قد تفيد هذه الإضاءات الآن، لمن هم من خارج
السويداء، لفهم انتفاضتها السورية الوطنية، فما يحدث الآن هو امتداد لماضي هذا المجتمع، شديد التعقيد وواضح المسار في آنٍ معا..
كنا مجموعة طبيبات من عدّة مدنٍ سوريّة، جمعتنا ورشة عملٍ لتدبير العنف ضد النساء أثناء الحروب. أقمنا وسط دمشق، عاصمة بلدنا، في فندق (الشام) ذي النجوم الخمس والجدران المزيّنة بلوحاتٍ تشكيلية معاصرة، تلقّينا التدريب عبر الكمبيوتر وشاشات العرض الليزريّة، تناولنا طعامنا بالشوكة والسكين في مطاعم الفندق من الصيني إلى الإيطالي والفرنسيّ …
أحيتْ نشاطاتُ النهار آمالنا الكبيرة بالتأسيس لوعيٍ جمعيٍّ يواكب منجزات الحداثة حولنا، وبه نتخطّى ماضي بلادنا الحافل بالانغلاق والتوجّس، وحاضرها الطافح بالحروب.
وفي أحاديث جلسةٍ مسائية، سألتني زميلتي (الطبيبة) بعد كثيرٍ من التردّد: “هل صحيحٌ أن الدروز يغلقون بيوتهم على أنفسهم في ليلة الجمعة لتقضي كل عائلةٍ ليلتها حتى الصباح في سفاح المحارم”؟!
بعد سؤالها توالتْ أسئلةٌ جادّة من باقي الطبيبات: “نعم، نحن أيضاً سمعنا بهذا … وهل صحيحٌ ما نسمعه أيضاً أن للدروز ذيلٌ في أسفل ظهورهم، وأنهم يعبدون العجل … و …”؟
أسئلةٌ قشّرتْ عنّا جميعاً وهمَ الحداثة الذي عشناه في نهارات التدريب وأعادتنا جميعاً إلى (جاهليتنا الغابرة)، إلى ذلك المنحدر العميق الذي تنمو فيه خرافاتنا الصغيرة عن الآخرين فلا نعود نرى العالم إلا بعينها، وتترك كلّاً منا رهين سرده الخاص عن تاريخه وعن تاريخ الآخر، فيما الدم الذي يسري في عروقنا جميعاً يحمل تركيبةً كيميائيةً واحدة!
في مقاربةٍ لإشكالية العلاقة بين الجماعات المتمايزة داخل الدولة الوطنية مطلع القرن الحادي والعشرين، ولمشكلة فهم الآخر المختلف عنّا، وبوصفي إحدى المتحدّرات من جماعة الدروز؛ سأحاول أن أضيء عليها من الداخل، بقدر ما أستطيع من الحياد وبالقدر الذي أدّعيه أيضاً!
لا خلاف على أنّ بلاد الشام التاريخية هي الموطن الأصليّ للدروز، أقاموا فيها على شكل تجمعاتٍ سكانيةٍ شبه منفصلة، قبل أن يُقسّمها النظامُ السياسي بعد الحرب العالمية الأولى إلى أربع دولٍ متباينةٍ في نظمها وعقائدها السياسية.
يتوزع الدروز حاليّاً بين النصف الجنوبي من لبنان والثلث الشمالي من فلسطين والثلث الجنوبي من سوريا وفي بعض قرى منطقة جبل السماق شمال مدينة إدلب على تخوم الحدود السورية التركية، إضافة إلى تجمعٍ صغير في الأردن يعتبر امتداداً تاريخياً لملكيات جماعة الدروز في جبل العرب داخل البادية الأردنية.
هاجرتْ جماعاتٌ منهم إلى مختلف دول العالم، لكنها لم تشكّل إطاراً اجتماعياً خاصاً بها إلا في (فنزويلا) التي استقبلتْ دفعاتٍ كبيرةً من الدروز على امتداد القرن العشرين، كانت غالبيتها من محافظة السويداء في سوريا، وهناك جمعهم رباط المنحدر الواحد والمصالح التجارية والمشاريع الحياتية المشتركة.
لا يتجاوز مجموع الدروز في العالم مليوني نسمة، وهم لا يشكّلون ثقلاً سكانياً في أيٍّ من أوطانهم الحاليّة، لكنهم ظهروا في مرحلة بناء الدولة الوطنية في سوريا ولبنان والأردن كقوى إيجابية فاعلة، وساهموا مع شركائهم الوطنيين في تكوين الحركة السياسية اللبنانية والسورية. وبرز منهم في مرحلة التحرر الوطني أسماءٌ لامعة مثل شكيب أرسلان وسلطان الأطرش وكمال جنبلاط.
أما دروز فلسطين الذين لم ينزحوا عنها بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948 فقد بقيتْ هويتُهم السياسية موضع تساؤلات عميقة، سيّما وأن الحكومات الإسرائيلية حاولت تحويل الإطار المذهبي للدروز إلى إطارٍ قومي يفصلهم عن عرب فلسطين في أراضي 1948، وكرّست هذا الفصل في أكثر من منحىً كالمناهج الدراسية والإدارة المحلية المنفصلة الخاصة بهم، وعتّم الإعلام الإسرائيلي على عشرات المعتقلين في سجونها، وضيّق السبل على العائلات، وأقصى أبناءها عن التعليم وحاصرها اقتصادياً فقط بسبب رفض أبنائها الخدمة الإجبارية في الجيش، في ذات الوقت الذي بالغ الإعلام نفسه في الإضاءة على أخبار الجنود الإسرائيليين الدروز كرسائل إعلاميةٍ موجّهةٍ حصراً إلى محيطهم العربي الإسلامي. إلا إن كلّ ذلك لم يكبح الحراك المناهض لدولة إسرائيل حتى ظهرتْ أواخر ستينيات القرن العشرين ومطلع سبعينياته مبادراتٌ يسارية وقومية عربية فاعلة بين الدروز، أمكنَها أن تؤسّس لحركة الامتناع عن التجنيد في الجيش الإسرائيلي، وأن تصنع شراكاتٍ سياسية مع الأحزاب العربية داخل إسرائيل.
