الحرب السياسية تصل إلى أميركا

تيم نفتالي

بعد الاتهامات الموجهة إلى ترمب هل يمكن لواشنطن أن تحمي الانتقال السلمي للسلطة؟ “لعبة السياسة ليست ضمن المواد التي يتم تدريسها في مدرسة يوم الأحد الدينية”، كان هذا هو التوصيف الذي أعطاه “بلايند بوس” Blind Boss باكلي [كريستوفر أوغسطين باكلي الأب، ويلقب بالزعيم الأعمى أو بلايند بوس بسبب فقدانه بصره بعد انضمامه إلى الحزب الديمقراطي]، رئيس الماكينة السياسية للحزب الديمقراطي في سان فرانسيسكو في مطلع القرن العشرين. لطالما اشتهرت السياسة الأميركية بأنها قاسية لا تعرف الرحمة، لكنها قبل الآن، لم تتضمن قط مؤامرة موجهة من البيت الأبيض ترمي إلى تغيير نتائج الانتخابات الرئاسية. ووفق ما تبين من لائحتي الاتهام الأخيرتين في حق الرئيس السابق دونالد ترمب، حدث شيء مختلف اختلافاً نوعياً في أعقاب خسارته الانتخابات الرئاسية في عام 2020.

يواجه ترمب الآن أربع لوائح اتهامات جنائية تشمل 91 تهمة جنائية في أربع ولايات قضائية، لكن أحدث لائحتي اتهام تتناولان محاولاته لسرقة انتخابات 2020 بالتالي مهاجمة الديمقراطية الأميركية في جوهرها. في الأول من أغسطس (آب)، قامت هيئة محلفين كبرى فيدرالية بتوجيه لائحة اتهام ضد ترمب في أربع تهم، بما في ذلك التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة والتآمر لعرقلة إجراء رسمي. في الواقع، إن قراءة لائحة الاتهام المؤلفة من 45 صفحة تصيبنا بالقشعريرة إذ إنها توضح بالتفصيل كيف حاول ترمب والمتآمرون المزعومون قلب نتائج الانتخابات رأساً على عقب في الأشهر التي سبقت الهجوم على مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021. وقد تضمن جزء من المؤامرة الموثقة في لائحة الاتهام حملة ضغط على مسؤولي الانتخابات في الولايات لتغيير النتائج في ولاياتهم. وأصبحت جهود ترمب في جورجيا تشكل الأساس للائحة اتهام جديدة قدمتها هيئة محلفين كبرى في أتلانتا، حيث يواجه ترمب 13 تهمة جنائية. وشملت لائحة الاتهامات الواسعة تلك 18 متهماً آخرين، بمن في ذلك رودولف جولياني، عمدة نيويورك السابق الذي انضم إلى فريق ترمب القانوني، ومارك ميدوز، عضو الكونغرس الجمهوري السابق الذي شغل منصب كبير موظفي البيت الأبيض في عهد ترمب.

ويفيض تاريخ العالم بأمثلة عن حكام رفضوا التخلي عن السلطة عندما فقدوا تفويض الشعب. ومع ذلك، افترض عدد من الأميركيين والأجانب المعجبين بالولايات المتحدة أن البلاد كانت نوعاً ما بمنأى عن مشكلة ربطها كثيرون بالعالم النامي. وقد نبع هذا الاعتقاد من إيمان طويل الأمد بـ”الاستثناء الأميركي”، وهي الفكرة القائلة إن النظام السياسي في الولايات المتحدة والقيم الأميركية فريدان ومميزان ويشكلان نموذجاً يحتذى، لكن بعد خسارته في انتخابات عام 2020، اختار ترمب اختبار معيار الديمقراطية المتعلق بالانتقال السلمي للسلطة. والآن، ستختبر لوائح الاتهام، والمحاكمات التي ستتبعها على الأرجح، مساءلة الرئيس بشكل لم نشهده من قبل.

أنظار التاريخ متجهة إليك

لم تكن انتخابات 2020 هي أول انتقال رئاسي مشحون بالتوترات في الولايات المتحدة. في مارس (آذار) 1861، بعد أن كانت سبع ولايات قد انفصلت بالفعل عن الدولة، وجهت إدارة الرئيس جيمس بوكانان المنتهية ولايته أوامر للجيش الأميركي بتسيير دوريات في العاصمة لمنع الانفصاليين من قتل أبراهام لنكولن، الرئيس المنتخب آنذاك، بيد أن الانتقال الأكثر إثارة للجدل قد حدث ربما بعد 15 عاماً، وفي هذه المرة كان نتيجة للسلام الهش وغير المستقر الذي أعقب الحرب الأهلية. حرضت انتخابات عام 1876 الديمقراطي صامويل تيلدن ضد الجمهوري رذرفورد ب. هايز أحدهما على الآخر. وتدخل كل من الديمقراطيين والجمهوريين في عملية فرز الأصوات. استخدمت نخب الحزب الديمقراطي في فلوريدا ولويزيانا وساوث كارولينا الترهيب لمنع الناخبين السود الذين حصلوا على حق الاقتراع حديثاً من الإدلاء بأصواتهم. ورداً على جهود المتطرفين البيض في تلك الولايات، التي كانت جميعها لا تزال تحت احتلال الجيش الأميركي، تخلص مسؤولو الدولة الجمهوريون من أصوات الديمقراطيين المشروعة. وفي خضم هذا الاضطراب، أرسلت أربع ولايات قوائم متنافسة من أعضاء المجمع الانتخابي إلى الكونغرس الأميركي [خلال الانتخابات المذكورة، ادعى كلا الحزبين في أربع ولايات، هي فلوريدا ولويزيانا وساوث كارولينا وأوريغون، أنهما فازا في الانتخابات وأرسلا مجموعاتهما الخاصة من أعضاء المجمع الانتخابي إلى الكونغرس الأميركي]. وبعد أن أصيب بحالة من الشلل السياسي، أقر الكونغرس قانون مفوضية الانتخابات عام 1877، الذي أنشأ مفوضية مهمتها إيجاد حل للمشكلة. وظل المنتصر الفعلي في الانتخابات موضع نزاع حتى قبل أيام قليلة من حفل التنصيب، عندما وعد حلفاء هايز بأنه في مقابل تقبل وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض، سيتم تعويض الديمقراطيين بسحب القوات الأميركية من الجنوب، وهي خطوة من شأنها أن تترك أولئك الذين كانوا مستعبدين سابقاً، تحت رحمة مستعبديهم السابقين لمدة 90 عاماً أخرى.

وبعد ما يقرب من 125 عاماً من الانتقال السلس نسبياً للسلطة، جاءت انتخابات عام 2000، التي ظلت معلقة لأسابيع بسبب الفرق الضئيل خلال فرز الأصوات في ولاية فلوريدا. واستمر التشويق إلى ما قبل أداء الرئيس جورج دبليو بوش اليمين بشهر. على رغم أن قرار المحكمة العليا بالتدخل لمنع إعادة فرز الأصوات في فلوريدا كان موضع جدل وانتقادات واسعة النطاق، إلا أن الخاسر، وهو نائب الرئيس آل غور، الذي فاز في التصويت الشعبي الوطني، قبل بالنتيجة، واختفى أنصاره من دون وقوع حوادث.

لقد رفض عدد من الرؤساء الأميركيين حضور حفل تنصيب خلفائهم. لم يقبل كل من جون آدامز وجون كوينسي آدامز وأندرو جونسون حضور مراسم التنصيب، ويرجع ذلك أساساً إلى أن هؤلاء الرؤساء الذين تولوا سدة الرئاسة لولاية واحدة كانوا يكرهون الرجال الذين هزموهم، لكن قبل ترمب، لم يحاول أي رئيس في تاريخ الولايات المتحدة منع انتقال السلطة بعد فرز الأصوات.

بالنسبة إلى كثيرين، بدا أن هذا التاريخ الطويل يميز الولايات المتحدة عن البلدان الأخرى. وكانت الولايات المتحدة أول دولة في العصر الحديث تحظى برئيس منتخب، على رغم أن هذا الزعيم كان يجب أن يختاره أعضاء المجمع الانتخابي من كل ولاية وليس الشعب مباشرة. خلال السنوات الـ40 الأولى تقريباً من الرئاسة الأميركية، اختارت معظم الهيئات التشريعية في الولايات أعضاءها في المجمع الانتخابي، ولكن بعد عام 1877 أصبح من الشائع اختيارهم حصرياً من طريق التصويت الشعبي للرئيس في كل ولاية. اليوم، تعتمد جميع الولايات الـ50 ومقاطعة كولومبيا على التصويت الشعبي للمصادقة على أعضاء المجمع الانتخابي، ويحصل الفائز على كل شيء في كل ولاية [أي على أصوات جميع أعضاء المجمع الانتخابي الذين اختيروا لتمثيل الولاية] ما عدا ولايتي ماين ونبراسكا (حيث يتم تحديد أعضاء المجمع الانتخابي من خلال التصويت في كل منطقة انتخابية) [في الولايتين المذكورتين، يحصل المرشح الفائز في التصويت الشعبي على صوتين مؤكدين، ومن ثم تبقى لأعضاء المجمع الانتخابي المتبقين حرية إعطاء أصواتهم لذلك الفائز] مما يجعل المجمع الانتخابي الذي تعود أصوله إلى القرن الـ18 مجرد إجراء شكلي رمزي. بعد انتخابات عام 2020، رأى بعض الأميركيين اليائسين في هذه المؤسسة البالية فرصة ليس لإلحاق الأذى فحسب بل أيضاً لتخريب الديمقراطية.

“لا نملك الأدلة”

تمثل لائحة الاتهام المتعلقة بالانتخابات التي قدمتها وزارة العدل الأميركية في أوائل أغسطس سابقة قامت فيها الحكومة الفيدرالية لأول مرة باتهام رئيس سابق بأفعال ارتكبها خلال رئاسته، لكن الأهمية الحقيقية للقضية ولائحة الاتهام الجديدة في جورجيا تكمن في طبيعة الجرائم المزعومة. وتثير التهم الموجهة إلى ترمب أسئلة ليس حول الخط الفاصل بين الشخص الذي لا يرحم سياسياً والمجرم في نظام ديمقراطي فحسب، بل أيضاً حول قدرة القضاء، جنباً إلى جنب مع المسؤولين الحكوميين والمحليين، على فرض إرادة أعضاء المجمع الانتخابي في وجه القوة الهائلة التي يتمتع بها الرئيس الأميركي.

يعرض قرار الاتهام الفيدرالي الصورة الكبرى للنهج المتعدد الجوانب الذي اتبعه فريق ترمب من أجل تغيير نتائج الانتخابات. بعد أيام قليلة من الانتخابات، أوضح فريق حملة ترمب الانتخابية له أنه إذا خسر أريزونا أو جورجيا أو ويسكونسن، التي لم يكن قد تم التصديق على أصواتها بعد، فسوف يخسر الانتخابات. وبعد أسبوع، في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، أقر محامو ترمب في المحكمة أنه خسر التصويت الشعبي في ولاية أريزونا. فأدرك أعضاء حملة ترمب أن الرئيس لم ينتخب مجدداً، لكن بدلاً من قبول حقيقة خسارته المرة، اختار الرئيس السابق البدء في التواطؤ مع جولياني وآخرين للرد بهجوم مضاد.

