إنّ بداية مسار تعقيدات الثورة تعود إلى خصوصية بنية المؤسستين العسكرية والأمنية للسلطة السورية، التي لم تأخذ، كما حلم البعض، الموقف المحايد للجيشين التونسي والمصري، بل اختارت منذ الأيام الأولى للثورة الحل الأمني واستخدام الرصاص الحي ضد الثوار السلميين. إذ بدا زمن التحوّل الثوري ثقيل جداً في سورية، فهو مكتظ بالضحايا والآلام التي لم يشهد شعب ثائر لها مثيلاً.
لقد تشابهت الثورات العربية في أسباب نشأتها ومعاناة شعوبها ودوافع التمرد، لكنها تمايزت في أشكال حضورها ومحطاتها وشدة القمع المطبق ضدها، ومما يميز الثورة السورية: أنها الأكثر تمدداً على صعيد الانتشار الجغرافي، بالمقارنة مع باقي الثورات العربية. وهي الأكثر مثابرة رغم التعرض لسادية الأجهزة الأمنية المدعومة بميليشيات ” الشبيحة “، من سلطة بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين الذين جلبوا إلى سورية عناصر مقاتلة من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، في مواجهتها.
إنّ الطابع العام للثورة ظل مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحول العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية. وهي تعرف أنّ هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأنّ أمامها مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنها تعرف أيضاً أنّ لا عودة إلى الوراء، وأنّ لا خيار أمامها سوى مواجهة ظلام هذا الليل الطويل بالصمود والتحدي والتفاؤل. فقد جاءت الثورة السورية من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ خمسة عقود. وهكذا أضحت الثورة السورية جهداً هائلاً من قبل جمهور كبير من السوريين لتملّك حياتهم والاستحواذ على السياسة، أي التنظيم المستقل والكلام المستقل والمبادرة المستقلة. وما نشهده في السويداء من تجديد لشعارات الثورة في موجتها الثانية، منذ عدة أسابيع، يؤكد إصرار الشعب السوري على تملّك حياته.
لقد كانت النساء السوريات حاضرات بقوة في التظاهرات السلمية في أحياء دمشق وحمص وحلب وحماه وكل المدن والقرى السورية، كما كان لهن دور كبير في تشكيل التنسيقيات الأولى، وفي كتابة البيانات الثورية، وتصوير الأفلام ونقلها إلى الإعلام وإغاثة المتظاهرين وتشكيل لجان دعم للحراك الشعبي، وجمع التبرعات المالية، وربط أواصر الوحدة الأهلية عبر التوعية بين الأهالي. والأهم من كل هذا النشاط الملحوظ الذي قمن به في إغاثة الجرحى، والدور الذي لعبنه مع تنسيقية الأطباء. وفي ربط التنسيقيات بين مختلف المدن، وفي قيادة التظاهرات وُجدت أكثر من ناشطة تقودها بشكل علني. وعدا ذلك، كان للنساء نصيب كبير من الاعتقال والمطاردة والتعذيب. واليوم تجدد حرائر السويداء، من خلال مشاركتهن الفعّالة في الموجة الثانية.
لقد دخلت الثورة مجال التسلّح والعسكرة والعنف كردّ فعل على قمع الأجهزة الأمنية لسلطة آل الأسد للحراكات الشعبية السلمية وكسرها، ومن ثم إقحام الجيش في الصراع الداخلي، واستخدامه في ترويع السوريين وامتهانهم وقتلهم وتدمير بيوتهم وممتلكاتهم، ما ولّد ظاهرة الانشقاقات، ونشوء تشكيلات ” الجيش الحر “، الذي تغذّى فقط من غضب السوريين، على السلطة الباغية، ومن توقهم إلى الحرية والكرامة. والأخطر أنّ كثيراً من حملة السلاح كانت الأجهزة الأمنية للسلطة قد سهّلت ذهابهم لـ ” الجهاد في العراق ” واستخدمتهم من أجل عسكرة وأسلمة الثورة.
وما يثلج صدور كل حرائر وأحرار سورية اليوم أنّ الحراك الشعبي في السويداء قد استفاد من دروس الموجة الأولى، من خلال سلمية الحراك ووطنيته السورية الجامعة.