هل أصبحت الدبلوماسية أثرا باليا عديم النفع من الماضي الرومانسي؟‏

بيتر إيزاكسون‏ *       ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏في أوقات تشهد إعادة تشكيل جيوسياسي، قد نتخيل أن تركيز العالم سينصب على نوع حل المشكلات الفوضوية الذي نربطه بفن الدبلوماسية. ولكن، يبدو أن الدبلوماسيين قد تخلوا بدلاً من ذلك عن شكلهم الفني، وأصبحوا يفضلون الاعتماد على العنف لتحديد الفائزين والخاسرين.‏

                            *   *   *

‏قليلون اليوم هم الذين قد يعترضون على الأطروحة القائلة بأننا نعيش الآن في لحظة تحول جيوسياسي تكتوني. وما تزال هذه الحركة مستمرة منذ بعض الوقت، لكنها أصبحت واضحة بشكل صادم في أعقاب قرار فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. وبدلاً من أن يتحول الغزو الروسي غير القانوني إلى صراع محلي، فإنه سرعان ما تحول إلى شيء يصنفه الجميع تقريبًا الآن على أنه حرب بالوكالة بين روسيا والولايات المتحدة. لكنه تحول أيضًا إلى مواجهة معقدة ومتطورة قسمت العالم بأسره إلى كتلتين غير محددتين بطريقة ما: الغرب الليبرالي والجنوب العالمي.‏

جاء رد الفعل الذي حرك هذا المنطق الأعمق من الولايات المتحدة عندما قامت بحشد حلف شمال الأطلسي للدفاع عن حق أوكرانيا في الانضمام إلى التحالف العسكري الذي تختاره. وفي ظاهر الأمر، كان ينبغي أن يبدو هذا مفاجئًا لأنه بمثابة اعتراف ضمني بأن أوكرانيا كانت بالفعل عضوًا بحكم الأمر الواقع في حلف شمال الأطلسي.‏

‏في يوم الغزو القدَري المشؤوم، وصف الرئيس الأميركي ‏‏جو بايدن‏‏ “العملية العسكرية الخاصة” التي بدأتها روسيا بأنها “هجوم غير ناجم عن استفزاز وغير مبرر” على أوكرانيا، ووعد بأن الولايات المتحدة وحلفاءها “سيحاسبون روسيا”. وبالمثل، ‏‏أعلن‏‏ أعضاء الكونغرس الأميركي على الفور أنهم “ملتزمون بتشريع فرض أقوى العقوبات الممكنة وضوابط التصدير لشل قدرة روسيا على خوض الحرب، ومعاقبة همجيتها وإنزال نظام بوتين إلى وضع كيان منبوذ دوليًا”.‏

وسرعان ما أصبح واضحًا أن حلف شمال الأطلسي كان في حالة حرب مع روسيا، لكنه وجد طريقة لاستخدام القوات الأوكرانية بسهولة لخوض المعركة على الأرض نيابة عنه. وأوضح وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ذلك عندما أوضح أن الدعم المالي والمادي واللوجستي الهائل الذي تقدمه الولايات المتحدة لأوكرانيا يضع نصب عينيه هدف “إضعاف” روسيا. ووعد بايدن نفسه بتحويل “‏‏الروبل الروسي إلى أنقاض‏‏” واستحضر الإطاحة ببوتين ‏‏بهذه العبارات‏‏: “بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يظل في السلطة”.‏

سرعان ما فهمت دول العالم على الفور أن ما تشهده هو لحظة تاريخية كان فيها النظام العالمي على وشك أن يُعاد تعريفه. بل إن هذا أصبح أكثر وضوحًا حين تبين أنه على الرغم من ‏‏التزام‏‏ حلف شمال الأطلسي بتحقيق أهدافه في جهد قد يستمر “مهما تطلب الأمر”، كان يجري تفكيك أوكرانيا كدولة ‏‏وإخلاء سكانها‏‏ كمجتمع.‏

‏ولكن، هل يجب أن نفكر في شباط (فبراير) 2022 على أنه اللحظة التي شرع فيها كل شيء في التغير، أم أن تلك اللحظة الحرجة ظهرت حقًا قبل 30 عامًا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي؟ لقد صاغ الغرب هذه الدراما لتظهَر باعتبارها تحديًا “للنظام القائم على القواعد” المعياري الذي كان قائمًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن التغيير الحقيقي ربما حدث في وقت سابق عندما خضعت طريقة التعامل مع الشؤون العالمية في مراكز القوى الغربية لتغيير جذري.‏

‏كانت قصة غلاف‏‏ ‏‏”مجلة هاربر” في عدد حزيران (يونيو)، المعنونة “لماذا نحن في أوكرانيا”؟ من تأليف اثنين من المراجع البارزة في العلاقات الدولية: بنيامين شوارتز وكريستوفر لين. وكانت لكلا المؤلفَين علاقة قوية، خلال حياتهما المهنية، بمجتمع الأمن القومي في الولايات المتحدة.‏

‏في تحليلهما المفصل الذي يغطي 30 عامًا من التاريخ حتى اندلاع الأعمال العدائية في أوكرانيا العام الماضي، يشير الكاتبان إلى ظاهرة تتسم بأهمية تاريخية كبيرة: أن “الدبلوماسية العادية بين القوى العظمى، التي تميزت بالاعتراف بالمصالح المتضاربة واستيعابها -النهج الذي حدد التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال أكثر فترات الحرب الباردة حدة- أصبحت بالية عفا عليها الزمن. كان المتوقع من روسيا هو أن ترضخ لنظام عالمي جديد أنشأته وتهيمن عليه الولايات المتحدة”.‏

                          *   *   *

تعريف ‏‏قاموس الشيطان**:‏

‏الدبلوماسية العادية:‏

هي ‏أثر تاريخي قديم، تنتمي إلى فترة بدأت في العام 1815، مع انتهاء الحروب النابليونية، وانتهت في العام 1991 -اللحظة التي شعرت فيها دولة واحدة منفردة بالقدرة النهائية على الفصل في كل نوع من أنواع الصراع في جميع أنحاء العالم، وكذلك فرض أحكامها باستخدام مجموعة من الوسائل، بما فيها فرض العقوبات الاقتصادية، أو التدخل العسكري، أو العمليات السرية التي تهدف إلى تنصيب قادة قادرين على تطبيق السياسات المعيارية حسب رؤيتها.‏

                        *   *   *

‏ملاحظة سياقية‏

‏لقد أصبحنا الآن مشروطين بالتفكير في التاريخ المعاصر كسلسلة من “الأنظمة العالمية” معادة التعريف على التوالي. ووفق هذا التفكير، نميل إلى التركيز على من هو المتمتع بالتمكين والمخوَّل باتخاذ القرارات، وإنما ليس على كيفية اتخاذ القرارات. لطالب تناوب على مر التاريخ البشري -ولو ليس بانتظام تمكن ملاحظته، عاملان: الحرب والدبلوماسية.‏

عندما يستحضر الأميركيون أساطيرهم التاريخية الخاصة، فإنهم يفكرون في ما يسمونه “عيد الشكر الأول” في العام 1621 باعتباره لحظة دبلوماسية دافئة بين المستوطنين الإنجليز والقبائل الأميركية الأصلية. لكن ‏‏الواقع التاريخي كان‏‏ مختلفًا تمامًا عن الأسطورة. في القرون التي تلت ذلك، أصبحت الحرب هي الحقيقة المحدِّدة لهذه العلاقة، وكانت الإبادة الجماعية نتيجتها. لقد خلق تاريخ الولايات المتحدة مذاقًا لاستغلال العلاقات غير المتكافئة. وقد غلفته الثقافة نفسها في المفهوم المثالي لـ”الروح التنافسية” – التي يمكن أن تؤدي إلى عقلية تعتنق مبدأ “الفائز يأخذ كل شيء”.‏

‏أصبحت الدبلوماسية أخيرًا قاعدة في أوروبا حقًا في القرن 19، حيث ساعدت الطموحات الإمبراطورية لنابليون، التي تم إنهاؤها أخيرًا في واترلو، الدول الأوروبية على تقدير المخاطر التي تنشأ عندما تصبح أي قوة واحدة مفرطة في الهيمنة. ويشير الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد جيرار آرو، الذي يصف الثقافة الدبلوماسية الأوروبية في القرن التاسع عشر في كتابه “‏‏التاريخ الدبلوماسي”،‏‏ إلى أن الدبلوماسيين “غالبًا ما يضطلعون بالمهمة غير المجزية المتمثلة في التركيز على الواقع، وتحليل ميزان القوى وإظهار أن ما هو مرغوب فيه نادرًا ما يتوافق مع ما هو ممكن”. ويبدو هذا إلى حد كبير مشابهًا لتفكير شوارتز ولين عندما يكتبان: “تاريخيًا، تميل القوى العظمى إلى التركيز بطريقة براغماتية على الحد من الصراع فيما بينها. من خلال الاعتراف بصراحة بحقائق القوة والاعتراف بمصالح بعضها البعض، يمكنها عادة أن تتواصل مع بعضها البعض على أساس يشبه المعاملات التجارية”.‏

عندما يخبرنا نفس المؤلفَين، بينما يحللان سياسة الولايات المتحدة في أوكرانيا، بأن ثقافة “الدبلوماسية الطبيعية” هذه قد “عفا عليها الزمن”، فإن علينا أن نأخذ هذا على أنه اعتباره دعوة إلى الاستيقاظ. هل تستطيع البشرية أن تعلن أن الدبلوماسية أصبحت بالية عفا عليها الزمن؟ يبدو أن “تحالف الراغبين” الجديد الذي بُني حول حلف شمال الأطلسي قد توصل إلى هذا الاستنتاج. ويبدو أن بقية البشرية تقاوم. وسوف يخبرنا التاريخ بما إذا كان من الممكن إحياء الدبلوماسية في يوم من الأيام.‏

‏ملاحظة تاريخية‏

‏كان منطق الحرب الباردة الأصلية يستند إلى فكرتين. الأولى تمثلت في التأكيد على أن نموذجًا سياسيًا واقتصاديًا معينًا -نظام السوق الحرة الليبرالي والرأسمالي- لم يكن مجرد حقيقة تاريخية وإنما يجب تصوره في الوقت نفسه كقاعدة؛ كمثل أعلى ينبغي التطلع إليه. والثانية تمثلت في التأكيد على أن هناك عددًا من القواعد البسيطة التي يمكن تصورها كأساس “لنظام قائم على القواعد”.‏

في مثل هذا المنظور، كانت هناك حاجة إلى كبح الاتحاد السوفياتي لأن لديه مهمة ثورية معلنة. وفقًا للفهم الغربي للفكر الماركسي، كان الشيوعيون في جميع أنحاء العالم، من إيطاليا إلى فيتنام، بإلهام من -إن لم يكن بقيادة- الاتحاد السوفياتي، يسعون بنشاط -ليس إلى الإطاحة بالحكومات الوطنية فحسب، ولكن بالنظام الاقتصادي الليبرالي بأكمله واستبداله بدكتاتورية عالمية للبروليتاريا.‏

‏يتعقب شوارتز ولين دولة قوية أخرى ذات مهمة “ثورية”: الولايات المتحدة. “اقتناعًا منها بأن أمنها القومي يعتمد على الترتيبات السياسية والاقتصادية المحلية للدول ذات السيادة ظاهريًا -وبالتالي تحديد تغيير تلك الترتيبات أو القضاء عليها كهدف مشروع إذا لم تكن متوافقة مع مُثلها وقيمها المعلنة- أصبحت الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة قوة ثورية في السياسة العالمية”.‏

يروي الكاتبان ملحمة الإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، ويصفان تطور حلف شمال الأطلسي تحت قيادة الولايات المتحدة بالعبارات التالية: “لقد تحول الحلف من اتفاقية دفاع مشترك مفترضة مصممة لصد هجوم على أعضائه إلى الأداة العسكرية البارزة للقوة الأميركية في عالم ما بعد الحرب الباردة”.‏

إن اتفاقيات الدفاع هي واحدة من النتائج النموذجية للتشاور الدبلوماسي. وكانت هذه بالضبط هي الطريقة التي عملت بها الدبلوماسية في أوروبا في القرن 19. فقد تم تصميم اتفاقيات الدفاع لاحتواء الطموح المفرط والقوة المفرطة. ولكن، عندما تصبح اتفاقية دفاعية مثل اتفاقية حلف الناتو “الأداة العسكرية للقوة الأميركية”، وعندما يسعى الحلف إلى توسيع نطاقه الجغرافي إلى ما وراء منطقة شمال المحيط الأطلسي، فإن المشكلة التي فرضها نابليون على أوروبا تصبح مشكلة الإنسانية كلها.‏

‏فهل تُعِدُّ الولايات المتحدة الآن “واترلو” الخاصة بها؟‏

‏*بيتر إيزاكسون‏ Peter Isackson: كبير مسؤولي الإستراتيجية في Fair Observer. وهو مؤلف ومنتج إعلامي عمل في مشاريع رائدة تركز على تكنولوجيا التعلم المبتكرة. لأكثر من 30 عامًا، كرس نفسه للنشر المبتكر والتدريب والاستشارات وإدارة التعلم. طور، كناشر، أساليب تعاونية وأدوات برمجية ثورية تعتمد على المنطق غير الخطي للتدريب على المهارات الشخصية. قام بتأليف وإنتاج ونشر العديد من منتجات الوسائط المتعددة والتعلم الإلكتروني ودخل في شراكة مع منظمات كبرى مثل BBC وHeinemann وMacmillan. نشر كتبًا ومقالات باللغة الإنجليزية عن الإدارة بين الثقافات وتعلم اللغة والتكنولوجيا والسياسة. تلقى  تعليمه في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) وجامعة أكسفورد، ويقيم في فرنسا ويحمل الجنسيتين الأميركية والفرنسية.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Is Diplomacy a Useless Relic of the Romantic Past?

ملاحظة:

‏** في عصر أوسكار وايلد ومارك توين، وهو كاتب ساخر أميركي آخر، أنتج الصحفي أمبروز بيرس سلسلة من التعريفات الساخرة للمصطلحات شائعة الاستخدام، وألقى الضوء على معانيها الخفية في الخطاب الحقيقي. وقام بيرس في النهاية بجمعها ونشرها في كتاب أسماه “قاموس الشيطان” Devil’s Dictionary، في العام 1911. وقد استعارت “فير أوبزيرفر” عنوان كتابه لمواصلة جهوده المفيدة لتنوير أجيال من قراء الأخبار من خلال تعريف المصطلحات حسب معناها في الاستخدام الواقعي.

المصدر: الغد الأردنية/(فير أوبزيرفر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى