” الهريسة “

عبد الحفيظ الحافظ

 تنفس سمير الصعداء في الطابق الثالث أمام الشّقة رقم تسعة، محتضناً علبة ” الهريسة “، التي تتنهد برائحة السمنة العربية، وكان الزهو يسكنه بإيصالها إلى شقة ” مسعود “. وضع إصبعه على حلمة الجرس، وضغط ثلاثاً، ثم ضرب الباب مرتين، فرددت الشقة الصدى، وتلفت حوله، فرأى الأبواب الأخرى مغلقةً، وقد تجاوز عقرب الساعة الكبير الدقائق الأولى للسابعة مساءً، لكن شعوراً بالخيبة بدأ ينتابه، ويزدادُ ثقل العلبة بين يديه، بل أحسَّ أن قطع الهريسة تتململ محاولةً القفز من العلبة. أعاد المحاولة من جديد، فنادى الجرس ثلاثاً، وردد الباب الضربتين، فحدث نفسه: – ربما يغطُّ مسعود في النوم. خيم الصمتُ، وأخذت نسائم الخوف تسري في صدره، حتى أنه سمع وجيب قلبه، فأسرع بمغادرة المبنى إلى المكان التبادلي خشية أن يكون مسعود قد ذهب مع زوار الفجر، وقبل أن تفخخ الشقة بعناصر الأمن. في تلك اللحظة تملكه نفورٌ من العلبة، وركب أكثر من تكسي، واتجه في المرة الأولى بعكس الاتجاه المطلوب، ثم رجع إلى العنوان التبادلي، الذي كُتبَ بورقةٍ مطويةٍ بعناية. عندما وصل إلى المبنى، صعد إلى ملحق من التوتياء فوق الطابق الرابع، فوجد البابَ مقفلاً من الخارج، وبالرغم من ذلك قرع الجرس، وضرب بيده الباب، وكان من عادة ” ياسمين ” أن تطلب ممن يغادر شقتها كما تسميها، أن يضع القفل أبا سطل من الخارج، وإذا رغبت بفتح الباب تقذف المفتاح من كوة في الجدار. ترك علبة الهريسة تستريح من عناء السفر عند الباب، ونزل بضعة درجاتٍ مردداً مع أم كلثوم: – أعطني حريتي أطلق يدي … لكنه عاد مسرعاً إليها، وهو يفكر بطريقةٍ أخرى في التخلص منها، وأشفق على ياسمين من تبعية العلبة، والعاصمة بعيدةٌ عن هذه المدينة، وقد وصل إليها بصعوبةٍ، بعد إقناع سائق تكسي بمغامرة السفر في هذه العاصفة الثلجية التي تجتاح البلاد. لقد خشي أن يجد العلبة مَن يفتحها، ويلحظَ ما افترشته الهريسة في العلبة، ويقرأَ ما كُتِبَ فيها، فحثَّ خطاه بالعودة إلى كراج الانطلاق، فوجده عارياً من الركاب والسيارات، وكان الثلج يتساقط بدلال، وشاهد قطعه القطنية ترقص قبل أن تستلقي فوق ثوب زفاف الأرض، وتتعلق قطع منها بأهداب الأغصان. في تلك اللحظة عاتب ” سعيد ” الذي حمَّله هذه العلبة اللعينة، وهو في صباح عرسه، ولم يشفق عليه وعلى عروسه وعلى الدفء الذي تركه، ليزج به في آتون الهريسة وهذا البرد القارص. غمرته السعادة عندما دخل إلى الكراج رجلٌ تتبعه زوجه وطفلاه، فرحب بهم، واتفق مع الرجل وهو من اليمن، أن يستقلوا أول تكسي تأتي، على أن يجلس في المقعد الأمامي، وأن يأخذ الرجل وعائلته المقعد الخلفي. لم يطل انتظارهم، فبعد نصف ساعةٍ أتى سائق تكسي باحثاً عن ركابٍ إلى العاصمة، فأسرعوا إلى أخذ أمكنتهم قبل أن يعيد السائق النظر بقراره، فالسفرُ ليلاً بهذه العاصفة مغامرةٌ محفوفةٌ بالمخاطر. انطلقت السيارة تشق طريقها بصعوبةٍ، وبعد ثلاث ساعات توقفت خلف سلسلةٍ من السيارات، لا تظهرُ معالمُها، ومضى الوقت ثقيلاً وبطيئاً، وهم أسرى البرد داخل السيارة، تحاصرهم الثلوج من خارجها، التي لا تسمح إلا بنقل عجلات السيارة بضعة أمتار، ثم تعود لتعترض طريقها وتتوقف من جديد . وبعد بضعة ساعات وهم وسط بحرٍ من الثلج، بدأ الطفلان يلحان طلباً للطعام، وكلما صرخا كان السائق ينظر إلى علبة الهريسة التي تجلس بينهما، ويديم النظر في عيني سمير، وكأنه يناشده أن يفتح العلبة، ويقدم بعضاً من الهريسة للطفلين الجائعين. تجاهل سمير عيني السائق، مردداً ” لا يعرف الحكاية إلا من ذاق المغراية “، وأشاح بوجهه عنه، متأملاً أمواج بحر الثلج التي تعانق السماء، بل أغلق أذناً بالطين، والأخرى بالعجين، لكن الطفلين تدافعا من المقعد الخلفي وتأملا علبة الهريسة، ثم أشارا إليها بصوتٍ مخنوق. أخيراً استسلم لقدره تحت إلحاح صراخهما مودعاً حبيبته، التي تركها في سرير ليلتها الثانية، وفتح العلبة وحملها بيديه، فاختطفتها السيدة منه، وقدمتِ القطع إلى الطفلين وإلى زوجها وإلى السائق، ورأت الأوراق تحت قطع الهريسة، فاستخدمتها عوض المحارم القطنية، وقرأ السائق والرجل ما كتب في تلك الأوراق. توقفت سيدة تمسك بطفلها مزروعةً أمام زجاج التكسي، وكان الطفل يديم النظر بقطع الهريسة بيد الطفلين، ويرنو بعينيه إلى القطع الأخرى المتربعة داخل العلبة ، فأخذ سمير العلبة من السيدة اليمنية ، ووضع قطعتين من الهريسة على أوراق العلبة ، ثم ودع عروسه ، وقدم القطعتين للطفل ، وما كاد يبتعد فرحاً ، حتى قَدِمَتْ سيدةٌ أخرى تجرُّ أطفالها ، وهكذا دبت الحركة حول التكسي ، حتى فرغت العلبة من الهريسة ومن الأوراق . مع انبلاج بشائر الفجر انحلت عقدة المرور، وفُتح الطريق، فانطلق رتل السيارات خلف الجرافات، ولاحظ سمير حركة غير عادية لسيارات الشرطة ورجال الأمن، وسُرب للسائق خبرٌ، أنهم أقاموا حاجزاً على أبواب العاصمة بحثاً عن سيارةٍ، نثرت فوق الثلج منشورات ملطخة بالهريسة. عند مدخل دمشق، وأمام حاجز تفتيش توقفت التكسي، فمدَّ رجل رأسه داخلها، وكان يحمل بندقية وجهاز لاسلكي وسأل: – هل معكم هريسة؟ فصرخ السائق والزوجين بصوتٍ واحد: – لا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى