يعتمد كثرٌ من الكتّاب العرب والغربيين مقاربةً للمسألة السنّية الشيعية تعدّها سبباً شبه وافٍ ومكتفٍ بذاته لشرح معظم الصراعات والانقسامات في المشرق العربي والخليج. في المقابل، يتجاهل المسألة إياها كتّاب آخرون وينفون كل قدرة لها على التأثير ولعب أدوار في رسم التحالفات وخطوط التماس.
والحقّ أن ثمة اختزالاً وتبسيطاً في الحالتين. فلا القسمة السنّية الشيعية، بما تعنيه من خلاف حول أحقّية وراثة نبيّ الإسلام في القرن السابع ومن تأويلات متباينة لروايات وأحاديث وسير وعلاقات تاريخية، تفسّر الصراعات المحتدمة اليوم في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولا إنكار حضورها في المجتمعات وفي مسار تكوين الهويّات، كما في الخطابات التعبوية وفي المشاريع السياسية الهادفة إلى السيطرة على بلاد أو التمدّد في مناطق، يُفيد في سياق البحث عن خصائص بعض المواجهات والمعسكرات المنخرطة فيها.
فالمذهبية ظاهرة اجتماعية سياسية مركّبة في معظم بلدان المنطقة، لها ظروف نشأة وتطوّر، ولها أيضاً مؤسسات ترعاها وهيئات تعليمية وجمعيات أهلية وقوانين أحوال شخصية وممارسات أنظمة وسلطات رجال دين وتوزيع موارد اقتصادية تكرّسها. ولها فوق ذلك دول ذات نزعات هيمنة إقليمية توظّفها وتستثمر فيها وتسعى لبسط نفوذها من خلالها. وإن هي اتّخذت في لبنان منذ عقود طابعاً علنياً مُمأسساً في سياق النظام التوافقي حيث تقاسم السلطة والتمثيل السياسي يقومان على تخصيص حصص لممثّلي الطوائف، فإنها ظلّت مُضمرة في الحقبة الليبرالية في باقي بلدان المشرق قبل أن تُصبح عصبيةً يستند إليها نظاما البعث في سوريا والعراق ويحوّلانها إلى إحدى أدوات تثبيت حكمهما الاستبدادي المطلق، ولَو أنهما غلّفاها بعلمنة مُدّعاة وبإيديولوجيا قومية أو بدعايات حماية تعدّدٍ وأقلّيات. وهي اعتُمدت كذلك في البحرين كمنطلقَ تمييزٍ ضمنيّ بين “المواطنين” لجهة التمثيل في المؤسسات وحقوق الملكية، كما تصاعدت حدّة الإجراءات القمعية المرتبطة بها داخل كلٍّ من السعودية وإيران منذ السبعينات، ثم بعد العام 2011.
بهذا المعنى، شكّلت المذهبية في البلدان التي تعدّدت الانتماءات في مجتمعاتها واحداً من عناصر التعريف بالأفراد والمجموعات ومدخلاً للتعامل السلطوي معهم قمعاً وتهميشاً أو توزيع منافع وشراء ولاءات. لكنها لم تكن الدافع الوحيد للفرز السياسي، ولا هي ألغت خصائص اقتصادية وجغرافية وثقافية داخل كلّ بلد بحيث تحوّلت إلى عنصر التعريف الوحيد بالانقسامات بين الجماعات. فالتمايزات المناطقية لم تتلاشَ في اليمن مثلاً لتُستبدل بسيادة عنصر المذهب الواحد حيث تواجد تُرابياً، والقضية القومية (الكردية تحديداً) لم تتراجع في سوريا والعراق ليحلّ محلّها الانتماء السنّي الصاهر العرب والأكراد، والمشاركة الشعبية في إدارة شؤون الدولة وانتخاب الممثّلين إلى مؤسساتها لم تتوسّع لدى المنتمين إلى مذاهب الحكّام، في البحرين والسعودية أو في إيران.
