استمرت المواجهات شرقي دير الزور بين مقاتلين من أبناء العشائر و ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) 12 يومًا، حتى أعلنت الأخيرة في 8 من أيلول الحالي، انتهاء عمليتها العسكرية، ما فتح باب التساؤلات عن التفاهم الذي هدأت بموجبه المواجهات، وهل يمكن لـ”قسد” ومن ورائها “التحالف الدولي” تغيير سياساتها في المنطقة لإرضاء أبنائها.
وكانت الاشتباكات المسلّحة تنذر بمعارك تغيّر خريطة المنطقة، لا سيما وأنها تحمل خصوصية عشائرية، وغضبًا مكتومًا في صدور أبناء المنطقة، بعد تهميشهم منذ سنوات من قبل “قسد” ومظلتها السياسية “الإدارة الذاتية” التي تدعمها واشنطن.
وهددت مواجهات مسلحة الاستقرار النسبي في المنطقة المتاخمة لأماكن تمركز الميليشيات الإيرانية على ضفة نهر الفرات الغربية، ومع تحوّلها إلى مداهمات واعتقالات فتحت الباب أمام تساؤلات عن دور العشائر المقبل الذي يُطرح على الطاولة مع أي حراك، وسط انتقادات حاضرة منذ سنوات لإقصاء المكوّن العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات داخل المؤسسات العسكرية والمدنية في المنطقة.
وفي 9 من أيلول الحالي، اعترف القائد العام لـ”قسد” مظلوم عبدي خلال حديثه لموقع “المونيتور” بما أسماه “قصورًا على صعيد تقديم الخدمات البلدية والأمنية في دير الزور” إلى جانب مشكلات في قضايا القانون والعدالة، ما خلّف مظلومية للعشائر العربية بالمنطقة.
سبق حديث عبدي الأحدث، آخر لوكالة “رويترز“، تعهد خلاله بتلبية مطالب العشائر العربية شرقي سوريا وإصلاح “الأخطاء” التي قال إنها ارتكبت في إدارة المنطقة سعيًا لنزع فتيل التوترات بعد أيام من القتال شهدته دير الزور.
وتدعم قوات التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية “قوات سوريا الديمقراطية” وتعتبرها شريكة لها في عملياتها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
“نهاية المواجهات”.. عشرات القتلى
في 28 من آب الماضي، اندلعت المواجهات بين “قسد” ومقاتلين من “مجلس دير الزور العسكري” التابع لها، على خلفية اعتقال “قسد” لقائد “المجلس”، أحمد الخبيل (أبو خولة)، إثر خلاف بين الجانبين دام أكثر من شهرين.
وتزامنًا اعتقال “أبو خولة”، أعلنت “قسد” عن إطلاق حملة أمنية حملت اسم “تعزيز الأمن”، وشملت مناطق شرق الفرات بالكامل، دون الإشارة إلى علاقة “مجلس دير الزور” فيها، كما ذكرت أنها تلاحق خلايا “أرسلهم النظام السوري إلى المنطقة لإحداث فتنة أهلية”.
المعارك استمرت بين الجانبين لـ12 يومًا أطلقت عليها “قسد” اسم عملية “تعزيز الأمن” دون التطرف إلى خلافها مع مكونات المنطقة، أو مع “مجلس دير الزور”، مخلفة قتلى وجرحى من مدنيين وعسكريين.
وفي 7 من أيلول، قال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، نقلًا عن تقارير، إن المواجهات في أرياف دير الزور الشمالية والشرقية أسفرت عن 69 قتيلًا و96 جريحًا منذ بدايتها حتى 4 من أيلول.
اتفاق غير مُعلن.. مناوشات حاضرة
في اليوم الذي أعلنت فيه “قسد” عن توقف العمليات العسكرية، ذكرت صفحات إخبارية محلية عن وجود اتفاق لم يبصر النور وكان بشكل “غير رسمي”، بين العشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي و”قسد”، ينص على تسليم الآليات التي استولى عليها مقاتلو العشائر إلى “قسد”، ودخول الأخيرة المناطق التي خرجت عن سيطرتها خلال الأيام الماضية دون قتال.
وقال موقع “فرات بوست” المحلي، إن دفعة من الآليات العسكرية التي استولى عليها المقاتلون سُلّمت بالفعل إلى “قسد” بعد مفاوضات مع وجهاء المنطقة، تم خلالها الاتفاق على السماح لـ”قسد” بدخول مناطق الريف الشرقي تباعًا دون قتال، مع التشديد على عدم التعرض للمدنيين والممتلكات الخاصة.
منذ إعلان “قسد” انتهاء العملية العسكرية، تشن حملات مداهمة وتفتيش واعتقالات على بلدات وقرى ريف دير الزور الشرقي والشمالي، وأحدث ما جرى في هذا الصدد، اشتباكات مع مقاتلي أبناء العشائر في بلدة ذيبان، الخميس 14 من أيلول، بحسب مراسل عنب بلدي في دير الزور.
موقف أمريكا: بيانان ولقاء وطلب
أول موقف للتحالف الدولي حيال الاشتباكات كان بعد ثلاثة أيام من المواجهات، عبر بيان أصدره في 31 من آب، ذكر فيه أن دور قوات التحالف يقتصر على تقديم “المشورة والمساعدة والتمكين للقوات الشريكة”، من أجل هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
الموقف الثاني كان عبر بيان مشابه صدر في 2 من أيلول، قال التحالف فيه إن قوة المهام المشتركة في “عملية العزم الصلب” تدعو إلى الوقف الفوري للاشتباكات المستمرة في دير الزور، مضيفًا أن زعزعة استقرار المنطقة بسبب أعمال العنف الأخيرة قد أدت إلى “خسائر مأساوية وغير ضرورية في الأرواح”.
واتهم التحالف الدولي “جهات فاعلة خبيثة” دون تسميتها، بالتأثير على القادة المحليين عن طريق “وعودهم بالمكافآت”، طالبة منهم مقاومة هذه الجهات، وعدم الانجرار للاشتباكات التي يمكن أن تؤدي لـ”عواقب وخيمة” منها عودة تنظيم “الدولة”، وفق البيان.
بعد يوم من البيان الثاني، أعلنت السفارة الأمريكية في سوريا، عن لقاء نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، إيثان غولدريتش، وقائد عملية “العزم الصلب”، اللواء جويل فويل، في شمال شرقي سوريا، مع “قسد” و”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)، وزعماء القبائل في دير الزور.
واتفقوا على أهمية معالجة مظالم سكان دير الزور، ومخاطر التدخل الخارجي في المحافظة، وضرورة تجنب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، ووقف تصعيد العنف في أسرع وقت ممكن، بحسب السفارة.
وطالبت نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي، دانا سترول، “قسد” والعشائر العربية بوقف فوري للاشتباكات في دير الزور شرقي سوريا، بحسب ما نشرته قناة “الجزيرة” اليوم، مشيرة إلى أن الاشتباكات “تقوض مهمة القضاء على تنظيم (الدولة الإسلامية) وتهدد أمن القوات الأمريكية المتمركزة في سوريا”.
ما مشكلة التمثيل العربي؟
تراكمت أزمة نقص التمثيل العربي وتدخل قادة حزب “العمال الكردستاني” في إدارة مفاصل مناطق لا تمتلك فيها “قسد” حاضنة شعبية حتى انفجرت مؤخرًا في دير الزور، ووصلت إلى صدام مباشر مع مجموعات عشائرية وجدت نفسها فجأة محاصرة دون قادة الصف الأول لـ”مجلس دير الزور العسكري”، الذين اعتقلوا أو حوصروا من قبل “قسد”.
وتضم مؤسسات “قسد” العسكرية والمدنية العديد من الشخصيات العربية التي يتجاهلها سكان المنطقة عند مطالبهم بتعزيز المكوّن العربي في هذه المؤسسات، باعتبارهم محسوبين على “قسد” منهم قائد “مجلس دير الزور العسكري”، “أبو خولة”.
ومع تكرار الاتهامات بحقها منذ بداية تأسيسها عام 2016 بأنها كيان “انفصالي” يسعى لسلخ قطعة من الأراضي من السورية، نفت “قسد” على لسان القيادي فيها محمود برقدان، جميع هذه الاتهامات.
وجاء في حديث برقدان مع وكالة “هاوار” الكردية المُقربة من “قسد”، أن الأخيرة تناضل في سوريا من أجل “دمقرطة البلاد”.
وأضاف أن جميع القوميات والأعراق من عرب وكرد وآشوريين في سوريا يتمتعون بكل حقوقهم، وهو ما اعتبره دليلًا على عدم نية “قسد” طرح خطة للتقسيم.
استقرار مبني على إرضاء الأطراف
يفتح أي تحرك عسكري في المنطقة الحديث عن إحياء وتفعيل المكوّن العشائري، إذ يعتبر ملف العشائر أحد الملفات الشائكة في منطقة تشهد تجاذبات وصراع قوى، ومشاريع لدى بعضها بتأسيس كيان مستقل أو حكم ذاتي.
الصحفي والباحث السياسي فراس علاوي، قال لعنب بلدي إن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل من منطلق الحفاظ على توازن المنطقة والتعامل مع الأقوى فيها، لذلك هي ترى بضرورة التعامل بطريقة مناسبة في حال وجود أي اختلال بتوازن القوى في المنطقة.
وأوضح علاوي أنه في حال رأت أمريكا أن العشائر باتت لها قوة وسيطرة فإنها ستحاول بداية الحد من هذه القوة، وبنفس الوقت تعطيها دورًا أكبر.
وذكر علاوي أن عملية مفاوضات تجري ما بين جميع الأطراف المتنافسة بالمنطقة برعاية التحالف، ويعتقد أن الولايات المتحدة في حال رأت أن دور العشائر سيخدم أغراضها في المنطقة فستمنحهم ذلك الدور، معتبرًا هذا طلبًا أساسيًا للتحالف بأن تدير العشائر منطقتها بعيدًا عن “قسد”.
ويرى علاوي أن تحقيق طلبات أهالي المنطقة يعتبر جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية بما يضمن الاستقرار بالمنطقة، وفي حال انحاز التحالف لـ”قسد” بشكل أكبر ولم يستجب لطلبات العشائر، فالوضع سيبقى غير مستقر مع احتمالية حدوث تصعيد وتطورات لاحقة مستقبلًا، معتبرًا أن الأمريكان سيأخذون بعين الاعتبار أن حالة الاستقرار مبنية على إرضاء كل الأطراف.
هل “قسد” قادرة على الإصلاح؟
رغم محاولات “قسد” وقائدها مظلوم عبدي الترويج لما حدث في دير الزور على أنه موجهات ضد خلايا مدعومة من النظام السوري، وخارجين عن القانون، عززت البيانات الأمريكية، التي دعت إلى التهدئة، واقعية الأحداث بكونها مواجهات مع المكون العربي في المنطقة.
عبدي قال خلال مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربية إن “قسد” كانت تقاتل “قوات قبلية” نظمها النظام السوري، ومولت وسلح العديد منها من قبل إيران، وكان من بينهم أيضًا ضباط مخابرات يتبعون للنظام السوري تمكنت “قسد” من القبض على بعضهم.
وفي الوقت نفسه قال إن “قسد” بادرت للحوار مع الشيخ إبراهيم الهفل، الذي بات يمثل الحراك العشائري في دير الزور، لكنه رفض المبادرة.
الباحث في مركز “عمران” للدراسات أسامة شيخ علي، قال لعنب بلدي إن الحديث عن إصلاحات و”عفو عام” من قبل “قسد” عن أبناء المنطقة مرتبط بالمفاوضات التي ترعاها أمريكا بين الطرفين في قاعدة “حقل العمر” التابعة للتحالف شرقي دير الزور.
وأضاف أن “قسد” تعرضت لـ”إحراج” في الأوساط الغربية كون مناطق سيطرتها في سوريا تعتبر ذات تنوع مجتمعي واسع، لكنها لم تتمكن من إدارتها بصورة طبيعية، ما دفع لإطلاق هذه الوعود، في محاولة لتبييض بعض السلبيات التي ارتكبتها مؤخرًا.
وعزز “الإحراج” الذي تعرضت له “قسد” عدم وجود أي وسائل إعلام لتغطية الأحداث في المنطقة غير تلك الموالية لها أو المقربة منها، ووسائل إعلامها الرسمية فقط، بحسب شيخ علي.
الباحث شكك بقدرة “قسد” على تنفيذ الوعود التي قدمها عبدي بالإصلاح، كونها تحتاج “تضحيات كبيرة”، لكنها ستكون إيجابية بالنسبة للأطراف إن حدثت.
الأحداث شكلت ضغطًا على “قسد”
ما إن اشتدت المواجهات شرقي دير الزور حتى بدأ مقاتلون من أبناء العشائر شرقي حلب، عملًا عسكريًا باتجاه قرية البوهيج وتلال الحمرا وتورين والبوغاز في ريف منبج، لتخفيف الضغط عن أبناء دير الزور، تزامنًا مع عمليات مشابهة في رأس العين شمالي الحسكة.
وحاول النظام السوري استغلال حراك أبناء العشائر والترويج له على أنه “مقاومة شعبية” ضد “الاحتلال الأمريكي” و”قسد” المدعومة من قبله، علمًا أن انتفاضة العشائر نفسها تطالب التحالف بمنح المكون العربي مزيدًا من التمثيل في المنطقة على حساب السلطات التي تمثلها شخصيات كردية من “قسد” قادمة من خارج المنطقة.
الباحث أسامة شيخ علي قال لعنب بلدي إن الأحداث المتوالية عقب اندلاع المواجهات شكلت ضغطًا على “قسد”، إذ بدأت الأطراف المحلية المعادية لها باستغلال المواجهات في دير الزور.
وفي مواجهة الضغط الذي تشكّل عليها قدم مظلوم عبدي وعودًا بالإصلاح، مقابل سردية المظلومية العربية التي خلفتها ممارسات “قسد” في المنطقة.
وستنعكس محاولات الإصلاح، إن حدثت، على أرض الواقع خلال فترة ليست ببعيدة، بحسب الباحث، إذ ستعمل “قسد” على تغيير القادة الأمنيين الذين شاركوا بالعمليات في دير الزور وعلى رأسها “هافال روني” قائد العملية التي أطلق عليها اسم “تعزيز الأمن”، أو القيادي الكردي الملقب بـ”باران” الذي يسيّر الأمور الأمنية والخدمية بدير الزور.
وفي حال غيّرت “قسد” الشخصيات المسؤولة عن انتهاكات في المنطقة ستظهر محاولات الإصلاح في المنطقة، لكن لا يمكن الجزم بحصول تغيير إن لم تحدث هذه التغييرات على الصعيد الأمني.
المصدر: عنب بلدي