لا يخفى على أحد ما تعانيه أمتنا العربية من ضعف وهوان وتشتت وضياع. حيث حالة استثنائية من انعدام الوزن السياسي فيما يخص مسائل مصيرية إستراتيجية حيوية. إمكانياتها ليست في خدمة أهدافها الوطنية والقومية التحررية والتنموية.. ساحاتها مستباحة من كل القوى الإقليمية والدولية المعادية أو الحاقدة أو الطامعة في بلادنا العربية ومواردها الغنية. أجهزة وتخريب ولصوص ومافيات ومرتزقة من كل جانب وفي كل ميدان.. مساومات واتفاقيات دولية على حساب أرضنا ومستقبلنا دونما حساب لنا ودون وجودنا كطرف أصلا. مؤسسات غريبة وأخرى غامضة ومحافل مشبوهة ترتع وترعى وتسرح ونحن كالأغنام.. تهافت الإعلام وكل ما فيه سخافة وتسخيف وتفاهة.. لا تربية وطنية. لا ثقافة تدرس للأجيال تعلمهم تاريخهم وتشرح لهم هويتهم. هويتهم مستهدفة من كل حدب وصوب. أصحاب المال والأعمال يلهثون وراء دور لهم في عالم العولمة المادية الاستهلاكية. مثقفون يلهثون طمعا في الحصول على تصنيف بالحداثة يرضي الغرور الشخصي أو الأنا المتضخمة. أحزاب صارت نسخا من سلاطين وحكام ونظم متخشبة متباعدة باستمرار عن الهم الشعبي والضمير الوطني. إنساننا العربي في العراء يعيش بلا سقف يحميه أو سلاح يدافع عنه.. تتجاذبه الأهواء والمصالح المتضاربة المتناقضة لأصحاب السلطان والقوة والنفوذ؛ داخلي وخارجي.. غزو ثقافي إعلامي يحاصره من كل جانب وفي كل مجال للحياة. يستلب عقله.. يشوه تراثه وقيمه ورموزه وأبطاله. يشتت ذهنه. يزيف وعيه ويسطحه؛ يثير له مئات القضايا التافهة الهامشية لصرف انتباهه عن قضاياه المصيرية والأساسية. طمس للحقائق والوقائع فلا يترك للحق بابا وللعدل عنوانا، ولا للقيم الأخلاقية دورا في حياته.
مئات المنابر تشوه له إيمانه ودينه وتغرقه في متاهات التعصب والمذهبية والانغلاق والسلبية والاتكالية والخنوع والاستسلام باسم القدر والقدرية والأخروية..
إنسان تسحقه ظروف الحياة فلا يكف عن البحث والاجتهاد ليعيل ذاته وأسرته ما يكفيهم الحاجة والسؤال..
أمنه مستباح..مصيره مهدد. مستقبله غامض..
كل هذا يختصر حربا وجودية تهدد أركان الأمة جميعا بعد أن تسلبها مورد رزقها ونضجها وحياتها. تمنع عنها صوابية التاريخ لتصادر منها أحقيتها بالمستقبل. وتهدد معها أركان الإنسان ذاته. تفككه قطعا لا غيار لها.. تغريه أو تهدده او تلجمه أو تشوش عقله وتسخف تفكيره واهتماماته فتبقيه حائرا ضائعا تائها مترددا..
فمن له بعد هذا يسنده أو يشد أزره؟؟ أو يحمي عقله ويصون ضميره؟؟ من له يصنع له وعيه بذاته وأمته ومستقبله؟؟ من له يبين أمامه ما في واقعه من أخطار وما يعانيه من غش وتزوير وخداع باسم الدين حينا وباسم الوطنية حينا وباسم التقدم والحداثة أحيانا؟؟
امام هذا الواقع يبدو كأن على الإنسان العربي أن يكون دولة قائمة بمؤسساتها وأجهزتها وقوانينها حتى بالكاد يقدر على الصمود فيبقى واقفا على رجليه لا ينهار ولا يخضع ولا يستسلم. لأنه يواجه كل هذه المخاطر والتحديات مكشوفا مشلحا.
وعلى الرغم من كل هذا فإنه لا يزال متهما من بعض أبناء جلدته؛ كما لا يزال صامدا يرفض الهزيمة والاستسلام. آية هذا شراسة حروب العدوان على وجوده حد القتل والتدمير والاقتلاع من الأرض والجذور. آيته إصراره في كل الظروف على التمسك بأرضه وبحقه في الحياة الحرة الكريمة. يدافع بقبس من القوة ضئيل يوفره لنفسه بنفسه. يحفر الصخر يقتلع الجبال ويطارد الأعداء بالإيمان والإرادة والحجر..
وعلى الرغم من أن الحرب الوحيدة على الهوية في تاريخ البشرية المعاصر هي الحرب على العروبة؛ وكل الحروب في كل مكان كانت على الموارد والاقتصاد والطاقة المادية.. إلا في أمتنا فأضيفت إليها ومعها حرب شرسة على الهوية والوعي ومعرفة الذات. ومع هذا لا تزال الهوية تقاوم والإنسان متمسك بها حريص عليها لأنه يدرك حاجته إليها للحفاظ على وجوده ذاته بها ذاتها تحديدا.. تلك سمة خاصة وأصالة متميزة وعراقة في التكوين، سنترك الحديث عنها لوقت آخر..
أمام هذا الواقع أمران أساسيان جديران بالملاحظة بل واجب ذكرهما:
– الأول:
إن السبب الأساسي المسؤول عن هذا الواقع هو غياب قيادة عربية مرجعية تتبنى مشروعا وطنيا – قوميا مستقلا، ينطلق من مصلحة الأمة ليعمل في خدمتها. ولاؤه لها وإمكانياته في سبيل تحررها ونهضتها وتقدمها..
مشروع يكون معيارا للموقف وهداية للعمل وترشيدا للاتجاه وتجميعا للطاقات وصونا من العبث والاستباحة والتعدي..
– الثاني:
هناك عرب كثيرون من أبناء الأمة أحرار شرفاء مستقلون؛ منتشرون في كل البقاع العربية وخارجها.. يدركون حجم المخاطر وضخامة العدوان. يواجهون بالكلمة والوعي والتوعية. يدافع عن أمتهم ووجودها وإنسانهم العربي ووعيه والتزامه. إمكانياتهم شبه معدومة. سلاحهم إيمان عميق ووعي متجذر وإرادة صلبة.. يصارعون فيصمدون ويكتشفون المخاطر ويكشفونها لإخوانهم. يجتهدون ويقدمون تضحيات على قدر عزائمهم.. يرشدون مئات آلاف الشباب في كل بلد فيخرجون ويطلبون الحرية والعدل والحياة الكريمة لهم ولبلدانهم. فيفلحون قليلا فيواصلون بإصرار كبير على نصر أمتهم ومستقبلهم..
مشتتون غير منتظمين مبعثرة صفوفهم أفرادا هنا وجماعات هناك..
– في مواجهة هذا الواقع بما فيه من تحديات كبيرة وسلبيات كثيرة وإيجابيات متعددة؛ برزت في العقدين الأخيرين أي منذ بدايات القرن الواحد والعشرين ظاهرة سلبية تنذر بعواقب سيئة على مجمل العمل الوطني – القومي العربي..
تلك ظاهرة استقطاب أعداد متزايدة من الشباب العربي والطاقات البشرية العربية؛ من طرف قطبي التدخل الإقليمي الأساسيين ونعني بهما تركيا وإيران…الأولى باسم الخلافة الإسلامية والثانية باسم ولاية الفقيه..
لكل منهما مشروع ديني.. لكنه مذهبي تقسيمي.. تركيا للمذهبية السنية وإيران للمذهبية الشيعية.. تشتركان إذن بالعنوان الديني الإسلامي وإنما بمضمون انقسامي مذهبي. كلاهما تنفيان العروبة ولا تعترفان بوجودها بل تعاديانها وتسعيان لاستبعادها من حياة أبناء الأمة العربية من المريدين والمؤيدين. فهما متشابهان متكاملان..
((من الإنصاف القول إن المشروع الإيراني أشد ضررا وخطرا بما قام به حتى الآن في بلاد المشرق العربي من قتل وتهجير وتخريب وتدمير.. أما الموقف التركي فلم يشارك في عمليات مشابهة مثله، فلا يستويان واقعيا.. ولقد بدأت طلائع اندحار المشروع الإيراني منذ اندلاع ثورة الشباب العراقي في السنة الماضية))..
– (تركنا الحديث عن الارتهانان الخارجية للغرب الاستعماري، لأنظمة سايكس – بيكو الإقليمية لمقال أخر فهي قديمة متجذرة استجد عليها الاستعانة بروسيا كقوة استعمارية معتمدة.. وحديثا اللجوء الى العدو الصهيوني من خلال التطبيع المستجد. فهذه قوى معادية صريحة تحتاج إلى حديث مطول مختلف.).
– وقد برزت معهما فئة من النخب العربية تبرر لهذا وفئة تبرر لذاك. تبرران الانسياق لأحد الأطراف والالتحاق به والائتمار بأمره وتبني رؤيته والدفاع عنها.. الحجة المشتركة في تبرير هذا الالتحاق هي عدم وجود مشروع عربي قيادي جامع واضح تلتف الناس حوله وتثق به وتعمل من خلاله. حتى صار هذا التبرير سلاحا حاضرا في كل مرة يتوجه نقد لمواقف أي من الطرفين فيما يتعلق بالقضايا العربية والهوية والوحدة المجتمعية والمسائل السياسية أو الدينية، فيكون الرد غياب العرب هو السبب.. ولو كان هناك مشروع عربي لما حصل ذلك. وان كل دولة تعمل لمصلحتها، وما يشبه مثل هذا الكلام الذي يستند إلى مقولة واقعية وهي غياب المشروع العربي، وهي صحيحة، لتغطية تدخل أجنبي وتبريره والدفاع عنه.. وهو موقف غير مقبول يخفي وراءه ارتباطات مصلحية وارتهانات غامضة. وفي أحسن تقدير فإنه يحمل قصورا فكريا وتهافتا في البصيرة وتشويشا في الرؤية سوف يترك آثارا سلبية خطيرة على مجمل الوضع العربي ومستقبله..
إن غياب قيادة ريادية واضحة للمشروع النهضوي العربي لا يبرر الارتهان لأية قوة أجنبية حتى لو كانت مسلمة. إن الاستعانة بالأجنبي، أيا كان، مقتلة للأهداف العربية الحرة ومفسدة للمصالح العربية ومهلكة لإمكانيات النهوض من التعثر والإنقاذ من التردي والشفاء من الوهن. والتاريخ العربي مليء بمثل هذه الشواهد حيث كانت الاستعانة بالأجنبي في قضايا الأمة الداخلية أيا كانت، سببا في التدهور وصولا إلى الانهيار. وما حال الدولة العباسية إلا شاهدا فاقع الدلالة على ذلك..
إن التفكير الحر السليم الملتزم بمصلحة الأمة والوطن لا يقبل أي تدخل أجنبي من أي كان. ولا يسمح بأي تبرير له تحت أية ذريعة. بل يستدعي إعداد المقومات اللازمة للدفاع عن الأوطان والأمة بقواها الذاتية وهي كثيرة جدا وأهمها على الإطلاق الشعب العربي في كل أقطاره..
وحينما تتم مشاركة الشعب في تقرير مصيره سيتولى هو الدفاع عن هذا المصير بجدارة واقتدار..
أما التهرب من تحمل المسؤولية واللجوء إلى الخارج فلن يحقق مصلحة عربية ولن يستثني من تأثيراته السلبية أحدا. وسيكون المستقبل أشد إيلاما وتدهورا من الواقع الذي نشتكي منه ونستعين بمشاريع أجنبية تحت وهم تغييره إلى الأفضل..
إن توزع الولاءات بين مشروع إيراني شعوبي مذهبي تقسيمي حاقد وبين مشروع تركي توسعي مذهبي طامع، إنما هو تسليم لمصير البلاد كلها إلى قوى خارجية تتقاطع مصالحها جميعا لإلغاء وجود عربي حر عزيز قوي.. تسليم يؤسس لاحتلالات تتقاسم الأرض وتكون أفضل تبرير ودعم للكيان الاستعماري العنصري في فلسطين المحتلة والذي يقيم دولة دينية يهودية نقيضة للوجود العربي كله..
إن الذين يرتبطون بمثل هذه المشاريع ويرهنون أنفسهم بها إنما يعلنون انضمامهم إلى صفوف أعداء الأمة فصارت مصلحتهم المباشرة تكمن في محاربة نهضتها وتقدمها..
أما الضعفاء المغلوبون على أمرهم، بعد أن خذلهم الموقف العربي؛ فمسؤولية توعيتهم واستجلابهم إلى معرفة سليمة بالذات ووعي موزون بالمصير، تقع على عاتق الجماعات والقوى الوطنية والعروبية والقومية التي تتمتع بالرؤية السليمة والالتزام الحر.
فتصبح مسؤوليات مثل هذه القوى أضعافا مضاعفة تبدأ من بلورة الموقف الوطني الحر السليم ثم تجسيده رؤية فمشروعا فحركة متكاملة الأبعاد…
إن غياب المشروع الريادي العربي يستدعي الإستمساك بالموقف السليم والنهج الحر المتحرر من جرثومة النفوذ الأجنبي والارتهانات الخارجية؛ ليكون هذا الوضوح عاصما للكثيرين من الالتحاق بالمشاريع الأجنبية الطامعة المخربة. لن يبقى الوضع العربي هكذا. وإلى أن يبدأ قطار التغيير المنطلق في قطف ثمار حركته، ينبغي أن تبقى الرؤية واضحة والموقف سليما متحررا…
– إن الانتماء إلى الأمة يقتضي إلتزام الولاء للأرض والشعب والوطن، أولا وأخيرا، فوق أية إيديولوجيا أو حزبية فئوية أو عصبية دينية مذهبية.. وليكن هذا الالتزام معيارًا للعمل وللتعاون المثمر بين جميع المخلصين من أبناء الأمة.