“العمل السياسي السوري” و” سوق العمل” بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة

إبراهيم الجبين

قد يبدو لنا كسوريين، من خارج المشهد الأوروبي والأميركي، أن أحوال العمل السياسي في تلك البلدان، هي ذاتها التي اعتدنا عليها في العالم، وأن الاشتغال بالشأن العام لابدّ وأن يختلط بالنضال والتضحيات والخسائر الفردية على طول الخط. ولعلي لا أبالغ إن قلت إن كل المشتغلين في العمل السياسي ضد الأنظمة العربية وأنظمة الشرق الأوسط، دفعوا أثماناً باهظة، في السجون والمعتقلات والمنافي وصولاً إلى فقدان كثيرين منهم لوظفائهم وحتى حياتهم وحياة أعزاء عليهم.
هذا ما نعرفه. لكن الواقع يقول عكس ذلك. فالتطوّر الهائل في كافة المجالات في الغرب، لا سيما في الولايات المتحدة، تكنولوجيا وإدارياً، ومعه تقدّمُ مفهوم العمل عن نظيره في العالم الثالث، جعل من العمل السياسي (عَمَلاً) بمعنى الكلمة، و(حرفة) تتأثر بما تتأثر به أي مهنة أخرى، وهذا لمن لا يقاربه مقاربة علمية، سوف يظهر كضرب من الخيانة للمبادئ والمثل والقيم السياسية. غير أنه مرحلة متقدمة من مراحل الاختصاص، وحالة سوف يصل إليها هذا الحقل في بلداننا مع التغيير الكبير الذي يضرب العالم كعاصفة حداثية وما بعد حداثية وما بعد بعد حداثية، كما يقول كبار نقاد الكوكب.
والمشهد السوري الأميركي، وإن كان قد ظهر كما لو أن صراعات تشوبه، أو نزاعات تعتريه، بما عاد بخيبة الأمل على السوريين الذين يراقبونه بتطلّع ولهفة، والكثير من التمنيات للعاملين فيه بأن يوفّقوا إلى تحقيق منجزات تخدم القضية السوري، لهو مشهد لا ينفصل عن سوق العمل في الولايات المتحدة. سوق واختصاصات ومرتبات وتكاليف ومهام عليها أن تُنجز، بعيداً عن التصفيق والتقريع، وبعيداً عن التسليم المطلق أو التخوين.
وإذا اتفقنا على أن المنظمات الأميركية السورية، والموظفين فيها، من غير المتبرعين الكبار، إنما هي تقوم بمهام مهنية، كالمتابعة والتشبيك السياسي والتغطية الإخبارية والتحشيد والمناصرة، فسنجد أنفسنا في فسحة من الحرية تتيح لنا انتقاد الأداء المهني لهؤلاء إن رأيناهم يقصّرون في أداء وظائفهم (المأجورة والتي يتقاضون عليها مرتباتهم). وسنرى أن التسامح في متابعة ومراقبة أداء موظْف يتلقى مرتباته من صندوق تصب فيه تبرّعات الجالية السورية في الولايات المتحدة، أمر طبيعي جداً، لا بل واجب، ومن دون القيام به يكون السوريون مقصّرين كل التقصير، لماذا؟ لأن تقصيرهم هذا سلوك جدير بالتطبيق على كل من يعمل بأجر في القضية السورية، وبالدرجة الأولى مؤسسات المعارضة السورية التي يتلقى موظفوها مرتباتهم من أموال الدعم القادم للقضية السورية.
هذا هو الدرس الذي تعلّمنا إياه مقاربة حالة متطورة من العمل السياسي لم نعهدها من حولنا.
فحين نسمح لأنفسنا بمحاسبة قادة ومسؤولي مؤسسات المعارضة، ويطلق البعض عليهم “ثوار الفنادق” بسبب التكاليف العالية التي تتطلبها مهامهم، ويسائلهم كثيرون عن مرتباتهم ونفقاتهم، فمن باب أولى أن يشمل هذا النقد أو مثيله، كافة الموظفين في مؤسسات معارضة أخرى (رسمية كانت أو خاصة). أما المتطوّعون والعاملون بلا أجور، فهؤلاء ليس لأحدٍ عندهم شيء يسألهم عنه. يقدّمون وقتهم وطاقاتهم مجاناً من أجل هدف نبيل، ويضحّون من أجل غاية سامية، لكن الموظفين وضعهم مختلف.
إدعاء تحقيق الإنجازات، انحراف عن أداء المهمة بأمانة، وهو يشبه تقصير مهنّدس في بناء سدّ، أو متعهّد في تشييد عمارة من طوابق عديدة، إن أخطأ سيتسبّب بإشكالات كبيرة، وإن تستّرنا عليه سنكون شركاء في خداع الآخرين والتسبّب بالضرر الشديد الذي سوف يصيبهم حتماً.
وهذا كلّه قد يكون قابلاً للنقاش، إذا لم ينعكس على المخرجات السياسية لأداء من هذا النوع. فمن يذهب إلى اجتماع سياسي، بلا رؤية سياسية، بل مدفوعاً بتحقيق مصالح مباشرة (وإن كانت مهنية أو استثمارية) سوف يرجع من هذا الاجتماع بمحصّلة تتناسب مع ما يريد هو، لا مع ما تريد السياسة، ولا مع ما تتمنى القضيّة السورية وشعبها. وهنا خطورة تواصل البعض مع منظمات إرهابية بذريعة الانفتاح والبراغماتية، فالمنظمات الإرهابية تريد منهم شيئاً وهم يريدون شيئاً آخر.
المنظمات الإرهابية مثل PKK تريد من مثل هذا الاجتماعات واللقاءات التي انجرفت إليها بعض المنظمات الأميركية السورية، شيئاً وحيداً، هو اكتساب المزيد من الشرعية في الساحة السورية، وهو مكسب سياسي. بينما تريد تلك المنظمات تنفيذ مشاريع وتحقيق إنجازات مهنية وظيفية، وهو مكسب شخصي.
واللقاءات والاجتماعات التي تجري مع مسؤولين أو مشرّعين لديهم مواقف داعمة لرفع العقوبات عن نظام الأسد، ما الذي يريده منها المسؤول أو المشرّع الأميركي؟ يريد القول إنه وبسبب اتصاله بالسوريين و(ممثليهم) فهو على اطلاع كافٍ بالوضع السوري، وبذلك يعزّز ويقوي موقفه الداعم للأسد. بينما ما تريده المنظمات التي تلتقي به، هو أن تقول لداعميها والمتبرعين من أبناء الجالية السورية أنها تعمل، وأنّها (تحلّل لقمتها) المسحوبة من جيوب المتبرّعين.
فمن الخاسر في مثل هذه المعادلة؟ أليس هو الشعب السوري، أليست هي القضية السورية كلّها؟
مناخ مثل هذا سيسوده بالطبع تنافسٌ شرس، طابعه الأول (مهني بحت)، لكن منعكساته خطيرة للغاية. ولا حلّ لها إلا بالمواكبة، الداعمة حيناً والمنتقدة حيناً إن تطلّب الأمر. أما اعتبره بعض المخلصين والغيورين من السوريين على أداء أبنائهم في الولايات المتحدة، نوعاً من نشر الغسيل، فهو الوضع الطبيعي، ولا صراع فيه ولا تجنّ على أحد، ولا مصلحة لأحد بأن تبقى الظاهرة السلبية على حالها، فهي سوف تتدهور أكثر وأكثر إن تُركتْ بلا رصد موثّق. وهو بالنهاية نقدٌ مهنيٌ موجّه إلى مهنيين يقومون بمهمّات ويتقاضون عليها أجورهم وتكاليف إقاماتهم وتنقلاتهم وغير ذلك دون نقصان.

 

المصدر: غلوبال جستس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى