قراءة في كتاب : مقدمة إلى تاريخنا والآخر ||  وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب

أحمد العربي

إبراهيم كالن مفكر وباحث واستاذ جامعي تركي،  منشغل في قضايا التواصل والتفاعل الثقافي والحياتي بين الغرب عموما والشرق متمثلا بتركيا والعالم الإسلامي. ينتمي لحزب العدالة والتنمية التركي. وشغل منذ سنوات مواقع مسؤولية مهمة بجوار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كان المتحدث الرسمي للرئاسة التركية قبل التغيرات الأخيرة، و بعد الانتخابات الرئاسية أصبح رئيس للاستخبارات العامة التركية .

كتاب مقدمة إلى تاريخنا والآخر وما وراء العلاقة بين الإسلام والغرب الأوروبي قبل أن تصبح أمريكا منه وقائدته بداية القرن العشرين، الكتاب الذي بين يدينا ل د  إبراهيم كالن. يكاد يكون شهادة موثقة بالتفاصيل الدقيقة و الكثيرة والمتشعبة للعلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي عموما، الزمان يعود الى ما قبل نشوء المسيحية منذ آلاف السنين.

الكتاب مكثف ومحاوره متشعبة ومتعددة لذلك سنركز تعقيبنا على بعض المفاصل فيه وعلى أهم استنتاجاته التي توصل إليها الكاتب بدأب حول العلاقات العربية الأوروبية ثم الأمريكية مع العالم الإسلامي في الماضي والحاضر وآفاق المستقبل.

الغرب والشرق زواج مستحيل.

إن أهم ما نستنتجه من قراءتنا للكتاب هو وجود الحالة الصراعية المستمرة بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي منذ ما قبل المسيحية حيث كان الشرق امتدادا امبراطوريات مختلفة بعضها عاش لمئات السنين وبعضها ظهر كطفرة وانتهى. الساسانيين الفرس و السلاجقة و العرب المسلمين و العثمانيين بعد ذلك. والغرب الذي مثلت روما وفي قلبها الفاتيكان والدول الأوروبية والدولة البيزنطية وقلبها القسطنطينية – التي أصبحت اسطنبول بعد الفتح الإسلامي لها. عواصم الغرب الذي حمل راية الصراع.

كان شكل الصراع الشرقي الغربي بين الفرس والبيزنطيين ما قبل ظهور الإسلام وتشكيله امبراطورية توسعت في أغلب الشرق والغرب. حيث كان يتمدد طرف على حساب الآخر عبر مئات السنين بين القسطنطينية وبلاد فارس. وكانت الحرب سجال لم تنتهي يوما بانتصار طرف على آخر. كانت تلك المرحلة تاريخيا مرحلة تمدد للامبراطوريات لتحقيق هيمنتها ومصالحها…

كان لتبني الغرب الأوربي للمسيحية من قبل روما الفاتيكان في القرن الرابع الميلادي وانتقالها بعد عقود لتتبناها الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية ويلبس بعد ذلك الصراع مع الشرق الفارسي لبوس ديني حيث أعلن الغرب الأوروبي الفاتيكان والمسيحية الشرقية تعلقهما بالقدس بصفتها مكان ميلاد المسيح و أحقيتهم التاريخية بها والعمل عبر تاريخ طويل للاستحواذ عليها…

كان ظهور الإسلام في الجزيرة العربية على يد محمد ص في أوائل القرن السابع الميلادي. وبدء من ارسال رسله إلى عظيم الفرس وقيصر الروم. ودعوتهم للإسلام. وبداية التوسع بجيوش الخلفاء بعد ذلك لتسقط الإمبراطورية الفارسية. وتتوسع بمعاركها لتصل إلى مشارف القسطنطينية…

انتقل مركز الصراع الغربي الأوروبي مع البيزنطي ليركز على حربه على التمدد  الإسلامي وعلى عقيدة الإسلام بصفتها حامل هذه الدولة الحديثة الوجود والتي اجتاحت أغلب إمبراطوريات ذلك العصر …