وإذا دقّقنا في حالات البلدان المشار إليها آنفاً، وفي تراتبيّات أدوار المسألة المذهبية سياسياً فيها، يمكن القول (وعلى النقيض من السائد ربما) إن المذهبية المظهّرة بلا حُجب في لبنان لم تكن حتى العام 2005 وأحداثها الشهيرة أشدّ حضوراً فيه منها في البلدان حيث ادّعاء انتفائها رافق اعتمادها آلية قهر أو تمييز بين الناس. كما أن مأسستها اللبنانية رافقت لفترة طويلة تجربةً ليبرالية لم تشهد سجناً سياسياً أو انقلاباً عسكرياً أو حالة طوارئ، على نقيض البلدان التي نفت وجودها أو جرّمتها. ولا يُفسَّر هذا حصراً بالعلاقة السببيّة بين التعدّد الطائفي والحرّيات على ما كان يروّج دعاة النظام اللبنانيون. فللتعليم والصحافة والنشر ولخصائص الاقتصاد الخدماتي وللانفتاح على العالم ولقوّة المجتمع المدني، الفضل الأوّل في تحصين لبنان من الميول الاستبدادية. لكن لا شكّ أن فلسفة التوافقية التي سرت لفترة بعد الاستقلال لجمت نزعات الهيمنة ووضعت حدوداً مؤسساتية لمحاولات الاستئثار الأحادي بالحُكم.
في المقلب الآخر، يبدو جليّاً أن ادّعاء انتفاء المذهبية وقمعها لم يُفضيا إلى إضعافها، بل تحوّلا في ظل حظر الحريات السياسية والفكرية إلى سردية “وطنية” إضافية للاستبداد، وإلى مجرّد تأجيل لانبعاثها بأكثر أشكالها حدّة، أي ذلك المستند إلى مشروعية الضحية أو إلى مبدأ التعاضد خوفاً من ثأر الضحية ما أن تتبدّل الأحوال.
وما يمكن إضافته في هذا الباب، أن المذهبية لم تقترن في لبنان لغاية أواخر التسعينات بتقدّم التيارات الدينية-الإيديولوجية سياسياً، بل ظلّت إلى الزبائنية وشبكات الانتفاع أقرب. وإن استثنينا توسّع مؤسسات حزب الله في البيئة الشيعية المصاحبة لنموّه العسكري ولتعاظم دوره السياسي وعلاقته العضوية بإيران، لتَوكّد الزعمُ هذا، إذ لا يوجد في مواجهة الحزب الشيعي حتى الآن تيار ديني سنّي يجاريه أو يخاصمه من منطلقات عقيدية أو على أساس إثارة شعارات إسلامية بديلة، إخوانية أو سلفية. ولا ريب أن للوجود المسيحي الأساسي في البلد تأثير على كلّ ذلك.
لكن حتى في العراق، حيث اعتُبرت المسألة المذهبية الأكثر رسوخاً بعد الاجتياح الأمريكي وسقوط نظام صدّام وهيمنة حلفاء إيران الشيعة على الحكومة المركزية، ثم اندلاع الصراعات وصعود “داعش” والحرب معها، جاءت الانتفاضة الشعبية في العام 2019 في بغداد والنجف والبصرة وانخراط مئات الألوف فيها (بأكثرية شيعية) لتوهِن الاعتبار المذهبي وتبيّن عدم اقتصار الحشد والاصطفاف على أسس القسمة السنّية الشيعية.
يمكن أيضاً التدقيق في المواقف والولاءات ومكوّنات القوى المتصارعة والمتحالفة في اليمن، وتحليل بنية النظام السوري وأدوار روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية والغربية في الحرب فيها وعليها، وتبيان تجاور المسألة المذهبية مع سواها، وانحسارها في مواضع محدّدة وتقدّمها في مواضع أخرى.
وهذا كلّه لا ينفي حضورها وتأثيرها، لكنه ينفي كونها “ماهيّة” أو “أساساً” يقسّم الناس ويعرّفهم جماعياً في هذه المنطقة على نحو لا تبدّله الظروف والتغيّرات وتحوّلات البنى الاقتصادية والاجتماعية والمصالح وخصائص الأنظمة السياسية والتيارات الموالية أو المخاصمة لها.
المذهبية إذاً تفسّر بعض الأمور ويُغفل اعتمادها كمفتاح وحيد أو حاسم لفهم شؤون المشرق والخليج مفاتيح أُخرى كثيرة، هي بدورها متحرّكة لا ثبات في أيّ منها.
المصدر: القدس العربي