كانت نقطة الهجوم الأولى هي ولاية أريزونا، حيث قيل إن ترمب وجولياني اتصلا برئيس مجلس النواب في أريزونا، الجمهوري راسل “راستي” باورز، للإصرار على أن تتراجع حكومة أريزونا عن قرارها بأن بايدن قد فاز، على أساس مزاعم حدوث غش وتزوير. عندما طلب باورز لاحقاً من جولياني بأن يشاركه هذه الحقائق والتفاصيل الواضحة، رد جولياني: “لا نملك الدليل، ولكن لدينا نظريات كثيرة”. عندما حاولت ولاية أريزونا إغلاق الباب في وجههم، ركز المتآمرون على ميشيغان وبنسلفانيا وجورجيا، على حد قول المدعين العامين، وضغط ترمب بشكل خاص على بعض المشرعين الجمهوريين الرئيسين في تلك الولايات بينما أكد علناً وجود تزوير انتخابي على رغم أنه، وجولياني، علما أنه أمر غير صحيح.

في جورجيا، لم يكتف ترمب بممارسة الضغط على مسؤولي الدولة فحسب، بل هدد واحداً منهم في الأقل، وفي تغيير مفاجئ للأحداث مثل ذلك الذي حصل في أيام نيكسون، اعتقل وهو يقوم بذلك من خلال تسجيل محادثته. في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2020، اتصل ترمب بكريس كار، المدعي العام في ولاية جورجيا، لحمله على التوقيع على دعوى قضائية تزعم وجود تزوير في ولايات متعددة بهدف تغيير نتائج الانتخابات من خلال المحكمة العليا الأميركية. رفض كار طلب الرئيس، موضحاً أنه لا يوجد دليل شرعي على حدوث أي غش في عملية فرز الأصوات في ولاية جورجيا. في الثاني من يناير، أجرى ترمب مكالمته السيئة السمعة مع براد رافنسبيرغر، الأمين العام لولاية جورجيا، طالباً منه تغيير أرقام التصويت الشعبي في جورجيا. عندما رفض رافنسبيرغر فعل ذلك، هدده ترمب، قائلاً إنه ينتهك القانون في حال عدم الإبلاغ عن الاحتيال المزعوم. قال ترمب “لا يمكنك السماح بحدوث ذلك، هذا خطر كبير عليك وعلى رايان [جيرماني]، محاميك”. هذه المكالمة، التي تم تسجيلها، أصبحت في ما بعد أساساً للاتهامات التي وجهتها ولاية جورجيا لكل من ترمب وميدوز بأنهما حرضا رافنسبيرغر بشكل غير قانوني “على المشاركة في سلوك يشكل جريمة جنائية تنتهك القسم الذي أدلى به مسؤول عام”.

مع إخفاق محاولات مضايقة مسؤولي الدولة وتهديدهم، فتحت المؤامرة جبهة جديدة. في أوائل ديسمبر، كشف ترمب وأقرب حلفائه عن نهج يعكس فهماً ضبابياً للطريقة التي فاز بها هايز في نهاية المطاف في انتخابات عام 1876 التي شكلت محل خلاف. وجد ترمب وجولياني حلفاء في الكونغرس، بمن في ذلك السيناتوران الجمهوريان تيد كروز وتومي توبرفيل، للمساعدة في اختلاق والترويج لنقاش زائف حول شرعية أعضاء المجمع الانتخابي التابعين لبايدن في سبع ولايات: أريزونا وجورجيا وميشيغان ونيفادا ونيو مكسيكو وبنسلفانيا وويسكونسن. تم توظيف أفراد ليتظاهروا بأنهم أعضاء في المجمع الانتخابي في تلك الولايات على رغم أن تلك الولايات كانت قد اختارت بالفعل مندوبين شرعيين يمثلونها في المجمع الانتخابي، وذلك بناءً على نتائج الانتخابات التي اعتمدها كل حاكم في ولايته. طلب من أعضاء المجمع الانتخابي المزيفين التابعين لترمب بالتصويت لصالح ترمب في 14 ديسمبر، وهو اليوم الذي كان سيدلي فيه جميع أعضاء المجمع الشرعيين بأصواتهم لاختيار الرئيس. ونتيجة لذلك، كانت ستكون هناك مجموعتان من الأصوات الانتخابية في تلك الولايات السبع. وكان الهدف المنشود لترمب وأعضاء فريقه وحلفائهم الجمهوريين في الكونغرس هو خلق وضع لا يكون فيه الكونغرس قادراً على تحديد قوائم أعضاء المجمع الانتخابي الصحيحة. وهذه الأزمة من شأنها أن تجبر الكونغرس على تعليق تصديقه على الانتخابات في السادس من يناير، على غرار ما حدث بعد انتخابات عام 1876. وبعد ذلك، كان الكونغرس سيتمكن من إنشاء لجنة انتخابية تجد طريقة للخروج من هذه الفوضى التي قد تؤدي بطريقة ما إلى بقاء ترمب في منصبه، لكن الفارق الوحيد هو أنه في عام 1876، كان هناك مأزق حقيقي. بطبيعة الحال، فإن أي مأزق انتخابي في عام 2021 هو بمثابة أخبار كاذبة، نتاج مكيدة منسقة. والبريد الإلكتروني من كينيث تشيسبرو، المحامي الذي يزعم أنه ساعد في تطوير مخطط أعضاء المجمع الانتخابي المزيفين، إلى أحد منظمي أولئك الأعضاء في نيفادا، توضح ذلك: “الغرض من إرسال الأصوات إلى الكونغرس هو توفير فرصة لمناقشة المخالفات الانتخابية في الكونغرس، والإبقاء على احتمال قلب الأصوات لصالح ترمب”.

شعر بعض أعضاء المجمع الانتخابي المزيفين بوجود خطب ما. لذا، طلب أنصار ترمب الذين تم اختيارهم في ولاية بنسلفانيا لتوقيع شهادات مزورة على أنهم أعضاء في المجمع الانتخابي، الحصول على تطمينات في اجتماع عبر الهاتف مع جولياني والمتآمرين الآخرين في 12 ديسمبر، تضمن أن أصواتهم لن تقدم إلى الكونغرس إلا إذا وجدت المحكمة أن الاحتيال قد حدث بالفعل في ولايتهم. على رغم إعطاء تلك الضمانات لهم، لم يكن لدى المتآمرين أي نية لانتظار أن تتحرك المحكمة لصالحهم. وكانت حملة ترمب ستخسر كل دعاواها القضائية. استمر ترمب في خطته على أي حال، بما في ذلك الجهود المبذولة لتقديم أصوات انتخابية رئاسية مزيفة من ولاية بنسلفانيا. في غضون ذلك، رفض كبار مستشاري حملة الرئيس دعم الخطة. وتنقل لائحة الاتهام الفيدرالية عن لسان نائب مدير مجهول الهوية في حملة ترمب وصفه لما يجري بأنه “مخطط مجنون”، فيما اعتبره مستشار كبير آخر لم يذكر اسمه أنه “مصادقة على أصوات غير قانونية”. لذا، اعتمد ترمب، الذي يفتقر إلى الدعم من المتخصصين في حملته الانتخابية، على متآمرين خارجيين لتنفيذ خطته.

لكي ينجح ذلك المخطط، كانت لا تزال المؤامرة في حاجة إلى نوع من الغطاء الشرعي لتهم الاحتيال والغش التي أطلقها ترمب. ونظراً إلى عدم وجود أي محكمة أميركية قد تصادق على فكرة حدوث غش في الانتخابات، بحث المتآمرون عن مصدر آخر للشرعية. بعد أن أدلى أعضاء المجمع الانتخابي المزيفون بأصواتهم المزيفة في 14 ديسمبر، حاول ترمب أن يجعل وزارة العدل الخاضعة لإدارته تقول إن تزويراً قد حدث في المنافسة الرئاسية في هذه الولايات السبع، لكن كبار القادة في وزارة العدل لم يوقعوا على قرار يقول بحدوث تزوير انتخابي. ونقل عن ترمب توسله مراراً وتكراراً إلى جفري روزن، القائم بأعمال وزير العدل الأميركي: “قل فقط إن الانتخابات كانت فاسدة واترك الباقي لي ولأعضاء الكونغرس الجمهوريين”. عندما رفض روزن ونائبه تغيير موقفهما، هدد ترمب كلا الرجلين بالفصل. أخبر ترمب فريقه في البيت الأبيض أنه سيتم استبدال روزن. وعلى الأرجح، لولا حقيقة أن ترمب تلقى تحذيراً من أن استقالة جماعية ستحدث في وزارة العدل إذا أجبر روزن على الاستقالة، لطرد روزن ووقع القرار.

وبعد أن واجه ترمب تمرداً في وزارة العدل، ركز على بنس [مايك بنس نائب الرئيس]. كانت الفكرة أن يتخلص بنس من أعضاء المجمع الانتخابي التابعين لبايدن من الولايات السبع وقبول الأعضاء المزيفين أو في الأقل إرجاع المسألة إلى الولايات. وفق ما جاء في لائحة الاتهام، في نهاية ديسمبر، أوصل ترمب معلومات خاطئة لبنس، الذي لم يشارك في الاجتماعات مع روزين، مفادها بأن وزارة العدل كانت “تجد مخالفات كبيرة”. في الأول من يناير، شعر ترمب بالإحباط لأن بنس كان متردداً في المشاركة في مؤامرة أعضاء المجمع الانتخابي، فهاجمه ترمب قائلاً: “أنت صادق أكثر من اللزوم”. ومع رفض بنس الامتثال، طلب ترمب من حملته الانتخابية إصدار بيان عام ليلة الخامس من يناير بهدف ترهيبه: “هناك اتفاق تام بيني وبين نائب الرئيس على أن نائب الرئيس لديه السلطة للتصرف”.

في صباح يوم السادس من يناير، كان ترمب لا يزال يأمل في انهيار معارضة بنس لارتكاب عملية احتيال، بسبب ما تعرض له من إلحاح، لكن عندما حاول ممثلو الرئيس تسليم بطاقات الاقتراع المزيفة إلى بنس، رفض فريق نائب الرئيس قبولها. وقبل توجهه لإلقاء خطابه المصيري في حديقة “ذا إليبس” بالقرب من البيت الأبيض، اتصل ترمب ببنس مرة أخرى، في محاولة لحمله على تغيير رأيه. يتذكر الشهود على المكالمة أن ترمب وصف بنس بأنه “جبان” وأخبره أنه ليس “قوياً بما فيه الكفاية”. في وقت لاحق من صباح ذاك اليوم، قال ترمب للجماهير المجتمعة في “ذا إليبس”، “إذا فعل مايك بنس الصواب، سنفوز في الانتخابات”. وبعد الظهر، مع اقتحام المشاغبين مبنى الكابيتول، غرد ترمب، “لم يكن لدى مايك بنس الشجاعة لفعل اللازم في سبيل حماية بلادنا ودستورنا”.

على رغم التمرد الذي انكشف بوضوح أمام الجميع، متخذاً شكل هجوم أدى إلى مقتل ما لا يقل عن سبعة أشخاص، ووقوع إصابات كثيرة، والأضرار التي لحقت بمبنى الكابيتول، واصل ترمب وجولياني جهودهما لمنع الفرز حتى نهاية ذلك اليوم. نظراً إلى أن بنس لم يعد خياراً متاحاً، حاولا الاتصال بأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الموالين لترمب، لكن أحداً لم يرد على مكالماتهم وانهارت المؤامرة.

هذه المرة مختلفة

ما أقدم عليه ترمب والمتآمرون معه لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال الحرب السياسية، يرتبط تقليدياً بالعمليات السرية. منذ الحرب العالمية الثانية، اعتمد الرؤساء الأميركيون على هذه التكتيكات للتلاعب ببعض الانتخابات الديمقراطية في الخارج، كما فعل هاري ترومان في إيطاليا عام 1948 على سبيل المثال، وجون أف كينيدي وليندون جونسون قبل انتخابات عام 1964 في غيانا البريطانية وتشيلي.

