخصٍ يرفع علامة النصر، وهو مشهد غريب في وسط فاجعة ومأساة. كما شهد أحد المدعوين أن أجهزة تشغيل الألعاب النارية لا تشتعل، وهي خاصّة بالمناسبات، أي لم تكن السبب في إشعال الحريق، عكس ما تدّعيه لجنة وزارة الداخلية في نتائج تحقيقها. وقال والد العريس لقناة أي نيوز إن صاحب القاعة طلب منه شراء هذه الأجهزة قبل يوم من العرس ورفض، لاعتقاده بأنها ممنوعة ويمكن أن تسبّب حرائق.
الأهم الشاهد الذي دخل إلى غرفة المسؤول عن القاعة، وشاهده يطفئ الكهرباء بعد الحريق، وعندما اعترض الشخص طلب منه المسؤول الخروج وعدم التدخّل لتغرق القاعة في الظلام، وليحترق المدعوون داخلها. كما كشف الصحافي في برنامجه أن الحريق حدث في القاعة قبل نصف ساعة من دخول المدعوين، بسبب اشتعال الغاز المتسرّب من إيقاف أجهزة التبريد وإطلاق غازها المسمّى بغاز الفريون، وليس بسبب وجود الكحول كما ادّعى مستشار وزير الداخلية. ومع بدء الحريق، أوقف الكهرباء صاحب القاعة، لأن القاعة قريبة من أعمدة الضغط العالي، وعدم إطفاء الكهرباء معناه إشعال حرائق في كل المنطقة، وهذا ما دعاه إلى قطع الكهرباء والهروب مع كاميرات المراقبة حال انتشار الحريق.
ا
كلام الشهود أدلة لا تقبل الدحض على تورّط هؤلاء المجرمين وميليشيا بابليون في افتعال الحريق الذي راح ضحيته أكثر من مائة قتيل من الأطفال والنساء والرجال و150 من الجرحى.
وهذا المشهد جزء من حربٍ تستكملها مليشيات بابليون الولائية في سهل نينوى بعد عام 2017 وما سمّيت عملية قوات التحالف تحرير الموصل لفرض هيمنتها على نينوى وسهلها، والتي من نتائجها أخيرا عزل رئيس الجمهورية بطريرك الكلدان مار لويس روفائيل ساكو من منصبه.
هذه الحادثة الجديدة بحقّ العراقيين مجزرة وجريمة جماعية أصحابها هم من المليشيات الولائية التي تعمل بكل الوسائل على إخضاع الموصل بكل مكوّناتها للأحزاب الإسلامية التابعة للولي الفقيه، وذلك قبل حلول موعد انتخابات مجالس المحافظات الذي يهدف إلى تقدم المليشيات وفوزها في كل محافظات العراق، لتتمكن بالكامل من الهيمنة على الرئاسات. وهذا ما جعل كلام رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، ناعما ومتسامحا إزاء الجُناة، إذ اقتصر تصريحه خلال زيارته لتعزية عائلات الضحايا على القول إن هناك “تقصيرا وإهمالا”، ولم يتكلّم عن مسؤولية ومحاسبة كما يُفترض، خصوصا أن أهالي المنطقة يعيشون ما تقوم به هذه المليشيات من اعتداءات مختلفة وغير قانونية بشكل يومي ضدّهم وضدّ ممتلكاتهم وأعراضهم كما يقولون علنا. لقد طرد أهالي الحمدانية وزيرة الهجرة والمهجّرين التابعة لـ”بابليون” من مراسم استقبال العزاء، ولم يرحب الأهالي بمجيء رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي.
ليس توصّل لجنة التحقيق إلى عدم مسؤولية أيّ شخصٍ عن حادث الحمدانية غريبا على العراقيين، لأنهم لم يروا أي لجنة تحقيق حكومية تحقّق بموضوعية وعدالة وتنصف المواطنين وعائلاتهم من ضحايا مختلف الأحداث والأدلة كثيرة. لقد تعوّدت حكومات الاحتلال في المنطقة الخضراء على إنشاء لجان التحقيق، كي يتم تمييع أي قضية تريد إغلاق ملفاتها لتضعها على إدراج مكاتبها غير عابئةٍ بالمصائب والنتائج والمشكلات التي تتسبّب بها مثل هذه الإجراءات المرفوضة والقاسية بحق المواطنين وعوائل الضحايا وحقوقهم القانونية والمدنية. أما إدراج تعويض الضحايا والجرحى فليس إلا أكاذيب خبرها الشعب العراقي منذ 20 عاما تستخدم لذرّ الرماد في العيون إعلاميا، ويبدو ان أبناء الحمدانية والموصل الذين عانوا الأمرّين من المليشيات لا يحترمون كلام الوزير ولا رئيس الوزراء، لأنهم لا يصدقونهما، ولذلك رفضوا نتائج اللجنة، وطالبوا بتحقيق دولي.
فضحت حادثة قاعة الحمدانية، بتفاصيل كثيرة، عمل المليشيات الولائية ومكاتبها الاقتصادية وفسادها في محافظة الموصل، منها مليشيات بابليون التي تعود ملكية القاعة لأخ صاحبها، وبيّنت التواطؤ مع بعض المسؤولين في وضع اليد على أراضي الدولة وأملاكها بالترهيب والسلاح والتهديد واستخراج كل الموافقات من الدوائر الحكومية المختلفة، حتى لو كانت غير قانونية، ولا تخضع لشروط السلامة.
ما تقوم به المليشيات الولائية في العراق اليوم من قتل واغتيال وتصفية للشخصيات النافذة في الموصل ممن يقف ضد إجرامها وسرقتها أملاك الناس المهجّرين والمال العام هو ما كانت تقوم به قبل إدخال مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي وظف ليكون غطاءً لتصفية نخب المدينة، وبخاصة العسكريون والقادة السياسيون، وتهجير نسبة كبيرة من أهلها وقصف أحيائها على رؤوس أبنائها لتخلو الساحة للولائيين ومليشياتهم الإجرامية لتهيمن بالكامل سياسيا وطائفيا على ثاني أكبر مدينة في العراق.
المصدر: العربي الجديد