عاشت جماعة الدروز منذ نشوئها كمجتمعاتٍ مغلقة يتفاعل كلٌّ منها مع جواره ومحيطه المحليّ سلباً وإيجاباً، واستمرّت تتزاوج داخليّاً فيما بينها، ولا تزال في عمومها كذلك. وثمة مصاهرات كثيرة تعمل على تجديد شيء من الروابط الاجتماعية بين الدروز في أوطانهم الحالية، وتحول دون انفصالهم كلياً على رغم أنّهم ينحدرون من جذورٍ عائلية واحدة. فعائلات الدروز في جبل العرب والأردن ليستْ إلا امتداداً لأصولها في لبنان وفلسطين وإدلب، حيث قدمت من هناك على شكل موجات نزوحٍ وهجرة ابتداءً من أواخر القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن العشرين.
بهذا المعنى يمكن الحديث عن مجتمعات درزية متباينة ثقافياً، ومرتبطة بمرجعية واحدة متشابكة على المستوى المذهبي. ولعل انشداد هذه المجتمعات خارج ظروف الأزمات إلى المرجعية المذهبية الموحدة متباينٌ أيضاً، وذلك تبعاً لحجم شريحة المتدينين في كل مجتمع منها، وهذه الشريحة هي الأقل في مجتمعات الدروز المعاصرة، وهي في حدودها الدنيا بين دروز السويداء إذ تصل في أقصاها إلى 10% من حجم سكانها.
عن تاريخ الدروز
ظهرت الدعوة إلى مذهب التوحيد بين عاميّ (1017 ـ 1043م) كتيارٍ عقائديّ منشقٍّ عن الإسماعيلية، وسُمّي أتباعُها (الموحّدون)، وغلب عليهم لقب (الدروز) نسبة إلى نشتكين الدَرَزيّ، أحدِ دعاتها الذي لا تحبّه الجماعة، وتفضّل عليه لقب (بنو معروف) الذي اشتُهرتْ به أيضاً.
وكان أوائل معتنقيها من يمنيّة حلف تنوخ في بلاد الشام، ومنهم تنوخيو وادي التيم الذين حكموه منذ عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وهو ما تشير إليه مصادر تاريخية مختلفة من بينها ما أورده محمد كامل حسين: “تعود أصول الدروز إلى القبائل العربية القيسية واليمنية التي هاجرت من الجزيرة العربية بعد انهيار سد مأرب في اليمن واستوطنت جنوب بلاد الشام حول حوض الفرات، وكان منهم المناذرة اللخميون ملوك الحيرة. من هناك هاجرت بعض بطون هذه القبائل الى منطقة حلب في شمال سوريا، وشاركتْ في الفتح الإسلاميّ لبلاد الشام ومصر، وفي حروب الأمويين ضد الروم.
في عهد الدولة العباسية أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قبائل التنوخيين، التي برز رجالها كفرسان حربٍ ممتازين، بالانتقال من الفرات إلى سواحل لبنان وجباله لحمايتها من تعديات دولة الروم البيزنطيين والمردة ومن قطعهم لطرق السابلة. وبعد انتصارهم عليهم أقرّهم العباسيون على إمارة وادي التيم التي بقيت حوالي 800 سنة تحت حكمهم، وخلالها، ومع مطلع القرن الحادي عشر الميلادي اعتنقوا مذهب التوحيد” (1).
لعلّ الجزم بأصولٍ قبليةٍ (ثابتة) واحدةٍ ووحيدة لجماعة الدروز فيه بعض التباس، فقد كان قسمٌ وازنٌ من أنصار هذه الدعوة يعود إلى قبائل قيسية متعددة، وهذه الثنائية القيسية/اليمنية ستكون محور صراعٍ طويل سيطبع تاريخ لبنان وتاريخ دروزه خلال القرن الثامن عشر.
من جهة أخرى تشير بعض الكنى والألقاب العائلية الخاصة ببعض العائلات الدرزية الموجودة حالياً في سوريا ولبنان إلى أصول قوميةٍ غير عربية، منها الكردية: (الكريدي ـ جنبلاط) والشركسية: (أباظة) وغيرهم.
لكنّ الجماعة عملت طوال الألف عام الماضية على صهر جميع العناصر القومية غير العربية في بوتقةٍ ثقافية واحدة عمادُها ثقافة المجموعة العربية السائدة داخل الجماعة. وربما خدمتْ عمليةُ الصهر هذه كيانَ الجماعة وبقاءها كجزءٍ أصيل من سكان المنطقة وثقافتها.
وعلى رغم صعوبة الجزم بأن الإغلاق النهائي لباب الدعوة إلى مذهب التوحيد، الذي أعلنه دعاتها عام 428 هجري، 1043 ميلادي، كان صارماً ونهائيّاً حقّاً بعد ذلك التاريخ (حين لم يكن توثيق هويات الأشخاص دقيقاً كما أصبح عليه في النُظم المعاصرة)، إلا أنّه لا ينفي أنّ انغلاق الجماعة وإنهاء مرحلة الدعوة إليها كانت أولى مظاهر العزل الثقافي لأتباعها.
تزامنت بداية العزل الثقافي للجماعة مع عزلةٍ أخرى فرضَها التنافسُ العقائدي بين التيارات والمذاهب الإسلامية من ناحية، والصراعُ العسكري بين الدروز وجوارهم الجغرافي على سيادة الأرض من ناحيةٍ أخرى. توالي هذه الصراعات دفعَ جماعة الدروز إلى التمركز الجغرافي وسط سلسلةٍ من المناطق الجبليّة شديدة الوعورة (كجبل لبنان وجبال صفد وجبل حرمون)، التي يمثل وادي التيم قلبَها التاريخي، لتضمَن لنفسها أفضليةً دفاعية بالمعنى العسكري، مع ما تفرضه سكنى الجبال من عزلةٍ جغرافية.
رسم انكماشُ الجماعة، (الثقافيُّ في عقيدتها، والمكانيُّ في معتزلاتها الجبلية)، بدايةَ مرحلةٍ طويلة من الارتياب والتوجس من محيطها امتدت حتى مطلع القرن العشرين (أي ما يقارب 950 سنة)، وخلالها كانت نظم الحكم الداخلية والتراتبية الاجتماعية تتجه نحو تأسيس نظمٍ إقطاعية داخل مجتمع الدروز نفسه.
يشير محمد كرد علي في كتابه خطط الشام إلى أولى الصراعات العسكرية التي دفعت الجماعة إلى هذا الانكماش أثر حملة الإبادة التي شنّها الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي على جماعة الدروز في أنطاكية وحلب ووادي التيم: “ولما أنشأ الدروز يبثّون دعوتهم بين المسلمين غُزوا في عقر دارهم في وادي التيم نحو سنة 410 هجري على الأرجح، وغُزوا في جبل السمّاق من أرجاء حلب لما جاهروا بمذهبهم أيضاً فقتِل دعاتُهم وأعيانهم سنة 423هجري” (2).
بعد أكثر من قرنين ونصف من الزمن، وحين استولى المغول بقيادة هولاكو على دمشق، كان حُكم أمراء الغرب التنوخيين الدروز قد امتد ليشمل بيروت والمتن وما يليهما باتجاه الشمال. وخلال الصراع المملوكي والمغولي “توجّه الأمير زين الدين التنوخي إلى كتبغا وزير هولاكو اكتفاءً لشرّه، وكان ابن عمه الأمير جمال الدين قد تقدمه إليهم. فلما بلغهما خبر قدوم قطز بالعساكر المصرية تشاوروا وحصل بينهم اتفاق أن يتوجه زين الدين إلى العسكر المصري بقيادة قطز ويقيم جمال الدين عند التتار ليكون أيٌّ مَن انتصر من الفريقين كان أحدهما معه فيسدّ خلّة رفيقه وخلّة البلاد قصدا بذلك إصلاح الحال. بعد مقتل الملك قطز وتسلطُن الملك الظاهر بيبرس 1267 ميلادي لم يأمن الأخير جانب الدروز رغم مقاتلة رجالهم مع جيشه، فسجن أمراءهم جميعاً لسبع سنين ويقال لتسع سنين في سجون منفصلة” (3).
مثّلتْ هذه الحادثة سابقةً في التاريخ السياسي للجماعة اعتمدها أمراءُ جبل الغرب التنوخيون كوسيلة دفاعٍ استباقيّة تقوم على ركيزتين: الأولى مهادنةُ جميع الأطراف خلال الصراعات الكبرى، والثانية تكوينُ أجنحةٍ سياسية، متعارضة ظاهراً، متفقة ضمناً على صون وجود الجماعة وأمنها. ربما تبنّى أمراء الدروز وجهة النظر الحمائية هذه في ظل عقيدة الخوف التي تنامتْ لدى الجماعة على مدى قرنين ونصف من الصراع مع محيطها.
لكنّ حملات المماليك التي قادها الظاهر بيبرس عام 1260 ميلادي ضدّ الدروز لم تكن مجرّد عقابٍ لأمراء التنوخيين على سلوكهم السياسيّ ذاك، ولم تكن على الدروز وحدهم، بل اندرجت في سياق حرب المماليك على جميع المذاهب المخالفة. وبالرجوع إلى قواعد التربية والإعداد السلوكي والديني الجبري الصارم في المدارس المملوكية، يمكن فهم موجة التشدّد الفقهي الحنبلي الذي عصف ببلاد الشام طوال مائة عامٍ من حكم المماليك البحريّة، وقادت المنطقة إلى تحولاتٍ دينية ومذهبية كبرى، كان أعنفها ما لحق بالإسماعيلية في منطقة القلاع على الساحل السوري.
دأب مجتمع الدروز على تناقل مروياته من جيلٍ إلى جيل عن تفاصيل محنتي حلب وأنطاكيا كجزء من الإعداد النفسي لجماعةٍ نصف معزولةٍ ومشحونةٍ بالخوف، وتابع تدوينها الشفاهيّ بعد حرب المماليك الذين تمكنوا من شرذمة كثيرٍ من الطوائف بينما عصم الدروز أنفسهم من الشتات بالانكماش على أنفسهم وسط الجبال.
من المرجح أن الصراعات والمؤثرات الخارجية لم تكن العاملَ الوحيد الذي أسس لمنطق العزل لدى أبناء الجماعة، فقد تزامن صعودُ دور الأمراء التنوخيين الزمنيين والزعامات السياسية الزمنية مع تراجُعٍ في حجم الطبقة الدينيّة داخل الجماعة مقابل التوسع المطّرد للكتلة غير المتديّنة فيها، لكنّ الطبقة السياسية الحاكمة لم تتوقّف عن استثمار الرابط المذهبي في تصليب كيان الجماعة وبناء قوتها المحاربة تحت تراتبية إقطاعية تضم الأمراء والمشايخ والمقدمين، حتى تراجع دور الطبقة الدينية إلى مرتبة التابع للحاكم الزمنيّ.
في ظل التراتبية السياسية الجديدة توسّعتْ إمارةُ المعنيين شرقاً وجنوباً حتى بلغتْ أطراف تدمر وشمال فلسطين وقسما من شرق الأردن، واستقرّتْ وازدهر اقتصادُها وشهدت انفتاحاً واسعاً على الغرب الأوربيّ، وتعددتْ فيها الأديان والمذاهب، وتراجعت مقولةُ العزل مقابل مفهوم الانفتاح والاختلاط وإبعاد الدين عن السياسة والشؤون العامة. ولعل الدولة المعنية بهذا المفهوم كانت السابقة في تأسيس (منظومةٍ دولتيّةٍ حديثة) في شرق المتوسط تحت تأثير انفتاحها على أوربا ولاسيما إيطاليا خلال عصر النهضة. لكنها ما فتئت أن وهنت وتفككت بعد أن عمّرتْ ما يقارب مائة وعشرين عاماً، وأعقبتها الدولة الشهابية التي حفل عهدها بتناقضاتٍ حالتْ بينها وبين القيم السياسية التي أسس لها المعنيون في جبل لبنان.