لكن للمرة الأولى، حاول رئيس أميركي إلغاء نتائج انتخابات في الداخل. وفي محاولته التلاعب بنتائج انتخابات عام 2020، تمادى ترمب أكثر بكثير حتى من ريتشارد نيكسون، الذي يمكن القول إنه أشد رؤساء الولايات المتحدة ارتياباً [أكثر رئيس مصاب بعقدة الاضطهاد في الولايات المتحدة] عمل حلفاؤه على تغيير نتائج ما اعتبروه انتخابات مسروقة في عام 1960. من أجل إثبات أن حملة كينيدي قد تضمنت درجة تزوير كافية للفوز في الانتخابات المحتدمة، شكك حلفاء نيكسون في النتائج في 11 ولاية، كما وثق المؤرخ ديفيد غرينبيرغ. كان تركيز “لجنة إعادة الفرز” الخاصة بنيكسون ينصب على مقاطعة كوك في شيكاغو، معقل العمدة ريتشارد دالي، الديمقراطي، الذي كان يعتقد أنه أعطى أصوات الولاية الانتخابية البالغ عددها 27 لصالح كينيدي. لم تجد عملية إعادة فرز الأصوات في شيكاغو أي تزوير، على رغم أنها أعطت 943 صوتاً إضافياً لنيكسون. ومع ذلك، لم تكن تلك الأصوات كافية للتغلب على نتيجة كينيدي الذي كان متقدماً بفارق 4500 صوت. وهم غير راغبين في الاستسلام، قدم حلفاء نيكسون عريضة إلى مجلس الانتخابات الذي يهيمن عليه الجمهوريون في ولاية إلينوي لقبول قائمة بديلة منافسة من أعضاء المجمع الانتخابي المؤيدين لنيكسون. عندما رفض المجلس التصديق على تلك القائمة، توقفت المحاولات. إذا فكر أي شخص في إنشاء قائمة موازية تتألف من أعضاء مجمع انتخابي مزيفين من إلينوي، فقد رفض نيكسون ومستشاروه المقربون تلك الفكرة.

لم تخفق خطط ترمب المتتالية للبقاء في منصبه لأن الرئيس فقد اندفاعه أو غير رأيه، بل لأن المسؤولين الفيدراليين وقادة الولايات غير المشاركين في المؤامرة أحبطوا تلك المخططات. للأسف، الشيء الوحيد الذي لم يتمكنوا من منعه هو العنف في السادس من يناير. عندما يراجع المؤرخون الأحداث غير العادية في عامي 2020 و2021، سيلاحظون الحماسة العامة التي أبداها المشرعون الجمهوريون في عديد من الولايات المستهدفة من الرئيس وزملائه المزعومين المتآمرين معه. لم يقم المسؤولون في أريزونا وجورجيا وميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن بعرقلة خطط الرئيس فحسب، بل قضوا عليها.

لقد استندت لائحتا الاتهام هذا الشهر، واحدة فيدرالية والأخرى على مستوى الولاية، إلى شجاعة أفراد مثل باورز وكار ورافنسبيرغر وحاكم جورجيا، براين كيمب، لدعم الركائز الهشة التي تقوم عليها الديمقراطية الأميركية. سيراقب الأميركيون والعالم ما سيحدث بعد ذلك، من مناشدات وأدلة ودفاع وأحكام، لمعرفة ما إذا كانت هذه الإجراءات القضائية ستلهم مزيداً من الحماسة العامة وستكبح المؤامرة إذا ما احتدمت المنافسة الانتخابية في عام 2024 بأي شكل من الأشكال.

تيم نفتالي باحث رفيع الشأن في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا. كان المدير المؤسس لمكتبة ومتحف ريتشارد نيكسون الرئاسيين الفيدراليين.

مترجم عن فورين أفيرز أغسطس 2023

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى