حين خرج رفعت الأسد من سورية، كان مسبِّباً لاستقطاباتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ أسَرت البلاد، وكادت أن تفتك بها وتحيل دمشق رماداً، بسبب مخططه العسكري للانقضاض على السلطة. يومها، لم يكن لديه أي مشروعٍ بديلٍ لمشروع أخيه حافظ، يقدمه للبلاد لكي يفوز برضى أهلها، بل كان معروفاً بتكريس الطائفية وبارتكاب مجازر بحق المعتقلين السياسيين في سجن تدمر، علاوة على دكّ مدينة حماه وقتل آلاف من أهلها. وحين خرج من سورية محمَّلاً بالنفائس، أراد طرح نفسه معارضاً، لكنه لم يفز بمريدين من خارج حلقة المتكسِّبين منه. وها هو يعيد طرح نفسه للعبِ دورٍ في البلاد، وهو المفتقد أي مشروع سياسي، والخاويَ الجيوب، وهي عودة ربما يريد منها الهروب من القضاء الأوروبي.
كتب نجله، دريد الأسد، في صفحته في “فيسبوك” عن نيته العودة، متطلعاً “إلى بناء سورية”، حين أراد إظهار والده بمظهر المترفع عن النزاعات التي “نأى” بنفسه عنها، محاولاً القول إن والده لا يريد الصيد في الماء العكر أو التعويل على الخلافات المستجدة للظهور بمظهر المنقذ. والمرجح أن استخدام دريد لقب “القائد”، للتعريف بوالده في بداية منشوره يناقض ما جاء به عن الترفع أو على التعويل على تلك الخلافات، لأنه يطرحه قائداً، يمكنه الفصل في الخلافات، وطبعاً لصالحه الخاص. ويتأكَّد ذلك حين نعرف أن لقب “القائد” كان يطلقه عليه عناصر وضباط فصيل “سرايا الدفاع” العسكري الذي كان يرأسه، ولم يكونوا يريدون به الإشارة إلى قيادته السرايا، بقدر ما كانوا يشيرون به إلى ما يرونه في قائدهم، أي قائداً لسورية. وكانوا يجاهرون برؤيتهم تلك؛ إذ كان ولاؤهم له يتغلَّب على ولائهم لأخيه الذي كان قائداً للجيش السوري ورئيساً للبلاد.
ويمضي دريد ليخبرنا أن والده، (“القائد”، مرة أخرى)، “يتطلَّع إلى بناء سورية التي تتشارك فيها جميع القوى السياسية الوطنية”. وهو خطاب يوغل في العموميات، ولا يتناسب مع خطط يفترض أن يطرحها هذا “القائد” قبل التوجه إلى البلاد، لكي يختبر رد فعل الشعب، ويرى مدى قبوله إياها أو قبوله بصاحبها. ومن هنا ربما تكون العموميات سلاحهم، لأنهم يفتقدون أي خطة أو مشروع يغيِّر من أحوال البلاد، وهم العاجزون عن صوغ مشروع من هذا القبيل، لكونهم لم يستطيعوا أن يصبحوا أكثر من ثلاثة عقود، قوة معارضة، على الرغم من طرح أنفسهم على هذه الشاكلة. كما لم يستطيعوا أن يكرِّسوا خطاباً مغايراً لخطاب السلطة يتوجهون به إلى أبناء الشعب السوري في الداخل، على الرغم من توافر المنابر الإعلامية من صحافة ومحطة تلفزة وغيرها بأياديهم.
لم يكتسب “القائد” أي مناصرين له منذ خرج من سورية سنة 1984، وذلك بسبب سجلِّه الملطخ بمجازره الوحشية بحق سجناء سياسيين في سجن تدمر، وبحق أهالي مدينة حماة، وغيرها من ممارسات عدائية عانى منها الشعب السوري بداية ثمانينيات القرن الماضي. كما أن مناصريه، ممن كانوا في صفوف سرايا الدفاع، وبقوا على ولائهم له، مات قسمٌ منهم وشاخ آخرون. أما من كانت تصل إليه منه بعض المساعدات بين الفينة والأخرى، فليس في مقدوره أن ينفق عليهم، نتيجة خواء جيوبه بعد الحجز الذي ألقاه القضاءان، الفرنسي والإسباني، على أملاكه بسبب التهم الموجهة إليه. ولا يعوَّل على أحد من أبناء الجيل الجديد، من أبناء مواليه، أو أبناء بقية الشعب السوري، أن يستمع إلى خطابه، لكونه قد اطلع على حجم ثروته من قصور ومئات الشقق الفاخرة التي تنعَّم بها في منفاه في فرنسا وإسبانيا، والتي تعد جزءاً من إمبراطوريته المالية العقارية والإعلامية التي بناها من أموال الشعب السوري.
من الجائز أن رفعت يرى في سورية ملاذاً يهرب إليها فارّاً من التهم التي وجهها إليه القضاء الفرنسي، ومنها غسل الأموال، على خلفية شرائه عقارات في باريس لا تتناسب مع دخله. إضافة إلى ذلك، هنالك تهم تتعلَّق بالتهرّب الضريبي، والاستيلاء على أموال الشعب السوري. لذلك، يرى الوقت مناسباً للعودة إلى سورية، علَّ الجميع يرون فيه المنقذ في هذه الأيام التي تتصف بجمود المسألة السورية. ومن الجائز أنه وجد الوقت مناسباً لتولّي سدة الحكم، وهو الذي تحدّث عن أحقيته بالسلطة سنة 2000، بعد وفاة أخيه. أما ما يراه هو، فيختلف عمّا يراه الشعب السوري برمته، خصوصاً أن رفعت يعوِّل على ما تحدث عنه ابنه دريد، أي “عملية سياسية شاملة” يطمح إلى أن توصله إلى المنصب الذي يريد. فعملية من هذا القبيل ستستبعده من الحياة السياسية، بسبب افتقاده لموالين يضعون له أصواتهم في صناديق الاقتراع، في أي انتخابات يمكن أن تكون جزءاً من تلك العملية السياسية الشاملة.
طبعاً، لا تحتمل البلاد من يزيد في الاستقطابات التي أحدثتها الحرب، ولا من يزيد في الاستقطابات الجديدة التي قد يحدثها موضوع (رجل الأعمال) رامي مخلوف الذي يحاول أن يظهر مظلوميته، ليستقطب من يناصره فيها. وعودة رفعت ستزيد من هذا الاستقطاب، على الرغم من أن ابنه دريد تحدث عن نأي والده “عن كل ما يجري بداخل سورية”. ولكن لم يكن له أن يتحدث عن عودة والده إلا عندما رأى، هو ووالده، الوقت مناسباً لاستغلال ما يجري، معوِّلاً ربما على ضعفٍ يصيب النظام، فيكون هو المنقذ الذي يحميه من السقوط، عبر أي صيغةٍ كانت. ومرجّح أن الصيغة التي يراها هي التي توصله هو إلى كرسي الرئاسة، وهو الذي لم تُزَحْ عينه عنها خلال وجوده في البلاد أو خلال وجوده في فراديسه في إسبانيا وفرنسا، وذلك ما كانت تنضح به وسائله الإعلامية الكثيرة، أو تجهر به.
المصدر: العربي الجديد