لحلب الشهباء، عاصمة الموشحات والقدود ورقص السماح، مكانة خاصة في سيرة الموسيقار العبقري سيد درويش (1892- 1923، علما أن معظم المراجع تردّ وفاته إلى العاشر من سبتمبر/ أيلول، إلا أن التاريخ على شاهدة قبره يدلّ على أنه توفيّ فعليا في 15 سبتمبر) ففيها اكتشف موهبته التلحينية وأطلق لحنه الأول “وأنا مالي”، وعلى شيوخها حقّق حلمه بدراسة الموسيقى الشرقية دراسة علمية، ومنها عاد إلى مصر فنانا مكتمل العدّة، أبدع أروع الموشّحات والأدوار والطقاطيق التي حفرت عميقا في وجدان المواطن المصري والعربي، ولا يزال يردّدها المطربون والمطربات من المحيط إلى الخليج.
كانت حلب، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حلما لأي موسيقي عربي، نظرا إلى ما حفظته نواديها الاجتماعية، وزواياها الصوفية، وبيوتاتها العريقة، من تقاليد راسخة في فنون الطرب والتوشيح الموغلة في أصالتها. حفظ لنا الممثل والموسيقي المصري عمر وصفي (1874- 1945) وصفا نادرا للأجواء الموسيقية التي كانت تعيشها هذه المدينة الواقعة في شمال سوريا، حين كان في زيارة لها عام 1897، بصحبة معلّمه أبي خليل القباني، وهما يبحثان عن المطربة الذائعة الصيت يومها ملكة سرور، إذ يقول: “في الصباح اتخذنا الطريق إلى حلب… مدينة الملاهي، وقد بلغناها بعد سير يومين، فكان وصولنا إليها ليلا، فإذا نحن في مدينة ساهرة، مدينة الملاهي والطرب والرقص والغناء، شوارع صفّت على جانبيها المقاهي، وقد غصّت بالجالسين، وفيها المطربون يشنفون الأسماع، والراقصات يمتعن الأبصار، والموسيقى تصدح في كل مكان. مدينة حلب، المدينة الساهرة بين الغناء والرقص والموسيقى، فإذا انقضى الليل وجاء الصباح استيقظ الناس وهرعوا إلى المقاهي، فإذا الموسيقى تصدح في كل مكان، إذا الغناء والطرب والرقص… فهذه المدينة الدائمة التي لا تنقطع، طرب في الصباح حتى ينتصف النهار، وهذه هي الصبحية، كما يدعونها، فإذا جاء العصر عادت الملاهي إلى عهدها إلى ما بعد الغروب، ويدعون هذه الحفلات العصرونية، ثم تبدأ السهرة بعد ذلك إلى ما بعد منتصف الليل. هذه مدينة الفن التي ترى الطرب يسبقك أينما حللت، حتى في البيوت تقام الولائم يتخلّلها الطرب والغناء. قوم شغفوا بالفن، فتملك عليهم وملك مشاعرهم. أسمعت أيها القارئ عن قصص ألف ليلة وليلة، كل بيت من بيوت هذه المدينة قصر من قصور ألف ليلة وليلة”.
كغيره من الموسيقيين، حلم سيد درويش بحلب، فقد سبقه إليها المطرب الكبير عبده الحامولي (1836- 1901)، والشيخ سلامة حجازي (1852- 1917)، ومحمد عثمان (1855- 1900). وكانت سمعة هذه المدينة تتردّد على كل شفة ولسان في القاهرة والإسكندرية، لذلك لم يفوِّت المطرب الشاب، ذو السبعة عشر عاما، العرض الذي قدمه له المخرج المسرحي أمين عطا الله عام 1909، وعدَّه فرصة لا تعوض، فسافر مع الفرقة وأمضى في سوريا تسعة أشهر التقى خلالها عددا من الموسيقيين الكبار من أمثال المرجع الموسيقي الأهم في عصره الشيخ الحلبي صالح الجدبة (1858- 1922)، وتلميذه الشيخ عمر البطش عبقري التوشيح، والموسيقار محمود الشاويش (1884- 1948) تلميذ أبي خليل القباني، ونزيل حلب وفريد عصره الشيخ عثمان الموصلي (1854 – 1923).
يروي أمين عطا الله (1879-1967 – علما أن تاريخ ميلاده ووفاته يرد خطأ في معظم المراجع على الإنترنت) قصة رحلة سيد درويش إلى حلب في حوار نادر أجري معه في مجلة “الكواكب” المصرية عام 1965 حيث يقول: “كنت قد تلقيت عرضا من أحد أصحاب المسارح في سوريا اسمه ميخائيل مغربية، وكان أمبراطور الملاهي في حلب حينذاك. فسافرت إلى الإسكندرية أنا وشقيقي المرحوم سليم عطا الله لمقابلة مندوب المتعهّد، وأثناء الانتظار في مقهى قريب كُتب لي أن ألتقي بفنان عبقري قل أن يجود الزمان بمثله. ولم أكد أدخل المقهى حتى لمحت عاملا فوق سقالة في عمارة، وكان هذا العامل يغني بصوت جميل، واجتذبني الصوت وظللت أسمعه. ولما انتهى نزل عن سقالته واختفى داخل العمارة. وتذكرت أن ميخائيل مغربية اشترط في عقد اتفاقه معنا، أن يكون بين أفراد الفرقة مطرب يغني الأغاني المصرية التي يحبها أهل الشام. وبينما أنا أفكر في أن أعرض على هذا العامل أن ينضم إلى فرقتي، إذ بي أمام مفاجأة أخرى، فقد خرج هذا العامل من داخل العمارة بعدما خلع ملابس البنائين ودخل المقهى، فدعوته للجلوس… وأفضيت له برغبتي، وكنت أتوقع أن يعتذر، ولكن سرعان ما كانت دهشتي كبيرة حين وجدت الابتسامة تملأ وجهه، وهو يبدي سروره من هذا العرض، واعترف لي بأنه كان يحلم بأن يغني على المسرح مثل الشيخ سلامة حجازي. وانتهى الأمر بيننا إلى اتفاق”.
أول لحن في حلب
يتابع عطا الله: “وسافر معنا الشيخ سيد إلى الشام، وفي حلب مثّلنا بعض المسرحيات التي كان الشيخ سيد يغني فيها ويردّد الألحان التي كانت تجري على ألسنة الناس. وهناك لحّن أولى أغانيه ومطلعها “وأنا مالي هي اللي قالت لي”. في الواقع كان هذا اللحن سَبْقا جديدا على الأسماع. وكانت هذه الرحلة فترة تدريب وإعداد لمولد هذا الموسيقي العظيم”.
ويضيف عطا الله أن سيد درويش تعرّف في الشام الى الموسيقار المرحوم محمود الشاويش، و”كان موسيقيا عظيما وسمع منه الشيخ سيد مئات الألحان التي هضمها وحفظها عن ظهر قلب واستطاع بعد ذلك أن يخلق منها شيئا جديدا. وصادف أن لحن أغنية جديدة صادفت أيضا نجاحا منقطع النظير مطلعها “طف بالكؤوس على الندامى”. وعدنا إلى الإسكندرية حتى انتقل إلى القاهرة وبدأ نجمه يلمع”.
بلغت فترة إقامة سيد درويش في حلب ما يقارب الثلاثة أعوام، وعلى مرحلتين كما يقول المؤرّخ الموسيقيّ الدكتور محمود أحمد حفني في كتابه “سيد درويش حياته وآثار عبقريته”، فقد أشار إلى تعثّر الرحلة الأولى عام 1909 ونجاح الرحلة الثانية عام 1912 حيث يقول إن هذه الرحلة “كانت مباركة ناجحة مثمرة، حتى لتعتبر نهاية عهد وبداية عهد في حياته. لقد تجدّدت هناك صلته بالطائفة المختارة من أصدقائه وأساتذته من أمثال عثمان الموصلي، وأقام معهم سنتين كاملتين يحفظ عنهم ويستمع إليهم وإلى ما ينشده غيرهم في تلك البلاد. وهو في ذلك كله يحفظ ويختزن ويستوعب في حفظه وذاكرته كل ممتع رائع من الغناء المستخلص من مختلف العناصر التي تجمعت هنالك في ظروف السلطة والحكم العثماني، بما أتاح له بعد ذلك أن يتمتع بخبرة واسعة بأسرار الموسيقى الشرقية، من عربية، وفارسية، وتركية، وسواها، مما استثمره بعد ذلك في خدمة الغناء المسرحي وتلوينه. وفي هذين العامين فحسب، استوعب ما كان يُجشِّم غيره خبرة السنوات الطوال. ثم عاد إلى الإسكندرية عارفا بأصول الموسيقى العربية، محيطا بموسوعة من الأنغام والألحان التي استطاع بموهبته أن يحصل ثروة ضخمة منها”.
