” إن راحة الضمير أصبحت مَذَلَّة ”
تولستوي
سُدتِ الطرقُ في وجه سليمان المشهداني ، وضاقتْ به مدينتُه التي يحب ، وهو يبحثُ عن مأوى يبيتُ فيه ليلتَه بعدَ خلافِه مع زوجتِه ، وقد خشي من الفضيحةِ في اللجوء إلى أحدِ أبنائِه لاعناً ” الطلاقَ بالثلاثة ” ، التي حلفَها بلحظةِ غضبٍ : لن أنامَ في هذه الشِّقة هذه الليلة .
اختارَ المشهداني المبيتَ في المقبرة ، لأنها بكماء تدفنُ أسرارَ سكانِها معهم ، وعللَ نفسَه بزيارةِ قبري والديه ، فمنذ أعوامٍ لمْ يقمْ بهذا الواجب .
قبلَ منتصفِ الليلِ تسللَ المشهداني إلى المقبرة ، ووصلَ إلى قبريهما ، وكانا متجاورين ، فألقى عليهما السلام ، وجلسَ بينهما فتلا قصارَ سورِ المصحفِ الشريف ، ثم استندَ إلى خاصرةِ القبر ، ليغمضَ عينيه اللتين أنهكهما التعبُ ، يحاصرُه الحنينُ إلى صدرِ أمه .
لمْ يكدْ المشهداني يغفو حتى سمعَ همساً وجلبةً ، ففتحَ عينيه خائفاً مذعوراً ، فرأى الموتى يخرجون بأكفانِهم من القبور ، ويتجمعون على مرأى منه ، وبدؤوا الحوار ، واحتدَ بينهم النقاش ، وترأسَ أحدُهم الاجتماع .
بعدَ أخذٍ وردٍ توافقوا على أن يكونَ لقاؤهم اجتماعاً عاماً ، واعتمدوا العلنيةَ والشفافيةَ في تسيير أمورِهم ، واتخذوا صندوقَ الاقتراعِ والغرفةَ السريةَ صوى على طريقِ حياتِهم ، ثم طالبوا بالأغلبية ، أن تجريَ محاكمةُ الموتى القادمين من دارِ الفناء إلى دار البقاء علناً وعلى مرأى من جميع قاطني المقبرة بصفتهم يمثلون الهيئة العامة وهيئة المحلفين .
تقدم عددٌ من الموتى يجرُّون خلفَهم أذيالَ أكفانِهم ، وهم يقودون باحترامٍ القادمَ الجديد ، وصعدَ قاضيان جليلان قبراً حجرياً ، وكانَ يحملُ كلٌ منهما حاسوبَه المحمولَ بيد ، ويمسكُ بالأخرى هاتفَه النقال .
ناشدتِ الهيئةُ العامةُ القاضيين افتتاحَ الجلسةِ بالاستماعِ إلى مرافعةِ القادمِ الجديد ، وبعدَ ترددٍ قال :
– أنا عبدُ الصبور ، العبدُ الفقيرُ إلى رحمةِ اللهِ وعفوه ، عشتُ سبعين حولاً أمشي الحيط الحيط. لمْ أنتسبْ إلى حزبٍ معارض ، ولمْ أسببْ الأذى لأي مواطن ، وعفَّت يدي عن الملكِ العام ، وكنتُ ملتزماً بالوصايا العشرِ من شريعةِ حمورابي إلى الشرعيةِ الدولية .
أثناءَ مرافعةِ عبدِ الصبور انهمكَ القاضيان بمعالجةِ مفاتيحِ حاسوبيهما ومَوْسي جهازيهما ، وأجابا عن اتصالاتٍ من هاتفيهما النقالين .
سُرَّ المشهداني من مخبئِه بين قبري والديه بنزاهةِ عبدِ الصبور ، وباركَ له من قلبِه داعياً اللهَ أن يسكنَه فسيحَ جنانِه ، ولفتت نظرَه عدالةُ المحكمة ، وشدَّه التغييرُ الذي وصلَ إلى دارِ البقاء ، لكنَّ الخوفَ انتابَه أن يفطنَ أحدٌ إلى وجودِه ، فيخضعُ للحسابِ قبلَ التوبةِ والغفران .
فجأةً علا الضجيجُ ، ودبتِ الفوضى في الاجتماعِ ، فالتحمتْ مفاصلُ سليمان المشهداني ، لكنَّ الجميع لاذوا إلى الهدوءِ بتصفيقٍ من رئيسِ الجلسةِ فخيمَ الصمتُ ، وشخصتِ الأبصارُ إلى المِنصة ، فطلبَ الرئيسُ من القاضيين محاكمةَ عبدِ الصبور ، فتحدثَ القاضي الأولُ :
– إن صفحتكَ بيضاءَ يا عبدَ الصبور ، فأنتَ لستَ منتسباً إلى الحزبِ الحاكمِ ولا إلى أحدِ أحزابِ المعارضة ، ومع أنكَ بدأتَ حياتَك شيوعياً ، ختمتَها بحجةٍ إلى بيتِ اللهِ الحرام ، ولمْ تمدْ يدَكَ إلى الملكِ العام ، ولمْ تُلحقْ الأذى بأي إنسان ، والتزمتَ بالوصايا العشر .. قاطعَه القاضي الثاني مخاطباً عبدَ الصبور :
– أسستَ مع عددٍ من أصدقائِكَ وأقربائِكَ جمعيةً سكنيةً ، ولمْ تأخذْ رشوةً من متعهدٍ ، ولمْ تقبلْ هديةً من عضو ، ثم انتخبتَ رئساً للجمعية ، فرفضتَ أن تستخدمَ سيارةَ الجمعيةِ لأغراضِكَ الخاصة .. فصمتَ القاضي ، فتابعَ الآخر :
– لقد طلَّقتَ زوجتَكَ يا عبدَ الصبور أياماً لتتخصصَ هيفاءَ بشِّقةٍ كما تخصصتَ أنت ، وبعدَ تخصصِها بالشقةِ أعدتَها إلى عصمتِك بعقدِ زواجٍ جديد ، وأثناءَ فترةِ طلاقِها تذكرتَ هيفاءَ حبكَ الأولَ والأخير ، فأمضيتَ معها أيامَ عسلٍ على شاطئ البحرِ في رأسِ البسيط ، ثم بعتَ شقتَها وسجَّلت بثمنِها شققاً بأسماءِ أبنائِكَ وبناتِك … تابعَ القاضي الثاني :
– عندما طالبَكَ المحاسبُ سراً بالأقساطِ المترتبةِ على أبنائِكَ قبلَ انعقادِ اجتماعِ الهيئةِ العامة ، بعتَ الشِقةَ التي سجلتَها باسمِ عمِك ، وبعتَ الأخرى التي سجلتَها باسمِ خالتِك ، والثالثةَ والرابعةَ والخامسةَ .. وغرقَ القاضي في حاسوبه ..
فخاطبَ الآخرُ المجتمعين :
أيها السادة . يا سكانَ هذه الدارِ الكرام
استجبنا لطلبِكم فأخذنا بتنظيماتِ العصرِ وشروطِ المقبرةِ المدنية ، وعقدنا اجتماعاً عاماً لمحاكمةِ القادمِ الجديد ، فرأيتم وسمعتم ، لقدْ استرشدنا بمبدأ العلنيةِ والشفافية ، وطورنا أدواتِنا ، وحدثنا إدارتِنا ، ووثقنا أقوالَنا ، والآن جاءَ دورُكم كهيئةِ محلفين .
– ماذا تقولون بعبدِ الصبور ؟.
معَ إطلالةِ الفجرِ حدَّث سليمانُ المشهداني نفسَه : ” لا تنامْ بينَ القبورِ بتشوف مناماتِ وحشة “؟ .