كان لانتقال الخلافة الإسلامية من الحكم الشوري وتحولها لحكم جبري وراثي  بيد الأمويين لمئة سنة تقريبا ، ثم لتنتقل للحكم العباسي لخمسمائة سنة. وما أصاب هذه الامبراطوريات من أوقات ضعف وقوة. بحيث كانت الفترة العباسية الذهبية ايام هارون الرشيد وبعده المأمون مركز إشعاع حضاري. حيث انتقلت شعلة التطور الحضاري العلمي إليها. تأليف وبحث علمي وترجمة للعلوم الشرقية واليونانية الفلسفية وغيرها. كما كان لانتقال الخلافة الأموية إلى الأندلس وتطورها العلمي والمعرفي دور في عملية التطور الحضاري العلمي الذي انتقل منها للغرب قبل وبعد سقوط الأندلس التي امتد فيها الحكم الإسلامي لقرون طويلة. وكانت النزعة الصراعية ضد العرب والمسلمين وضعف الدولة الموحدية في الأندلس وراء انهزامهم وسقوطها…

لقد كان الغرب الذي تبنى المسيحية سواء روما الفاتيكان أو الشرقية في القسطنطينية. يعيشون  في العصور الوسطى في حالة صراعية داخلية. وسرعان ما حولها الفاتيكان والبابوات فيه لتكون قوة صراعية اتجاه الشرق الإسلامي الذي وجدوا فيه قوة منافسة جديدة. ولم تغب عن بالهم القدس وأنها أرضهم المقدسة التي يجب ان يستردوها. كان العالم الإسلامي أواخر العصر العباسي في حالة ضعف وضحية هجمات موجات بربرية للمغول والتتار على دفعات كانت وحشية تستهدف البشر والمراكز العلمية وتدمر البلدان التي تصلها. يقتل الرجال وتسبى النساء. صحيح أنه تم الوقوف في وجههم في معركة عين جالوت بقيادة المماليك وتم دحرهم ومن ثم هضمهم في قلب العالم الإسلامي حيث أسلم اغلبهم…

كان لدخول المسلمين في نهاية العصر العباسي في طور الضعف سببا في تفكك الكيان الإسلامي الواحد . بين خلافة عباسية صورية ومماليك في مصر والسلاجقة بتنوعهم في الأناضول والشمال الآسيوي. وسرعان ما أعاد الغرب هجمته باتجاه الشرق تحت دعوى تخليص القدس من المسلمين. وبدأت الحملات الصليبية التسعة التي استمرت لثلاث مائة سنة على دفعات انتصرت في عشرات السنين ووصلت الى القدس وأقامت دولتها هناك. الملفت في الموضوع هو التعامل الإسلامي الجيد مع المسيحيين واليهود بكونهم أهل كتاب في اغلب المراحل التاريخية. بينما كان تعامل الصليبيين استئصالي للمسلمين وحتى للمسيحيين الشرقيين وهذا ما فعلوه عند دخولهم للقدس اول مرة… وسرعان ما عاد المسلمين للتوحد تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي الذي أسقط حكم الصليبيين وأخرجهم من المشرق الإسلامي بالمطلق في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي…

الشرق الاسلامي العثماني وثوب الغرب الجديد.

لم يبق المشرق الإسلامي في حالة فراغ في القوة وسرعان ما ظهر العثمانيين في بداية القرن الرابع عشر الميلادي ليجمعوا شمل المسلمين الذين كانوا قد تحولوا إلى إمارات وسلطنات في أغلب الديار الاسلامية. وبدأوا في التوسع وإعادة توحيد الكيان الاسلامي. بل زادوا على ذلك بالتوسع خاصة باتجاه اوروبا. وكان للسلطان محمد الفاتح مجد فتح القسطنطينية في أواسط القرن الخامس عشر الميلادي حيث أصبحت منذ ذلك الوقت اسلامبول – اسطنبول عاصمة العثمانيين. ومع تواصل التمدد العثماني في أوروبا والوصول الى فيينا ومحاصرتها. …

أدرك الغرب أن التهديد الاسلامي العثماني الشرقي وجودي بالنسبة لهم ، وكانت استجابتهم لهذا التوسع متنوعة بدأت بالهدنة والدفاع وتقديم الجزية والأعطيات. وإعداد القوة للرد على هذا الاختراق لأوروبا . علما أن أوروبا في ذلك الوقت كانت مازالت تحت هيمنة الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان وهناك صراع بين ملوك دولها. وكان قد بدأ الغرب يخرج من ظلام  العصور الوسطى باتجاه مزيد من العلم والتنوير مستفيدا من الترجمات والعلوم التي حصلوا عليها سواء من الشرق الإسلامي ايام تألقه او من الأندلس كذلك. وبدأت حركة علمية تتوسع لتشمل كل مناحي الحياة. وأعادت الاعتبار للفلسفة. وبدأت تقدم تفسيرات للكون كما هو وليس كما كان مقررا حسب التفسير المسيحي. مثل مركزية الأرض في الكون وظهور نظرية محورية الشمس ضمن المجموعة الشمسية ومعرفة حقيقة الأرض ضمن الكون الكبير. ومثل ذلك في كل العلوم. مما جعل الغرب يتجه لتقليص دور الكنيسة ثم الى تحييده. ولكن الموقف من الشرق الإسلامي لم يتغير. فمازال العثمانيين خطرا وجوديا ومازال المشرق العربي حيث القدس مركزا دينيا مسيحيا يجب استعادته. لقد حجم الغرب المعاصر المسيحية لكنه لم يكف عن العداء للإسلام عقيدة ومنهج وسلوك وللمسلم بشكل عنصري. وان الغرب مازال مطلوب منه دور في الشرق. لقد غطى الغرب المتقدم الذي أصبح رأسماليا ولديه فائض قوة ومال وتجارة. ليستخدمها في احتلال العالم كله. وكان الشرق الإسلامي أول ضحاياه. وكانت السلطنة العثمانية عقبة استمر عبر مئات السنين يكيد لها حتى ادى لاسقاطها…

صحيح ان في السلطنة العثمانية ما كان سيؤدي لسقوطها. لانها لم تستطع ان تتجاوز العجز البنيوي فيها وهو أن تدخل في عصر العلم والتقدم التكنولوجي وإن تسابق الغرب في ميادين التطور لتحمي نفسها وتنتقل من الدفاع للهجوم. ورغم الدور الذي قام به السلطان عبد الحميد لإنقاذ السلطنة عبر عشرات السنين. لكن قدرها كان السقوط. ساعد في ذلك تخلف البنية التقليدية للدولة مع عدم مواكبة التقدم العلمي مع اختراق الدولة العثمانية من العلمانيين الأتراك الذين خدموا الغرب في إسقاط السلطنة العثمانية عندما كانوا أدواته في تهديمها. بوعي وبغير وعي، نموذجهم تركيا الفتاة…

الغرب غير استراتيجياته ولم يغير أهدافه في مواجهة الشرق.

لم يغير الغرب الذي خرج من عباءة المسيحية وكونها سبب عدائه للإسلام والمسلمين وأن القدس تحت هيمنة المسلمين. الى الانتقال الى اللبرالية والعلمانية والرأسمالية ليغطي ويبرر استعمار العالم منذ ما قبل القرن التاسع عشر سواء تحت دعوى نقل العالم للتحضر والتقدم ومسؤولية التنوير والتطوير. كانوا متوحشين و عدوانيين وقتلة. وكانوا عنصريين الى درجة تبرير استعباد البشر الافارقة كما حصل في امريكا. واستعمار الشعوب كما حصل في مشرقنا العربي بعد أن أسقطوا الخلافة العثمانية وتقاسمونا في المشرق العربي وشمال افريقيا كغنيمة استعمارية في اتفاقيات سايكس بيكو وما قبلها. وتوّجوا نصرهم على العرب بإعلان وعد بلفور لإعطاء اليهود فلسطين كوطن قومي لهم وتحقق ذلك برعاية انكليزية واعلان دولة الصهاينة في فلسطين عام ١٩٤٨م. وطرد الفلسطينيين بمئات الآلاف خارج وطنهم واستمرار هذه المشكلة الإنسانية والحقوقية مع المظلومية المستدامة لعقود طويلة وحق الفلسطينيين بدولة على ارضهم التاريخية ، مازالت مشكلة فلسطين قائمة للآن.