جدال التأثر بالموصلي
مع كل إيجابيات رحلة حلب التي تحدّثنا عنها، كان هناك من يستند إليها لتقليل مكانة سيد درويش الموسيقية! فمنذ خمسينات القرن العشرين بدأت تظهر أصوات تقول إن سيد درويش اقتبس أكثر ألحانه شعبية من الشيخ عثمان الموصلي. وهذا الموضوع أثار ولا يزال يثير الكثير من الجدال، حيث تظهر وثائق بين فترة وأخرى تعيد الجدال من حيث بدأ، ومنها وثيقة نشرها المؤرخ العراقي سيار الجميل في إحدى دراساته حول أصل لحن الشيخ الموصلي لقصيدة “زر قبر الحبيب مرة”، والتي حولها سيد درويش إلى “زوروني كل سنة مرة”.
ثمة من ينسب لحن أغنية “طلعت يا محلا نورها” أيضا الى الشيخ الموصلي، وأصلها “بهوى المختار المهدي”. ما يعزز هذه الآراء أن هاتين الأغنيتين على مقام العجم، وهو مقام لم يكن شائعا عند الموسيقيين المصريين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكانوا يعدونه مع مقام النهاوند، من المقامات الغربية التي تؤذي الذائقة الشرقية، ولذلك كان واحدا من أسوأ الاتهامات لسيد درويش في مصر خلال حياته القصيرة إدخاله الأنغام الغربية وإفساد الموسيقى الشرقية في مصر.
ذات مرة انبرى الكاتب الشهير عباس محمود العقاد مدافعا عن سيد درويش من هذه التهمة الظالمة وغيرها قائلا: “يخطئ من يفهم أن وظيفة سيد درويش كانت فَرْنَجَةَ الموسيقى العربية والنقل من أوروبا إلى مصر والأقطار العربية. كلا إن وظيفة سيد درويش كانت شيئا آخر غير هذا الطريق، في الغاية التي ينتهي إليها، كانت إعطاء معنى للأغاني المصرية”.
خانات البطش
وكان المؤرخ الموسيقي السوري الشهير أدهم الجندي (1902 – 1977) قد تحدث في ترجمته للموسيقار الحلبي الشيخ عمر البطش عن الإضافات التي أضافها البطش على موشحات سيد درويش فقال: “يكفي للاستدلال على عبقريته (أي عمر البطش) أن الفنان المصري المشهور الشيخ سيد درويش كان لحن موشحاته الخالدة دون خانات، فصاغ البطش خانات لها تعتبر من معجزات الفن، وجاءت أروع وأقوى من الأصل بشكل يجتذب الألباب ويستلب النفوس، وكم من مجتهد كان أفضل من المخرج بما تهيئه له مواهبه من مواد الابتداع، ورب فنان مستكبر لا يقرّ لإنسان بفضل أو مدّع لا يفقه من الفن إلا الغرور والفضول يقول: إن من لحن الأصل لا يعجز عن تلحين الفرع في الموشحات”.
ويضيف: “والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن تلحين الخانات أصعب منالا من تلحين الأصل، لأن الدخول في الخانات يجب أن يكون من طبقة أعلى من الأصل، ومقرونا بالانسجام الفني بين النغمات ضمن حدود الإيقاع، وعلى كل لا مجال للشك بأني لا أقصد من هذا التحليل انتقاص مواهب النابغة سيد درويش الفنية، كلا… فالفن أرفع ما في الوجود، وأنا من عشاق فنونه، وتحليل ذلك يعود إلى أمرين: إما أن الشيخ سيد درويش قد عجز فعلا عن صياغة خانات موشحاته، وإما أن تكون جهوده الفنية ووفرة إنتاجه للأوبريت الغنائي قد حالت دون تلحين الخانات لموشحاته الخالدة، فلحنها البطش، وأخذها الفنانون وانتشرت بين الركبان، وشاطره عبقريته في هذا الميدان”.
كان حريا بالاستاذ أدهم الجندي، والأمر كذلك، أن يتحدث أيضا عن تأثيرات سيد درويش بالموسيقيين الحلبيين الذين أتوا بعده، فكما تأثر هو بالموسيقيين الحلبيين الذين سبقوه، أثَّر هو أيضا بالموسيقيين الذين أتوا بعده، فالكثير من الأغنيات التي أداها أشهر مطربي حلب، ومنهم صباح فخري، ولا يزال يؤديها تلاميذه، هي في حقيقة الأمر أغاني وموشحات لسيد درويش، تمت إضافة كلمات حلبية الى بعضها مثل: “يا شادي الألحان”، و”يا ماريا”، و”يا بهجة الروح”، و”سيبوني يا ناس”، وغيرها الكثير.
المصدر: المجلة