أيها السادة: أرجو أن لا تدفعكم قراءة هذا العنوان “رجل من هذا الزمان” إلى اتهامي أنني مقتبس هذه القصة القصيرة من الرواية الروسية “بطل من هذا الزمان” للشاعر “ليرمونتوف”. فأسماء القصص تتشابه كما تتشابه أسماء بني الإنسان. وإن الشعوب تمر بأزمان لها رجالها.
كتب الشاعر تلك الرواية وهو في الخامسة والعشرين. وكان بطلها “بتشورين” هو الآخر في ريعان الشباب، بينما تخطيت ورجل قصتي العقد الخامس منذ سنوات.
أطلقنا في المرحلة الابتدائية على الرجل اسم “الصابون”. لأنه يزوغ في المواقف الصعبة كقطعة الصابون عندما تنزلق بين أصابع اليد. فهو محدود الذكاء، بينما بتشورين شخص واسع الذكاء، موهوب. لم يكن لهذا الرجل موقف في الصف. لا يعنيه ما يدور فيه من أفراح وخناقات فيما بيننا وبين الصفوف الأخرى. وفي اليوم الذي نتفق فيه على الإضراب احتجاجاً لنقل معلم محبوب ولوجود آخر، أو لحدث أصاب بقعة من الوطن العربي، كان “الصابون” يتغيب عن المدرسة بذريعة المرض أو بوفاة أحد والديه.
إذا لم تخني الذاكرة، كان هذا الرجل في طفولته وفي المراحل الدراسية الأخرى يكره الرياضة، حيث يرى لكل لعبة منها فريقين، تقوم على المنافسة والخشونة بينهما.
وهو لا يرغب في الانحياز والانتماء إلى أحد، وسيجر عليه هذا الانتماء مسؤولية ما، ولا أعتقد لصغر عمرنا أنه قرأ “اللامنتمي”.
عندما ألهبت عقولنا الصغيرة “سحر” ذات العينين السوداوين والشعر المرسل على الردفين، الطالبة في الإعدادية المجاورة لمدرستنا، سعى كل منا ليحوز على قلبها بالنظرة والابتسامة اللتين هما طريق لقبلة دافئة من شفتيها الكرزيتين كما كنا نعتقد. كتبنا لها الرسائل. وقفنا على الصفين مبهورين بجمالها عندما كانت تمر بنهديها الواثبين. خضنا المعارك فيما بيننا لأجلها، بينما صاحبنا يسير غير مكترث بها. حتى ظننا أنه من غير قلب.
بتشورين أيضاً (ناءت روحه تحت وطأة الشكوك والخيبة والضجر. عاش من دون أن يعرف أفراح الصداقة وسعادة الحب).
سأصارحكم بالحقيقة:
كما فاز الرجل بمهام عريف الصف في كل سنة دراسية، وبرئاسة مجموعة النشاط المدرسي، فاز فيما بعد بقلب سحر. لكن لأشهر قصيرة، دب بعدها الخلاف بينهما، فأخذت تطلق عليه اسماً جديداً إذا مر بجانبها: (النذل).
تخرجنا من دار المعلمين، فزرعتنا وزارة التعليم في المحافظات والمناطق النائية. تمتعنا هناك بجمال الطبيعة، وبعالم من المجتمع جديد فيه الطيبة والبساطة. كنا نداوي جراح غربتنا باللقاء في مراكز تلك المحافظات. ندخل المطاعم والمقاهي. نتمتع بملذات الحياة. نتزود في هذه اللقاءات بما يكفينا من غربتنا البعيدة للقاء آخر. وكان لقاؤنا (سوق عكاظ) نتبادل فيه قراءة ما نكتبه من شعر وقصص، ونخوض معاركنا السابقة الفكرية والسياسية، متعصبين لانتماءاتنا الحزبية ولزعمائنا، أما الرجل الذي أقص عليكم قصته، فلم نكن نراه أو نسمع أخباره. وعند انتهاء فترة خدمتنا في تلك المناطق علمنا أنه جمع ثروة كبيرة، اشترى بها داراً وتزوج من فتاة جميلة وثرية.
لا أعتقد أن بتشورين “بطل “من هذا الزمان” الضابط الروسي في جيش القوقاز تزوج. ومع أنه مثقف ثقافة رفيعة، فقد عاش حياته بلا هدف ولا أمنيات. وهذه نقطة خلاف رئيسة بينه وبين الرجل “من هذا الزمان”.
جمعتني به مدرسة واحدة من جديد. فكان أكثر المعلمين تزييناً لصفه في (المناسبات). لم تمض عليه في المدرسة أشهر حتى عرف باسم “المسألة تحتمل الوجهين”. فإذا عرضت أمامه مسألة نحوية كان يقول:
هناك رأيان. رأي “البصريين” ورأي “الكوفيين”، فالمسألة تحتمل الوجهين. وإذا عرضت قضية فقهية، ينطلق من ذات الفتوى النحوية بقياس الغائب على الشاهد، حتى في المسائل العامة كارتفاع أسعار المواد الغذائية وضعف القوة الشرائية لليرة، وتفشي الرشوة والفساد، وجور الضرائب، واختلال موازين القوى مع إسرائيل… كان يقول:
الحكومة معذورة. فهي تتحمل أعباء كثيرة، وتحتمل هذه المسألة الوجهين، والعين لا تقاوم المخرز. ومن يتزوج أمي أسميه عمي. صحيح أن بتشورين عاش بلا هدف. لكنه سعى جاهداً في حياته إلى حريته الشخصية، وأخلص لهذه الحرية. فكان صورة لرذائل زمانه. وهذه مأثرته العظيمة.
قمنا برحلة مدرسية إلى نبع “حسان”. انهمكنا في شي اللحم، تجهيز (التبولة) تحت ظلال أشجار الصنوبر التي نبت على أقدامها البابونج والأقحوان. حولنا سقسقة العصافير وخرير الجداول، وشقاوة الأطفال. سكرنا من جمال الطبيعة وموسيقاها التي لم نعرف على أية أوتار تعزف. فسأله معلمٌ:
هل تمطر السماء يا أستاذ؟… فأجاب:
قد تمطر السماء وقد لا تمطر. القضية تحتمل الوجهين. فالمناخ على الساحل متقلب الأهواء…
لا أنكر أنه الأقرب إلى قلب المديرة، وإلى الإدارة المركزية. وعندما لاحظنا تغيبه المتكرر عن غرفة المعلمين، تبين لنا أنه يتدرب بجدٍ على أيدي بعض الطلاب الذين يجيدون الرقص والدبكة.
قبيل تعيينه مديراً خلفاً للمديرة التي أحيلت على التقاعد، رفض طلاب صفه دخول هذا المعلم إلى الصف.
أخفقت كل محاولاتنا وتهديدنا الطلاب على التراجع عن هذا القرار. فأذعنت الإدارة ونقلته من الصف، وسمته معاوناً لها، واستصدرت له قراراً بذلك، وحين حاولتُ في البيت معرفة سبب إصرار الطلاب على هذا الموقف مع ابنٍ لي في الصف ذاته، رفض البوح بشيء واكتفى بالقول:
هذا موقف اتخذناه في الصف.
بعد تعيينه مديراً شغلت حركة زواره المدرسة. وجهاء الحي، أغنياؤه، عناصر من الأجهزة، وفود مديرية التربية ومن المنظمات الشعبية، رجال المحافظة. لكن المدرسة وقفت على رؤوس أصابعها. عندما أتت زوجته تحمل أطفالها، رشقته بالشتائم، صرخت، بكت، طرزت وجهه بالبصاق، وادعت أنه تزوج سراً من مهندسة تكبره بعشرين سنة، تمتلك ثروة كبيرة وأخاً يتبوأ منصباً رفيعاً في الدولة. وبدأت تقف عند باب المدرسة سيارةٌ سوداءٌ طويلة.
عندما قرأت قصة حياة بتشورين حزنت لأجله. فقد لاقى المسكين مصيراً مأساوياً من رجال القيصر، وعانى كاتبها الشاعر ميخائيل ما عاناه بطل روايته. دخلا مبارزات غير أخلاقية، انتهت بالانتصار مرة وبالهزيمة مرات، وتجسد في بتشورين الضياع في زمانه.
(انتخب) هذا الرجل منذ سنوات إلى مركز في العاصمة، فانقطعت عني أخباره. لم أعد أراه إلا بين الحين والآخر على شاشة التلفزيون، في لقاء أو مع وفد رسمي، كنت أسرع إلى الجهاز وأطفئ عينه.
عدتُ إلى رواية “بطل من هذا الزمان” قاربت بين بتشورين وهذا الرجل. الأول مقامرٌ بكل شيء، ثملٌ دائماً.
خان أقرب الناس إليه. داس صديقته بقدميه. خدعها. أنفق أموالها على موائد القمار وفي الحانات على الفودكا. ثم انتهت حياته الحافلة بمبارزة غير متكافئة، وربما بطلقة انتحارية برأسه أو رأس الكاتب وهو لم يناهز السابعة والعشرين من عمره. أما هذا الرجل الذي لا يمتلك هذه المؤهلات، فلا يقدم على مبارزة ولا يجرؤ على الانتحار.
أيها السادة : لا أخفيكم أنني شعرت بالخوف عندما وصلت في كتابة قصة “رجل من هذا الزمان” إلى هذه النقطة من حياته، إذ علمت مؤخراً أنه احتلَّ منصباً كبيراً خارج البلاد، وجدتُ
صلة بين الرواية الروسية وبطلها بتشورين وبين قصتي وهذا الرجل الذي تفوّق على ذاك البطل بذراعٍ قوية.
امتدت المقارنة بين ذاك الشاعر الكاتب العملاق الذي مات منتحراً وبين ضعفي وعجزي، فسألت نفسي :
هل تنتهي حياة من أكتب قصة حياته بشكل مأساوي كبتشورين؟…من جهتي أتمنى له مصيراً آخر لأبعد عن نفسي مبارزة غير متكافئة. وإذا كنتُ لا أخشى التضحية، فأنا لا أحب الانتحار.
أختم قصة “رجل من هذا الزمان” بهذا الخبر، الذي قرأته في صحيفةٍ كبيرةٍ، وتداولته صحف أخرى.
“موظف كبير في سفارة عربية في عاصمة أجنبية، خدع عدة محلات، حيث أخذ عيِّنة من حلويات كل منها بذريعة شراء كمية لمناسبة احتفالية وطنية، لكنه اكتفى بتقديم تلك العيِّنات على موائده. فرفعت رابطة أصحاب تلك المحلات دعوى قضائية ضده”.
كانت الحروف الأولى من اسم هذا الموظف في خاتمة الخبر تنطبق على الحروف الأولى من اسم “رجل من هذا الزمان”.
346 5 دقائق