الطريق الصحيح لولادة الدساتير هو التفاهمات الواسعة بين شرائح المجتمع بمختلف ميولها وتوجهاتها ووظائفها على إعداد مسودات يتم طرحها ومناقشتها ودمجها بعد غربلتها للتصويت عليها وتبنيها من قبل الأغلبية.
بين التعريفات المتفق عليها حول توصيف الدستور هناك مصطلح “القانون الأعلى في الدولة”، والذي يتمّ من خلاله تحديد شكل الدولة، ونظام حكمها، وطبيعة السلطات، واختصاصاتها، والعلاقات فيما بينَها، وحدودها، إلى جانب تحديدِه لحقوق المواطنين أفراداً، وجماعاتٍ، وضمان أداء هذه الحقوق تجاه السلطة.
تعرف الأتراك باكرا إلى دساتيرهم. البداية كانت في العام 1808 مع سند الاتفاق. لكن الحصيلة كانت موجعة في العام 1982 مع دستور العسكر الانقلابي المعمول به حتى اليوم. 8 دساتير أقرت خلال نحو عقدين من الزمن أطولها عمرا هو القانون الأساسي الذي دخل حيز التنفيذ في العام 1876 واستمر حتى العام 1921. فهل يصمد دستور 1982 ليحطم هذا الرقم القياسي، أم إن القيادات السياسية والحزبية التركية ستصل في نهاية الأمر إلى قواسم مشتركة وتفاهمات تنهي وجود هذه الوثيقة التي لا تعجب أحدا في تركيا، وتطالب المجموعة الأوروبية أيضا بتغييرها على طريق العضوية التركية في الاتحاد؟
كلما اقترب موعد 12 أيلول من كل عام تذكر الأتراك تاريخ الانقلاب العسكري الذي جرى قبل 43 عاما وفتح الطريق أمام إقرار دستور بلباس عسكري أراده قادة الانقلاب بقيادة كنعان إفرين. وهذا ما يساعدنا في الإجابة على سؤال لماذا عاد اليوم موضوع إعداد دستور جديد إلى واجهة النقاشات السياسية والحزبية في تركيا؟
تتسابق القيادات السياسية التركية ومنذ عقود للترويج لضرورة صناعة دستور عصري جديد بدلا من الدستور الحالي. هل هناك مؤشرات تعكس فرص إمكانية التنسيق والتفاهم بين القوى السياسية والحزبية والاجتماعية الفاعلة حول فتح الطريق أمام إعداد مسودة من هذا النوع؟ وهل الأجواء القائمة اليوم تساعد على إطلاق خطوة من هذا النوع تتطلب أشهرا طويلة من العمل والجهد والتعاون بين شرائح المجتمع التركي للوصول إلى نص قانوني يرضي الأغلبية؟ وهل موضوع الدستور هو بين أولويات المواطن التركي أم إن ما يبحث عنه هو الخروج من أجواء الأزمات الاقتصادية والمعيشية الصعبة؟ لماذا لم يحاول حزب العدالة والتنمية عندما كانت الفرصة سانحة في العام 2017 وهو يطرح مسألة التعديلات الدستورية الأساسية في بنية النظام وشكله ويروج لاستفتاء شعبي بهذا الخصوص، أن يذهب وراء تقديم مسودة دستور جديد يقترع المواطن التركي عليها مصحوبة بما أراده من تعديلات جذرية سياسية وقانونية؟
يقول صانع دستور العسكر الأكاديمي وأستاذ القانون الدستوري أورهان الدي كاشتي إن الهدف وقتها كان نقل هذه الوثيقة للأحفاد والأجداد. يبدو أنه كان محقا في ذلك فرغم كل الانتقادات والرفض الذي يواجهه هذا الدستور ما زال ساري المفعول حتى اليوم.
من يقود البلاد هو الدستور ومحتواه حتما. لكن مسألة التنفيذ وعدم الخروج عن مواد الدستور وتحويلها إلى مواد مطاطة بحسب المتطلبات والمصالح مهمة أيضا. استفتاء عام 1982 دعمه 91 بالمئة من المواطنين الأتراك. بعد سنوات فقط تخلى المواطن عن دعمه وشرعت القيادات السياسية والحزبية في انتقاده ومهاجمته والمطالبة بتغييره. السبب الأول هو دور المؤسسة العسكرية في رسم معالم مواد هذا الدستور وفرضها على الجميع في تركيا.
في العام 2004 ذهب حزب العدالة والتنمية وراء تعديل دستوري مهم هو في المادة 90 التي تفتح الطريق أمام الالتزام بمعاهدات المجلس الأوروبي والنظام الداخلي لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية وتضمينها التعديل الدستوري في هذه المادة. أوروبا التي رحبت بهذه الخطوة تقول اليوم إن هذه التعهدات لا تنفذ كما ينبغي.
يهاجم الأتراك دستور العام 1982 لكنهم لا يجيبون على سؤال كيف تمكن من الحصول على دعم 91 بالمئة من ملايين المشاركين، وكيف أقنع العسكر المدنيين بالوقوف إلى جانبهم بهذه النسبة الكبيرة؟
مسؤولية القيادات السياسية والحزبية هي تحريك المؤسسات والهيئات الرسمية والخاصة باتجاه إعداد المسودات الدستورية ودمجها وغربلتها على طريق صناعة النص النهائي والاتفاق حوله وإقراره وتبنيه. التوافق السياسي الحزبي المصحوب بدعم شعبي هو نقطة البداية. وهذا ما لم يتحقق حتى اليوم. مضى على دستور العسكر 41 عاما. تعرض إلى 179 عملية تعديل دستوري و44 عملية إلغاء لمواد متنوعة. لكن معضلة التغيير والتعديل الجذري الحقيقية لم تكتمل بعد.
لا تقل أهداف الاستفتاء التاريخي في تركيا الذي جرى في العام 2017 حول التعديلات الدستورية التي تهدف إلى نقل البلاد من النظام البرلماني إلى الرئاسي، عن أهداف الذهاب وراء التحضير لدستور جديد يريده وينتظره غالبية الشعب التركي. لكن العقبات كثيرة يتقدمها الحصول على الأكثرية المطلوبة تحت سقف البرلمان وهي 400 صوت مؤيد من أصل 600 نائب. أو 360 صوتا لتسهيل الطريق نحو الاستفتاء الشعبي. ثم الوصول إلى نحو 70 أو 80 بالمئة من مجموع أصوات المواطنين في أية عملية استفتاء وهي صعبة على ضوء استفتاءات مشابهة أو بناء على الاصطفافات المتقاربة في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية الأخيرة.
قدم حزب العدالة والتنمية الحاكم لتركيا إنجازات إنمائية واستراتيجية عملاقة في الداخل والخارج، ونَقل البلاد من مكانة إلى أخرى بين الدول الأغنى والأقوى في العالم، لا بدّ أن يعتمد استراتيجية مغايرة في عملية التحضير لصناعة دستور جديد. إذا كانت القيادات السياسية والحزبية التركية تبحث فعلا عن تسهيل ولادة دستور جديد فلا خيار آخر أمامها سوى التفاهم والتعاون من أجل صناعة مسودة هذا الدستور تحت سقف البرلمان كمجلس تأسيسي ينجز هذه المهمة.
الدستور هو عَقد اجتماعي ينظّم العلاقة بين مكوّنات المجتمع في دولةٍ ما، ولا بدّ خلال إعداده من إشراك أوسع شريحة ممكنة في القرار. القيادات السياسية التركية فشلت أكثر من مرّة في الاتفاق حول إعلان دستور جديد، رغم أنّه مطلب الجميع في البلاد.
قد لا يكون أردوغان نجح تماما في إسقاط دستور العسكر، لكنه نجح في كسب الجولة الأولى التي ستسهل إطلاق يده في الإعلان عن دستور جديد سبق أن وعد به قبل 22 عاما، وقطع شوطا كبيرا في التحضير له، لكنه أجبر على إرجاء تنفيذه أمام ضغوط المعارضة وانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض.
الدستور الجديد في تركيا يتطلب تفاهمات واسعة بين القيادات السياسية والحزبية حول مسائل تباعد وخلاف كثيرة ومتنوعة. من الصعب جدا الحديث عن اختراقات قبل انتهاء الانتخابات المحلية في آذار المقبل فهي قد تقلب خريطة التحالفات القائمة وتفتح الطريق أمام توازنات سياسية وحزبية مغايرة تسهل تحقيق هذا الحلم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا