أولا. الكتاب كبير ومليء. وهو دراسة علميه بحثيه طالت تركيا وظروفها عبر ثلاثة عقود . الدولة والسياسة والمجتمع وتطوراتها وتفاعلاتها الداخلية والإقليمية والدولية. وفي المركز فيها التيار الإسلامي التركي. ورمزه الروحي والعملي نجم الدين اربكان..
ثانيا. حتى نستطيع ان نتحدث عن اربكان ودورة الفكري والسياسي والاجتماعي بصفته رمزا للتوجه الاسلامي التركي. لا بد ان نطل على واقع تركيا بعد سقوط الخلافه العثمانيه. وإعلان الجمهورية . فمن آثار الحرب العالميه الاولى التي شاركت فيها السلطنة العثمانية. الغاء السلطنه ودخول قوات الحلفاء حسب سايكس وبيكو للمنطقه العربيه. وتثبيت تركيا كدوله على حدودها الحالية. الدوله التي اعلنت كجمهوريه تركيه قوميه. صنعت قطيعه مع ماضيها الإسلامي. فغيرت الحرف العربي للغتها وحولته للحرف اللاتيني. واعتمدت قوانين علمانية متنوعه كفصل الدين عن الدوله. واعتمدت قوانين اوربيه وحاربت المظاهر الاسلاميه كافه.. لقد حملت الدوله التركيه الحديثه وعلى رأسها مصطفى كمال اتاتورك (الملقب ابو الاتراك). الاسلام والعثمانيون تخلف تركيا وهزيمتها. وقررت ان السير على خطى الغرب الأوروبي هو طريق التقدم . والحل بخلق قطيعه مع الاسلام والتاريخ العثماني في كل المناحي..
ثالثا. لم يكن تغلغل هذه التوجهات في البنية التركيه بهذه السهوله. وخاصة ان الطبقه العلمانيه الحاكمه الجديده. اخذت بظاهرة القطيعه مع الاسلام والعداء له مجتمعيا. ولم تستطع ان تصنع للاتراك حياتهم الافضل. فتشكلت طبقه من رجال المال والاعمال متحالفه مع قيادات الجيش عملت لاستثمار من موارد تركيا لمصالحها الخاصه. و دون ان تضعها فعليا على طريق التقدم. عدى عن ان الاتراك لم يهضموا ان يلغى من ذاكرتهم مئات السنين من انتمائهم الديني وتاريخهم. و تغلغل الاسلام في وجدانهم وسلوكهم الاجتماعي والقيمي…
رابعا. لذلك سرعان ما عاد الإسلام للحضور من واقعه الاجتماعي ليعبر عن نفسه سياسيا. وخاصة ان من بدأ باستعادته. انطلق من واقع استعصاء العلمانيه التركية كعداء للهويه الإسلامية. وايضا من خلال الازمات الاقتصاديه والحياتيه. فعموم الشعب يعيش في حالة فقر والريف مهمش ومستغل. والمدن تكتظ بالناس والبطاله منتشرة والخدمات معدومه. والصناعات متخلفه وتحولت تركيا لمجرد مستهلك للمنتجات الغربيه. والدوله تقترض. وتتحول الاموال لمصالح خاصة للطبقه الحاكمه ورجال المال والاعمال وللكماليات.
خامسا. لذلك كان لحضور التيار الاسلامي مبررا واقعيا. كاستعادة للهويه ومصالحه مع الذات وبناء الحياة الافضل للاتراك عموما.
.في هذا المناخ وجد نجم الدين اربكان ابنا لعائلة اسلاميه متدينه . وتفوق علميا وتخصص في المانيا في المحركات الثقيله. ومن هناك عاد يحمل افكارا تربط بين استعادة الاسلام بكونه هوية وكونه دافعا للعمل والخير والعدل الاجتماعي والتقدم . وبين الاخذ بالعلم والصناعات الحديثه لتقدم المجتمع وبناء الحياة الافضل. عاد ودخل في سلك النشاط السياسي .رافعا راية التصنيع وتحسين المعيشه لاغلب الشعب التركي والعمل لدعم قطاع الانتاج الزراعي والريف والصناعات الثقيله. ومحاربة تغول طبقه رجال المال والاعمال مع القيادات العسكريه. على مصادر الحياة التركيه كامله. واعادة الاعتبار للاسلام والتاريخ العثماني. ومراجعة مواقف الدوله من قضايا المنطقه وخاصة فلسطين وبناء دوله (اسرائيل) فيها. وكذلك التعاون التركي معها على كل المستويات .والتبعيه للغرب ولحلف الناتو . وتحول تركيا لشرطي يحمي المصالح الغربيه في المنطقه.
سادسا. من هذه الخلفيه ولوجود استعصاءات الواقع الاجتماعي والاقتصادي التركي. كان لهذا الطرح ارضية تتفاعل معه. من عموم الناس ومن الطبقه المتوسطه التي وجدت باربكان وتياره وطرحه فرصة للنهوض بتركيا وتحقيق حياة اقتصاديه افضل. لذلك كان اربكان يعتمد على ممكنات السياسه التركيه والديمقراطيه التي استثمرها ورفاقه بشكل جيد عبر ثلاثين عاما. فدخل الانتخابات كثيرا من المرات وشكل كثيرا من الاحزاب . بدء من حزب النظام الاجتماعي الى السلامه الاجتماعيه الى الفضيله الى الرفاه. وكلها كانت مجرد تغيير بالاسماء للمحتوى نفسه. لانها كانت دوما تقع تحت الحل او الانقلاب او اسقاط الوزارة.. وكان هذا واقعها حتى آخر وزارة شارك بها اربكان باسم حزب الرفاه في 1997.
سابعا. كان اربكان وفريقه يمارس السياسه دعويا من خلفية اسلاميه. ومجتمعيا من ارضية رعاية مصالح الناس وخاصة الفئات الفقيره والمهمشه والريفيه. عمل على ادماجهم مجتمعا وحل مشاكل العمل وصنع مشروعا تصنيعيا رائدا. واعاد الاعتبار للمدارس الاسلاميه(امام وخطيب). واستفاد من الزكوات والصدقات لخلق ارضية معونة اجتماعيه. وكان يعمل سياسيا حسب خلفية مصلحيه (براغماتيه) . فكان شديد التأقلم مع الظروف المحيطه خاصة هيمنة الغرب وطبقة الجيش ورجال المال والسياسه على مقدرات تركيا. ومع ذلك حورب واسقطت حكوماته وسجن احيانا ومنع من ممارسة السياسه فترات متعدده. وكان دائما ينهض اقوى ويتقدم لاهدافه بخطى ثابته. طرح مشلكلة فلسطين والحل العادل للفلسطينيين والقدس ايضا. وكان ضد اعتداءات (اسرائيل) على لبنان والعرب عموما. مد جسورا مع الدول الاسلاميه ومنها العرب. وتوصل لشراكه ما سمي مجموعة g8. بين دول اسلاميه منها مصر . وانفتح على ايران مابعد الخميني والعراق وهو في حالة حصار وسوريا وليبيا وكلها دول اعتبرت وقتها عدوة لامريكا والغرب. تقدم في الخدمة البلديه وصنع في عهده نماذج رائعه. وكان ينجح في خط صاعد مجتمعيا وسياسيا في تركيا. رغم الانقطاعات التي كانت على شكل انقلابات كانقلاب 1980. واسقاط حكومات. ..
ثامنا. كانت تركيا تحتاج موضوعيا لاعادة الاعتبار لذاتها الاسلاميه التاريخيه. والمصالحه بين الحكم والمجتمع. وللعمل لاستثمار الرأسمال البشري والطبيعي الممتاز ولعدد سكانها الكبير. لذلك كان اربكان وفريقه استجابه لهذه المطالب. رغم كون السلطه العلمانيه التركيه المحميه نظريا بالدستور وعمليا بالجيش وحلفائه من رجال المال والاعمال. وارتباطهم الاستراتيجي مع الغرب وعلى رأسه امريكا ومصالحهم ضمن حلف شمال الاطلسي . ومصلحة (اسرائيل) التي كانت متغلغله في تركيا عبر معاهدات عسكريه كثيره. وعبر علاقات مصلحه مع رجال المال والاعمال والجيش برعاية امريكيه. لذلك كانت تمتلك زمام المبادرة دوما في علاقتها مع اربكان وتيارة. فتسقطه ثم تعطيه فرصة العودة لدور لا يستطيع ان يقوم به احد غيره. خاصة في الثمانينات. ليكون الاسلاميين بديلا عن الفوضى وعن حركات اليسار المسلحه. وخاصة دور اربكان ومشروعه الاسلامي في طرح حل للقضيه الكرديه كجرح نازف من خلفية وحدة المعتقد كاسلام ووحدة المصلحه كمواطنين اتراك (تركمان واكراد). ولاعادة الدورة الصاعده للاقتصاد التركي الذي رعاه اربكان في حكوماته المتعاقبه..
تاسعا. كان آخر حصار مورس على اربكان دفعه للاستقاله في 1997. سببه سياسات خارجيه تجاوز فيها خطوطا حمر . سواء باحتضان ايران بيوم القدس والتهجم على امريكا والغرب و(اسرائيل) .او بالزيارة الى ليبيا وتصريحات القذافي التي تجاوزت حدود الاعراف الدبلماسيه. او محاولة اربكان ان يقف في وجه الاتفاقات الامنيه والعسكريه مع (اسرائيل). او التنديد بالتوجه لاوربا ومحاولة تركيا الدخول في الاتحاد الاوربي . والاستدارة للشرق والعمل لخلق مجموعة اقتصاديه منافسة لا ترضى عنها امريكا وحلفائها.. لذلك حوصر واستقال وانتهى دورة السياسي المباشر..
اخيرا. لم ينتهي دور اربكان في اي وقت في تركيا. فما تزال افكاره تتحرك على الارض وتتقدم بمواقعها وسلوكياتها. فها هو اردوغان تلميذ اربكان رئيسا لتركيا .وكذلك عبد الله غول الذي كان نائبا لأربكان. واصبح رئيسا لتركيا بعد ذلك ونائبا لأردوغان في حزب العدالة والتنمية الحزب الذي استلم السلطة ديمقراطيا من عام 2000. الى السنة الماضية وهو الان الحزب الاول في تركيا. الحزب الذي لم يقوده اربكان لكنه مرجعه الروحي ويستمر في تحقيق طروحات اربكان واهدافه.
.تركيا الناهضه اقتصاديا ترتيبها 18 على العالم. بعد ان كانت ما فوق المئه. المتقدمه في الخدمه المدنيه والاهليه والصحيه والعمل والصناعه والتجارة والعمران. تركيا الديمقراطية نصيرة حقوق الانسان والشعوب المظلومة المطالبه بحقوقها بالعدل والحرية والديمقراطيه وخاصة بعد الربيع العربي. تركيا التي اصبحت الرقم الاصعب في منطقتنا والتي تعتبر ظهيرا للربيع العربي وخاصة ثورتنا السوربه. تركيا التي وقفت في وجه اسرائيل في لبنان وغزه والحصار وقدمت شهداء.. الخ..
.كل ذلك ما كان يحصل لولا الدور الذي اسسه اربكان .ومن استجابة للمطالب الشعبية واستعادة الهوية والعمل للحياة الافضل للشعب التركي..
لا بد من مجيء اليوم الذي يعاد به الاعتبار لنجم الدين أربكان في الدولة التركية رسميا.. كما هو اعتباره عظيم مجتمعيًا الآن .