عاشت جماعة الدروز خلال المرحلة الشهابية صراعاتٍ متعددة على الحكم، وخلالها أفادت الأطراف المتصارعة من إحياء النزعات القبلية بين القيسيين واليمنيين الذين حشد كلُّ منهم أتباعه ليس من جماعة الدروز فحسب بل من خارجها، ليشكّلا اصطفافين رئيسيين متصارعين تمهيداً للصدامين الكبيرين في معركتي عين دارة الأولى (1711م) والثانية (1740م) اللتين شقتا الجماعة وأخرجتا قسماً منها إلى المارونية فيما هجّرت فقراء حلف اليمنيين الخاسر إلى وطنٍ جديد في جبل حوران جنوب سوريا، سيكون لاحقاً عاصمة دروز سوريا والنواة الرئيسة لحراكهم السياسي والاجتماعي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
هجرات الدروز إلى جبل حوران
لعلّ العصبية القبلية لم تكن وحدها سبباً لتوالي الهجرات من لبنان إلى جبل حوران، فقد كان ظلمُ الأمراء الإقطاعيين لفقراء الدروز، وتوالي الفتن والحروب بين الدروز والموارنة في جبل لبنان، وازدياد بطش السلطة العثمانية، كل ذلك دفع بموجات هجرةٍ فرديةٍ وجماعية مستمرة ومتعاقبة إلى جبل حوران على امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وخلال مطلع القرن العشرين. أمّا موجات الهجرة إلى الجبل من حلب وأنطاكيا، فقد كانت الصراعات المذهبية محرّكاً رئيسيّاً لها. يشير محمد كرد عليّ إلى إحدى أكبر موجات النزوح من حلب: “في سنة 1811 حدثتْ فتنة بين الدروز القاطنين في الجبل الأعلى من أعمال حلب وبين أهالي تلك البلاد (من الدروز)، فأرسلوا يستشفعون بالشيخ بشير جنبلاط، فطلب من الأمير بشير الإذن بنجدتهم فأرسل الشيخ بشير مباشرين لإحضار الدروز من هناك.” (4).
لم يكن جبل حوران خالياً من السكان قبل موجات الهجرة الدرزية، فقد تركّزتْ عشائر مسيحية في جنوبه الشرقي وساحله الغربي، وأقامت قراها الصغيرة في معمورة القرى والمدن الأثرية النبطية والرومانية المنتشرة بكثرةٍ في جبل حوران. وفي الوقت عينه كانت العشائر البدوية تتردد في مشتاها إلى خرائب أخرى، ثم تعود إلى مصيفها في الحماد وبادية الشام. أما سهل حوران المنبسط غرباً فقد توطنت عشائر متعددة في قراه ومدنه القديمة كبصرى الشام والكرك ونوى وازرع، كما تركزت تجمعاته الحضرية حول طريق الحج الواصل بين دمشق وبصرى الشام. وكان السهل والجبل يتبعان معاً لمتصرفية الكرك العثمانية، لكنها لم تستطع ضبط المنطقة وإدارتها كما هو الحال في مراكز الولايات والمدن الكبرى، ولم تعطِ بالاً لغزوات العشائر التي كانت تستهدف القرى الحضرية المسيحية في الجبل وتتنازع معها على منابع الماء في سنين الجفاف. في هذا السياق رحّب مسيحيو حوران بالمهاجرين الجدد ليكونوا حلفاءهم في رد غزوات العشائر البدوية.
بعد أن توطّن الدروزُ قابلوا البدوَ بالقتال، وحاولوا تثبيت الحدود بين المراعي والأرض الزراعية، وحدّوا من سطو البدو على المزروعات وعلى قوافل الحبوب المسيّرة للبيع في مراكز التجارة الجديدة. كذلك امتنعت عائلات المهاجرين الجدد عن قبول السلطة العثمانية وعسكرها في الجبل لتبدأ عهداً من الاستقلال النسبيّ دام حتى عام 1910م.
حين فشلت الدولة العثمانية في إخضاع دروز حوران لحكمها، عمدت إلى إذكاء النفرة بينهم وبين جيرانهم في سهل حوران، وبالغت في تحريض عشائر السهل على الدروز الذين وصفتْهم بالعصاة والأشقياء والمتمردين على الباب العالي، وقد نجد فيما نقله حنا أبي راشد عن محمد كرد علي ما يُغني ملامح الصورة التي كرسها العثمانيون عن الدروز في تلك الفترة: “إن قرى الجبل يُقدَّر نفوسها، على التخمين، بخمسين ألف نسمة، ربما استطاع حمل السلح منهم نحو ثمانية آلف، ومنهم الذين يشنون الغارات، ويقتلون الأبرياء، ويسلبون المارة، وإقليمهم هو الإقليم الوحيد في سوريا بأسرها، الذي أزمنت فيه الفوضى، وأحبّ أهله، على قربهم من الحواضر، ووفرة غناهم بزراعتهم، أن يعيشوا عيش السلب والنهب والقتل، يؤذون من خالفهم من مجاوريهم، ويطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل، ويناوئون الحكومة، ويعصون قوانينها، فلا يؤدون الضرائب الميرية والخراج ولا يخدمون الجندية، وإذا لم يجدوا من يقتلونه ويمثلون به يقتتلون بينهم، كأنهم يتعبدون بإهلاك العباد والعبث والفساد في البلد” (5).
وبالمقابل، لم يكن موقف الدروز متسامحاً مع سكان السهل: “وكان الدروز يقابلون الاعتداء باعتداءٍ أكبر، والإساءة بإساءةٍ أكبر، اتبعوا خط المبادرة لدفع كل اعتداء سواء أكان من قبل الدولة العثمانية أومن قبل البدو أو من قبل سكان سهل حوران، مدفوعين بعامل المحافظة على وجودهم في محيطٍ يرغب بالقضاء عليهم” (6).
اشتدّ النزاع على ملكيّة الأرض بعد تتابع هجرات الدروز إلى الجبل وتزايد أعدادهم فيه واقتطاعهم لأنفسهم بعض القرى من سهل حوران كما في (حادثة مسيكي)، كما نشأ الخلاف حول قضايا عديدة أخرى كما في حادثة قراصة 1876، وحادثة الكرك 1877، وحادثة الحراك 1896 (7)، وكانت السلطة العثمانية تستغلّ كلّ صدامٍ لإرسال حملاتٍ عسكريةٍ لتأديب الدروز، وتشملهم كذلك في حملات التأديب التي دأبت على إرسالها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر لفرض سلطتها على عشائر شرقي الأردن. في هذا السياق بقيت العلاقة بين سكان السهل والجبل بين مدٍّ وجزر؛ يتخاصمون فتبدأ بينهم المعارك، ثم يتصالحون فيتعاونون على حصاد المحاصيل أو يودعون الأمانات لدى جيرانهم، بينما لم يتوقف صراع الدروز مع السلطة العثمانية طوال فترة حكمها، ووصل في أكثر من مرحلةٍ منه إلى معارك كبرى من بينها حملة ممدوح باشا عام 1896 التي أبادها مقاتلو الدروز في (خراب عرمان) وكان عدادها يقارب الثلاثين ألف عسكري عثماني، واستمرت حملات التأديب العثمانية على جبل الدروز لإيقاف تمرّد سكانه حتى نجحت للمرة الأولى بإخضاع الجبل عبر حملة سامي باشا الفاروقي عام 1910.
وقبل ذلك، قاوم الدروز حملات إبراهيم باشا إلى الجبل في إطار مشروع محمد عليّ في بسط سلطة دولته على بلاد الشام. تقدّمتْ حملة إبراهيم باشا إلى الجبل عام 1839 لإجبار الدروز على تأدية الضرائب وتسليم أسلحتهم الفرديّة وتجنيدهم في الجيش المصري، ولتأدّيبهم بسبب إيوائهم للنازحين إلى الجبل من لبنان وفلسطين هرباً من الخدمة في عسكره. حاصر إبراهيم باشا الدروزَ بأربع حملاتٍ متعاقبة على مدى تسعة شهور، وقاد بنفسه حملته الأخيرة، وقطع عنهم الماء بردم موارده بالتراب، وتسمّيم ما لم يستطع ردمه. وبعد خسائر الطرفين انتهتْ حملة إبراهيم باشا بالمصالحة. “إن ثورة دروز حوران جاءت وبالاً على القائد المصري وأفقدته الكثير من جنوده وإمكانياته، فمن أجل تجنيد مائةٍ وسبعين رجلاً خسر ما لا يقل عن عشرة آلاف جنديّ” (8).
لم تنقطع الهجرات إلى الجبل حتى مطلع القرن العشرين وكان آخرها في عام 1914، وكان من أسبابها النكبات المتلاحقة على جبل لبنان، ومظالم الأتراك، والمجاعات والجراد والأوبئة. “ولما اشتدت الأزمة في الحرب العالمية وأرهق أبناء سوريا ولبنان وفلسطين عسفاً وخسفا، وبلغت من الكثيرين المجاعة أقصاها، فتحت حوران عامة وجبل الدروز خاصة أبواب منازلها للاجئين من الطوائف كافة، فمرت سنوات الحرب والجبل قائم بالواجب الانساني. أقفلوا أبواب أهراء الحنطة بوجه جمال باشا والدولة العثمانية، وأرصدوا كل ما تضمنته من الحبوب، وهو كثير، للاجئين وطلَبة ابتياعه من أبناء سوريا. ولولا وجود المخزون منه في أهرائهم لفعلت المجاعة سنة 1917 في دمشق فعلها في البلاد الأخرى” (9).
بقي اسم (جبل حوران) متداولا حتى معركة 1860 في جبل لبنان، ليتحوّل اسمه بعدها إلى (جبل الدروز)، وينتقل إليه الدور السياسي والقدرات الحربية التي امتازت بها الجماعة من قبل في لبنان.
أسّس تبلور قوة الجماعة وازدياد أعدادها في جبل حوران لإعادة إنتاج صورة المعزل من جديد، فانتقلتْ، على غرار تحولاتها الأقدم في جبل لبنان، من صناعة المعزل الجغرافي أولاً إلى صياغة المعزل الثقافي الذي لم تنكسر أسواره فعلاً إلا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبزوغ عهد الدولة الوطنية.
عبر المائتي عامٍ الأولى من وجودها في الجبل، تبعت الجماعة الدرزية نهج أسلافها في تحصين عزلتها المكانية والحذر من الآخر؛ فلم تهادن في منع العثمانيين والمصريين من دخول الجبل على قدر ما وسعت قوتها، وقاومت حملات التشنيع والتشويه والتكفير التي سخّر ابراهيم باشا المصري خطباءَ المساجد من أجلها، والتي لا تزال آثارها ماثلة في الثقافة الشعبية لدى الدهماء حول الدروز حتى الآن.
قاوم الدروز أعداءهم كغرباء غير مرحّبٍ بهم لدى جماعةٍ ترفض الانصياع لأية سلطة، وتبغي حفظ أرضها من أي اختراقٍ أو حكم خارجيّ. وبالمقابل؛ وبعد أن هدأت حمّى النزاعات مع عشائر حوران، ضبط الدروز اختلاطهم بشركائهم في الجغرافيا على احترام الجيرة والتشاور في القضايا المحليّة، وقدّموا أنفسهم كجماعةٍ عربيةِ الهوية والتقاليد، ينوب انتماؤها العربيّ عن روابط الجذر الدينيّ، إلا أنّ الزواج بقي داخليّاً بين أبناء جماعة الدروز اقتفاءً لقواعد مذهبهم.
باستقرار الدروز في جبل حوران ضمن محيطٍ عشائري؛ امتصوا جانباً من ثقافته في القضاء والأعراف والفنون، (أخذوا عنه إدارة قضاياهم وفق منظومة الهيكلية العشائرية، واكتسبوا منه نظم الشعر النبطي والأهازيج وقصائد الجوفية والشروقي والهجيني، وعزف الربابة وطقوس تقديم القهوة مع إيقاع المهباج واقتناء العبيد والعزوف عن المهن اليدوية والتجارات، وتبنّوا، كالبدو، حماية الدخيل كإحدى سمات الشرف).
كذلك أسهمت المصالح التجارية إلى حدٍّ ما في كسر العزلة مع سهل حوران، حيث توزّعت المراكز التجارية الكبرى على امتداد السهل والجبل بين السويداء وصلخد وبصرى والكرك والشيخ مسكين، وكانت فاتحةً للاختلاط والتعرف على الآخر والاقتراب بحذرٍ من الغرباء خارج أسوار المعزل الثقافي.
وفي الوقت نفسه، كان المحيط عموماً ينظر إلى الدروز كعشيرة كبيرة واحدة، فقد صنعتْ التحدّياتُ المشتركة لأبناء الجماعة في وطنهم الجديد رابطاً أكثر متانةً من الرباط المذهبي، وصهرتهم هذه التحديات كجماعةٍ شديدة التماسك وقادرةٍ على إنهاء أيّة نزاعات داخلها بمجرد وجود خطرٍ من خارجها.
تسمي بريجيت شيبلر جماعة الدروز بـ (جماعةٌ نحنُنيّة ـ Wir_Gruppenbildung)، أي جماعة لها شعور عالٍ بالـ (نحن)، وتربطها مشاعرٌ جماعية تميزها عن الآخرين (10)، ينتمي أبناؤها إلى طائفة واحدة، متكيفون مع طبيعة أرضهم الجبلية القاسية، لا يطيقون الارتهان لعدوٍّ خارجيّ، يتحدون ضد الغرباء في الحرب، وتسود العصبية العائلية بينهم في أوقات السلم، ذلك أنّ دروز حوران ينتسبون إلى عائلات متباعدة القرابة هاجرت من مواطنها الأصلية المختلفة، و”يدركون أنهم لا يولدون متساوين فيما بينهم. ولكل فردٍ مكانةٌ يحددها ميلاده: إما (عامة) أو (شيوخ) أو (أمراء)، وتبعاً لها حقوقه”. (11).
أمّا في المفهوم الدينيّ، فالدروز ينقسمون إلى طبقتين: الأولى طبقةُ (العقّال) أو (الروحانيين)، وهم المتديّنون الذين قرّروا الالتزام بتعاليم الدين، والثانية طبقةُ (الجهّال) أو (الجسمانيين) الذين لا يلتفتون إلى عبادات الدين وطقوسه. وكما تقول بريجيت شيبلر، ربما لعب هذا الفصل الحاسم بين الطبقتين دوراً هاماً في قدرة الجماعة على البقاء خلال الأزمات “في الفصل الحاسم بين فضاءي العقّال والجهال ربما يكمن سرُّ بقاء هذه الجماعة عبر القرون” (12).
مجتمع الدروز خلال القرن العشرين:
بمشقّةٍ انكسر طوق العزلة عن الدروز بعد حملة سامي باشا الفاروقي عام 1910 على الجبل. فعلى رغم أنّ تلك الحملة تمكّنتْ من إخضاع الجبل، وانتهت بإفقار سكانه وإنهاكهم واعتقال وإعدام أعدادٍ كبيرة من زعاماتهم عام 1911 في ساحة المرجة في دمشق؛ إلا أنها أسهمت في تغيير الصورة التي رسمتْها السلطة العثمانية في ذهنيّة المحيط عن الدروز (العصاةٍ والأشقياء). وربما دفعتْ تحوّلات المناخ السياسيّ في سوريا ولبنان أيضاً إلى تغيير الصورة النمطية القديمة عن الدروز، فقد نهضتْ فكرة القومية العربية في تلك الفترة في مقابل القومية التركية، ولاحقتْ السلطنة العثمانية رجالات الجمعيات السرية العرب المناهضين لها كما حاصرتْ الدروز من قبل، فتنبّه أعيانُ دمشق وساستها من رجال تلك الجمعيات بعد حملة سامي باشا الفاروقي أنّ الدروز (ثوّارٌ) وليسوا مجرّد (عصاة وأشقياء). (13)
سارع الدروز قبيل الثورة العربية الكبرى عام 1916 إلى التحالف مع الشريف حسين، وساندوا جيشه المتقدم من الحجاز في السيطرة على مدينة (العقبة) ورافقوه حتى دخلوا دمشق في طليعة جيشه. تعلّل شيبلر وقفتهم تلك بالدوافع القومية الصرف. “نشأت الدوافع من مقوماتٍ عشائرية، فتاريخ مذهب الدروز الطويل وما تحمّلته الجماعة من سياساتٍ وحروب جعلتهم يقفون ضد كل عنصرٍ غير عربيٍ أراد أن يتسلّط عليهم من الداخل، (العثمانيون)، أو في كراهية الاستعمار الذي جاءهم لاحقاً من الخارج (فرنسا). إنّ المرء في الجبل يعتبر البسالة ذخيرةً عربية مثلما الرجولة والإقدام والضيافة والمحافظة على الدم العربي واللهجة وما إلى ذلك” (14).
سطع نجم الدروز مرة أخرى مع سلطان الأطرش خلال قيادته للثورة السورية الكبرى على الفرنسيين عام 1925 تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، بعد أن قاد قوات الدروز خلال الثورة العربية، وتعرضت السويداء لقصف الطائرات الفرنسية واجتياح دباباتها، ودفع الدروز دماً كثيراً لحفظ وجودهم في الجبل، وطبعوا بدمهم بصمة اندماجهم في الدولة الوطنية السورية المنتظرة.
بعد الاستقلال عن فرنسا وولادة الدولة الوطنية، توسّم الدروز أماناً بوجودهم في كيان الدولة السوريّة، فانضووا تحت رايتها وركنوا سلاحهم مطمئنين إلى تكفّلها بنظم العلاقة بينهم وبين شركائهم السوريين. وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين رحّب الدروز بقيام دولة الوحدة السوريّة المصرية، وكان من بينهم شخصياتٌ محورية ساهمت في إتمام مشروع الوحدة. ولعلّ صور جمال عبد الناصر الباقية حتى الآن في صدر مضافات السويداء بعد عقود من وفاته، إلى جانب صورة سلطان الأطرش، تومئ إلى عمق الشعور القومي العربي لدى الدروز.
تحوّل اسم الجبل في طوره الثالث إلى (جبل العرب) عام 1938، ربما إشارةً إلى انهيار أسوار المعزل الثقافي عن الجماعة وإلى بدء مرحلة شراكة جديدة في ظلّ دولة وطنيّةٍ سوف تنتقل بالمجتمع تدريجياً من صورة العشيرة التقليدية ومجتمع الطبقات العائلية إلى التكافؤ المعنويّ بين مختلف العائلات، وإلى حياةٍ سياسية تحفل بالتيارات القومية واليسارية، ويتقدمها مثقفون تنويريون وتنخرط فيها، كذلك، دهماء ببقايا قيود عائلية ومذهبية ما زالتْ عالقةً بها من غبار حياة المعزل.
غبارٌ شبيهٌ ظلّ عالقاً بالوضع القانوني للدروز في الدولة السورية الناشئة، فحين دُوّن قانون الأحوال الشخصية السوري عام 1944، خُصّص الدروز بفقرتين مستقلتين منه: أُبقي فيه على منصب (قاضي مذهب الدروز) الذي كان استُحدث منذ عام 1927، وحُفظتْ لجماعة المذهب حقوقها الشخصية التراثية في الإرث والوصية والزواج ومنع تعدد الزوجات وعدم إعادة زواج المطلّق. بهذا بقي الزواج محصوراً بين أبناء المذهب داخلياً بحكم القانون والأعراف الاجتماعية والمذهبية، إنما لم يعد نادراً أن يخرج بعضهم على عُرف الجماعة ويقترن بزوجةٍ من خارج الطائفة.
ثمّة ما يلفتُ النظر لدى دروز نهاية الألفية الثانية، أن تكون المرأة الدرزيّة شبه محرومةٍ من الإرث الذي أنصفتها به تعاليم المذهب بينما افترقتْ عنها الأعراف الاجتماعية وغلبت عليها باتجاه توريث الذكور دون الإناث. كذلك أن تكون عواقبُ خروجها على أعراف مجتمعها أشدّ وطأةً عليها، حدّ أن تُقتَل، إذا ما تزوّجّتْ من رجلٍ من خارج الطائفة، (بينما تقضي تعاليم المذهب بمقاطعتها النهائية وحسب)، على رغم أن مكانة المرأة الدرزيّة مضمونةٌ ومصانةٌ في الأصول الفقهية للمذهب، وكذلك دورها في مجتمعها خارج هذا الإطار.
بانوراما مجتمع السويداء بعد مطلع الألفية الثالثة:
يشكّل الدروز نسبة 2,7% من تعداد سكان سوريا، ويتركّز ثقلهم السكاني في محافظة السويداء في جبل العرب التي تبدأ حدودها على بعد 50 كم جنوبي دمشق حتى حدود الأردن. أما بقية الدروز فهم موزعون بين ريف دمشق والقنيطرة وإدلب.
بعد عام 2011 اجتاح التغيير المجتمع السوريّ كله أفراداً وجماعات، وانتهى إلى ساحات حربٍ على امتداد البلد، وحروبٍ كلاميّة بين جماعاته.
كان التغيير قد طال مجتمع الدروز داخليّاً قبل هذا الحراك. فمع ثورة الاتصالات وإتاحة الإنترنت في سوريا، انفتح الشباب على مفاهيم الحداثة وأمكنهم الاطّلاع على النصوص الدينية الدرزية، وأخذوا يطالبون بضرورة النقد العلمي والموضوعيّ للمرويات المتوارَثة عن الآباء، البيضاء حكماً، قبل التسليم بها كموروثٍ ثقافيٍّ مقدّس، وقابلهم المتديّنون بأنّ النصّ الدينيّ منزّهٌ عن النقاش أو التحوير أو حتى إبداء الرأي تجاهه.
في عام 2000، وإثر مواجهةٍ بين البدو والدروز على خلفية تعدّي البدو على مزروعات الفلاحين. ومع أنّ البدو يومها قتلوا شاباً واحدا من الدروز، أعقبه قتل 23 شاباً وامرأة وجرح أكثر من مائتين برصاص شرطة الحكومة وقوى مكافحة الشغب، فقد غلب على ذلك الصدام اسم (أحداث البدو) ربما كتعبيرٍ عن أنّ عوامل الصراع التاريخيّ البدويّ ـ الدرزي لم تمت وإن أسكتَها كيان الدولة، بل إنّ هذا الكيان نفسه كان محرّك النزاع بينها خدمةً لمصالحه، الأمر الذي بدا أنّ الشباب كانوا على وعيٍ عفويٍّ به في إطار سعيهم للخلاص من كل انغلاق.
مع بدء الحراك السوريّ عام 2011 اتخذت الشريحة العظمى من الدروز موقف الحياد في صراعٍ لا ترى نفسها جزءاً منه. اختلافُ موقفها هذا عن نظيره في سهل حوران أظهرَ أن الصراع بين الجارين أيضاً لم يمت. استيقظ صراعُ المرويات القديمة بينهما عبر امتلاء صفحات التواصل الاجتماعي بمديح كلّ جماعةٍ لموروثها، والطعن في موروث الآخر. استعاد أهلُ السهل مرويات آبائهم عن أنّ الحشد الفعليّ للثورة العربية الكبرى انطلق من درعا (عاصمة سهل حوران) ولم ينضمّ إليهم سوى فرسان قلائل من الدروز، وأنّ درعا كانت السبّاقة لإشعال الثورة السورية الأولى ضد المستعمر الفرنسي أول دخوله عام 1920، وقد خذلها الدروز يومها، ثم سرقوا منها قيادة الثورة السوريّة الكبرى عام 1925. وذكّرهم الدروز على الصفحات نفسها أنّ قائدهم سلطان الأطرش هو الذي رفع علم الثورة العربية فوق دار الحكومة في دمشق، وأنّ بطولات الدروز في الثورة السورية الكبرى قد صنعت استقلال سوريا بشهادات قادة فرنسا أنفسهم. كما جاء إنشاء الحواجز وإغلاق خطوط التماس بين المحافظتين ليضاف إلى حروب الكلام ويسهم في تقليص التبادلات التجارية وسائر العلاقات التي كانت مستتبّة.
خفتتْ حدّة الصدام الكلاميّ بين مجتمعي السهل والجبل بقدوم نازحين، مسلمين سنّة، ليس من سهل حوران وحده، بل من سائر الأرياف والمدن السورية الساخنة إلى جبل العرب (الآمن)، ومساهمة كثيرين من سكان الجبل في أعمال الإغاثة من جيبهم الخاص رغم ظروف الفقر المزمن في مجتمع الجبل.
مع طول أمد النزاع المسلّح على مختلف الجبهات السوريّة، وظهور الكتائب الإسلامية المتطرفة وإعلانها تكفيرٍ الآخر (ومن ضمنه الدروز) وتحليل قتله واستباحة مقدساته كجزءٍ من عقيدتها القتالية؛ استعادت غالبية الدروز ذاكرتها الجمعية عن سنوات المحن القديمة في تاريخها، كما بالغ الإعلام في إذكاء رعبها من محنٍ قادمة، أو من حرب إبادةٍ على خلفيّةٍ مذهبية، ما زاد في خوفها من محيطها وانكماشها على نفسها.
استجرّ ردود فعلٍ معقدة داخل مجتمع الدروز؛ شكّلتْ بعض المرجعيات (حكومية ودينية) جماعاتٍ مسلحةً تابعة لها من أجل (حفظ أمن المجتمع والدفاع عن النفس والأرض)، لكنّ غالبية من تسلحوا كانوا من المحرومين من التعليم ومن فرص العمل اللائق والحياة الكريمة ومن ذوي السلوك غير الأخلاقيّ عموماً، فلم يطل الأمر بهؤلاء حتى استخدموا سلطة السلاح في أعمال التهريب، وتجارة السلاح والحواجز، وخطف رهائن من النازحين لمبادلتها بمخطوفين دروز لدى جماعات مسلّحة في مناطق سيطرتها، أو لخطف دروزٍ من أبناء السويداء نفسها لمقايضتهم بفديةٍ مالية.
وانكفأت شريحة المتنورين والعقلاء على نفسها حين علا صوتُ السلاح، ومال المزاج العام إلى إعادة إحياء (البيارق العائلية) ودخول العائلات الصغيرة في أحلافٍ مع العائلات الكبيرة بما يشبه وثيقة الدم التي كانت قبل عهد الدولة، كما لجأ عوام مهمشون ومسلحون من القاع الاجتماعي إلى ملاذ الدين، ربما، تأثّراً بموجات التديّن والشحنَ الدينيّ في المحيط عموماً، إلى أن كشف سلوكهم لاحقاً أنّ الدافع الأكبر لالتجائهم إلى التدين كان لتغطية حزمة من الأعمال غير الشرعية، حيث جماعة المتدينين محميّةٌ عادةً بحكم أعراف مجتمعاتها. كما اقتصر تديُّن غالبية المتدينين الجدد على اللباس دون العبادات، وعلى رفع الرموز الدينية الانعزالية (علم الحدود الخمسة مثلاً) على واجهات البيوت والسيارات والمرافق الخاصة.
تزامن هذا السلوك مع تزايد أعداد النازحين إلى السويداء حتى أصبح يساوي عدد سكانها أو يزيد، ما قد يؤدي إلى تغير البنية الديموغرافية، شبه النقية، لمجتمع الدروز لصالح النازحين، وخوف الدروز أن ينتهي بهم الأمر بأن يصبحوا (أقليّةً) في أرضهم ويعودوا إلى نقطة الصفر.
ما يشبه الخاتمة
ربما اتخذ الدروز موقف الحياد خلال السنوات الست المنصرمة بسبب غياب المشروع الوطني السوريّ لدى جميع الأطراف، وما أفضى إليه غيابُ هذا المشروع من رسمٍ للحدود النفسيّة بين مختلف الجماعات في سوريا بعوامل من داخل هذه المجتمعات نفسها، وبمؤثراتٍ من خارجها ومن خارج البلاد، أفضتْ جميعها إلى صناعة العزلة والانكفاء والعجز والفوضى، وإلى مسيل دم الأبرياء من كلّ دينٍ ومذهب، كخسائر إنسانيةٍ لدمٍ إنسانيٍّ يحمل الجميع تركيبته الواحدة أيّاً كان دينهم أو مذهبهم.
لعلّ الدروز يطمحون إلى تأسيس شراكةٍ مع محيطٍ معتدل في دولةٍ تعددية يقدّمون فيها أنفسهم كعربٍ موحدين؛ “صفة العروبة تربطهم بسائر العرب لغويا وثقافيا وتاريخياً، وصفة التوحيد تربطهم بأتباع الديانات التوحيدية كافة، وتؤسس لنوعٍ من تسامحٍ ديني ضروري للاندماج الاجتماعي” (15)، الأمر الذي تعوزه نهضة الوعي الفرديّ، وكذلك الجمعيّ، ليس في مجتمع الدروز وحده، بل في محيطه أيضاً وفي المناخ العالميّ.
بهذا المعنى قد تترسخ الجذور وتنطلق الأجنحة التي كتب عنها غوته: “هناك هبتان فقط يمكن أن نورثهما لأولادنا وتبقيان معهم إلى الأبد؛ الجذور والأجنحة”.
انتهى
ــــــــــــــــــ
فهرس المراجع:
1 ــ محمد كامل حسين، طائفة الدروز تاريخها وعقائدها، دار المعارف بمصر، (الباب الأول من الكتاب)
2 ــ محمد كرد علي، خطط الشام، جزء 6، ص: 264.
3 ــ صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1927، ص 65.
4 ــ محمد كرد علي، خطط الشام، جزء3، ص 32.
5 ــ حنا أبي راشد، جبل الدروز، ص 77.
6 ــ تركي قاسم الزغبي، جبل الدروز في العهد العثماني، دار البلد، ص 211.
7 ــ تفصيلات الحوادث في المصدر السابق: جبل الدروز في العهد العثماني، تركي قاسم الزغبي ص 212 وما بعدها.
8 ــ سليمان أبو عز الدين، إبراهيم باشا في سوريا، ص 220
9 ــ حنا أبي راشد، جبل الدروز، مكتبة زيدان العمومية، القاهرة، 1925، ص 83 ـ 84.
10 ــ بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل دروز حوران، دار النهار، بيروت، 2004، ص 13.
11 ــ بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل دروز حوران، دار النهار، بيروت، 2004، ص 72.
12 ــ بريجيت شيبلر، المصدر السابق، ص 17.
13 ــ حنا أبي راشد، جبل الدروز، ص 77.
14 ـ بريجيت شيبلر، المصدر السابق، ص 208.
15 ــ جاد الكريم الجباعي، بحث في مسالة الأقليات.
ــــــــــــــــ
المصدر: دراسة انثروبولوجية حول مجتمع الدروز تم تقديمها ونشرها عام 2017 لصالح مركز المسبار للدراسات والنشر في الإمارات العربية