الجانب المعرفي في الكتاب.

لا نستطيع ان نختصر الكتاب بكونه غطى جوانب سياسية عامة وعريضة في التاريخ الممتد لآلاف السنين في العلاقة بين الغرب والشرق. بهذا نظلم الكتاب وغزارته المعرفية. اكاد اجزم ان الكتاب يتناول كل او أغلب ما كتب ونوقش عن كل المراحل التاريخية للعلاقة بين الغرب والشرق. مراجع البحث بالمئات الكتاب كثيف يصل الى ٥٥٠ صفحة تقريبا مراجعة وهوامشه ١٥٠ صفحة تقريبا. لقد دأب الكاتب في تناوله للموضوع وكأنه رسالة دكتوراه. وهي كذلك على ما اعتقد. وأعني فيها درجة الدقة والمتابعة والتنقيب المعرفي. وهذه ميزة للكتاب تجعلني اشجع على قراءته.  واضيف انه كنز معرفي الكتابة عنه لا تغني عن قراءته .

بخصوص المستقبل يدعونا الكاتب الى الامل اولا والى العمل وفق المبدأ العلمي: المعرفة اولا والبداية بالاعتراف بوجودنا في مجتمعاتنا على حقيقته. والبناء عليه مواقف علمية يجب أن نسير عليها. وتحويل ذلك لخطط استراتيجية نمارسها لنبني مستقبلنا الافضل.

نموذجنا وبكل فخر في العقود الاخيرة تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية والرئيس الطيب أردوغان الذي جعل تركيا نموذجا سياسيا ديمقراطيا و حضاريا وعلميا ومتقدم في التكنولوجيا والتصنيع وفي كل المجالات بحيث أصبح منار المسلمين والعرب منهم والمستضعفين في العالم. وأصبحت تركيا القوة المواجهة للعدوان العالمي وميزان حق وعدل وانسانية. ونحن كسوريين لن ننسى وقفة تركيا معنا منذ بداية ثورتنا للآن. ورغم وجود بعض الإشكالات الآن لكنا نؤمن بأن تركيا كدولة وقيادة قادرة على إيجاد الحلول وتمنع اي مظلومية مجتمعية على السوريين وغيرهم.

وماذا بعد: مازال مطلوب أداء رسالة النهضة.

لا يغيب عن عقل الكاتب وعن عقلنا حقيقة العلاقة بين الشرق والغرب وهيمنة الجانب الصراعي. وخاصة من جهة الغرب في كل عصوره تجاه الشرق في كل مراحله التاريخية. لم يغب عن بالنا أن الحل المستقبلي للعالم هو التوافق على المصالح المتبادلة للشعوب غرب وشرق. وان لغة الاستعمار وممارساته بتنوعها وتخفّيها. لن تزيد الحال الدولي إلّا صعوبة ومأساوية. وان الحل هو توافقات تبحث عن المشترك بين البشر والعمل سوية لتحقيق الخير للبشرية جمعاء… ولو أن ذلك من باب الاحلام.

الغرب مازال يبني قوته على حساب بلاد العالم الثالث والشرق المسلم جزء منه. مازال يدعم الكيان الصهيوني المجرم الظالم في فلسطين. ومازال يدعم الانظمة العربية الاستبدادية الظالمة المتوحشة لكونها تخدم مصالحه، رغم سجلها في قتل شعوبها وتشريدهم وتدمير بلادهم خاصة في سوريا..

مع ذلك مستمرين حاملين الأمل و مقررين ان نعمل لبناء حياة الإنسان الافضل حيث نوجد ، لتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية. والحفاظ على كرامة الإنسان، كل إنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى