إنّ اعتبار العامل الخارجي رئيسياً في التجزئة العربية لا ينفي الدور الحاسم للعامل الداخلي، خاصة دور سلطة الدولة الوطنية. فما هي الأسس التي قامت عليها هذه الدولة؟ وما هي سماتها؟ وما هي أدوار القوى المكوّنة لها؟
إنّ الدولة الوطنية قامت على مجموعة أسس أهمها:
- – خريطة رسمتها القوى الإمبريالية، لا تستند إلى مقومات جغرافية طبيعية، خارج إطار التقسيم الإمبريالي. وقد رُسمت هذه الحدود لاعتبارات سياسية متعددة منها:
أ- ضمان الضعف العام.
ب- ضمان أدوار سياسية لطوائف أو جماعات إثنية، كما هي حال السودان والعراق ولبنان وسورية.
ج- ضمان توازن إقليمي محدد.
ولذلك، فإنّ لهذه الخريطة ضماناتها. فهي تملك قوة حماية من الخارج، لأنّ القوى الخارجية التي رسمتها لها مصلحة في بقائها. ثم أنّ لهذه الخريطة حمايتها الدولية عبر منظمة الأمم المتحدة، التي تنتمي إليها الدول الوطنية، من بين دول العالم الأخرى.
- – سلطة سياسية، تحمي هذه الخريطة من القوى الخارجية المعادية، ومن القوى الداخلية الناقمة.
وهكذا، فإنّ ظهور الدول الوطنية كان نتيجة لمساومة تاريخية بين دول التحالف المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، واقتسامها الجغرافي لممتلكات الإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي. وضمن هذه الرؤية يمكن تتبع نشوء وتطور هذه الدول خلال مرحلتين رئيسيتين:
(أ)- المرحلة الكولونيالية، إذ كانت تعني الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية المباشرة، لكنّ التطورات الدولية، وبالأخص منها ظهور الاتحاد السوفياتي وإشعاع ثورة أكتوبر الاشتراكية، وبروز النموذج الأمريكي الذي لم يمتلك مستعمرات – في ذلك الوقت – وإشعاع مبادئ الرئيس ويلسون حول حق تقرير المصير، إضافة إلى تنامي فعالية الوعي الوطني، ساهمت جميعها في تسريع الانتقال من صيغة الانتداب إلى منح الاستقلال الوطني بتدرج. الأمر الذي أدى إلى نشوء شكل من أشكال الاستقلال الوطني، المرتبط بمعاهدات واتفاقيات ثنائية، ترتكز على المساواة الشكلية والشراكة الإسمية المتبادلة، ولكنه حمل مضامين إيجابية تمثلت في تبلور وتشكّل الهوية الوطنية لهذه الدول.
(ب)- مرحلة التحرر والسيادة الوطنية، حيث ساعدت التطورات الدولية اللاحقة، بعد الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركات التحرر الوطني، على تعزيز مكانة السلطات الوطنية، واغتنائها بمحتوى جديد يمكن تلمسه من خلال مؤشرين: الاستقلالية – النسبية – في اتخاذ القرار السياسي، وزيادة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. وقد تعمقت هذه الاتجاهات بعد وصول قوى راديكالية إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية، خاصة في الستينيات، حيث وقع انقلاب 8 فبراير/شباط 1963 في العراق، وانقلاب 8 مارس/آذار 1963 في سورية.
لقد دلت التجربة على أنّ عمليات تأميم المصانع وتحديد سقف الملكية الزراعية، وإن بدت تقدمية من الناحية التاريخية، حيث أوجدت شكلاً من أشكال ” رأسمالية الدولة الوطنية “، إلا أنها أدت إلى نتائج عكسية. فمن ناحية، عمقت التبعية الاقتصادية للاحتكارات الأجنبية. ومن ناحية ثانية، ساهمت في تشويه تطور مجتمعاتها حين جرى قطع هذا التطور الرأسمالي الجنيني في المراحل الأولى من نشوء الدولة الوطنية.
ومن ناحية ثالثة، فُرضت أنظمة حكم الحزب الواحد، وغُيّبت الديمقراطية عن الحياة السياسية، مما أضعف مبدأ السيادة الوطنية الفعلية.
لقد تضخمت الذات الوطنية في الشكل، من خلال: بناء دولة، بكل مظاهر الدولة، والتوسع في إنشاء الأجهزة السياسية والأمنية، والإغراق في المظاهر الاحتفالية، والتعبئة على أساس الولاء للأسرة الحاكمة والزعيم الملهم، والمبالغة في الحديث عن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، والإسراف في تأكيد الدور الإقليمي والدولي.
أما القوى التي لعبت أدوارا في الدولة الوطنية فهي عديدة، ولكنها متفاوتة التأثير ويمكن تصنيفها كما يلي:
(1) – العائلات الحاكمة، سواء كانت عائلات تقليدية، حكمت نتيجة توارث السلطة، أو عائلات حاكمة جديدة، جاءت نتيجة الانتخابات أو الانقلابات، فإنّ هذه العائلات لا تمسك بزمام السلطة فقط، بل بزمام الحياة الاقتصادية أيضاً. وهي ذات مصلحة بالمحافظة على السلطة في البلد الذي تحكمه، لأنّ وجودها في السلطة مصدر قوتها وسلطتها.
(2) – البورجوازية – العقارية – التجارية – المالية، وهي خليط من أبناء وأحفاد العائلات الإقطاعية وكبار التجار والملاكين العقاريين في العهد العثماني، ومن العائلات العقارية – التجارية التي نمت وترعرعت في عهود الاستعمار الغربي، ومن البورجوازيين المتوسطين الذين أثْروا في عهود الاستقلال.
(3) – القوى الطائفية، وهي تضرب أسس الوحدة الوطنية، لمصلحة حالة دونها.
(4) – الشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة المستفيدة من العائلات الحاكمة والبورجوازية العقارية – التجارية – المالية، والتي تحتل مواقع مهمة في الدولة والجيش والشركات.
ومرة أخرى، نؤكد أنّ إشكالية التجزئة ليست ناتجة عن العامل الخارجي، الذي أوجدها ودعّمها وأمدّها بكل سبل القوة والاستمرار، فحسب. فهو لا يستطيع دعم وإدامة التجزئة حين لا توجد عوامل داخلية تسمح بذلك. إنّ العامل الخارجي يفعل فعله في ظروف مؤاتية، ولا يستطيع الفعل حينما تكون الظروف الواقعية منافية له، وقادرة على تجاوزه. وعليه، فإنّ تكريس حالة التجزئة العربية لم يكن بفعل خارق قام به الاستعمار، بل أساسا بفعل بنية داخلية مفككة، غير قادرة على التطور، وعاجزة عن إنجاز الاستقلال الحقيقي والوحدة القومية. فحين تتأسس القوى المعنية جديا بقضية الوحدة، يكون من الممكن مواجهة التأثيرات الخارجية، ونسف أسس التجزئة.
ومع أنّ ” الحرب الباردة ” قد تميزت، في العالم العربي، باكتساح ” المد القومي ” للساحة العربية، المد الذي رفع شعار الوحدة العربية جنبا إلى جنب مع شعاري الاشتراكية وتحرير فلسطين، فإنّ انفصال الأيديولوجية عن السياسة ظل الظاهرة المميزة للوضع في العالم العربي. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه شعار ” الوحدة العربية ” على كل لسان، في أوساط الجماهير كما بين صفوف النخب وعلى لسان بعض الحكام، خاصة في سورية والعراق، كانت السياسة تتجه وجهة أخرى، وجهة بناء الدولة الوطنية المنغلقة على ذاتها.
إنّ انهيار السقف القومي لم يؤدِّ إلى ” تبرير” الكيانات، كما تراءى للبعض، وإنما قاد، وهو يقود في كل لحظة، إلى تدمير الكيان نفسه لمصلحة كل ما هو محلي وخصوصي، من عناصر عرقية وطائفية ومذهبية وجهوية واجتماعية، وما تستتبع من تعارض ولا تجانس تصل، بفعل الانتشار السريع للخصوصيات الثقافية، إلى حد التناقض، كما في أكثر من حالة من حالات المجتمعات العربية.
إنّ اعتبار التجزئة نقيضا للوحدة يؤدي إلى إفقار الوحدة، وإفراغها من كل محتوى أو مضمون. فمضامين الوحدة، أية وحدة على العموم ” تنبع من واقع التعدد والاختلاف والتناقض. فانقسام المجتمع إلى قبائل وعشائر وجماعات قومية وإثنية وثقافية ولغوية، وأديان ومذاهب … وإلى طبقات وفئات اجتماعية وجماعات مصالح.. وقوى وتيارات واتجاهات، فضلاً عن الفوارق الجغرافية، وعوامل التكون التاريخي.. واقعة تاريخية، وواقع راهن، والإشاحة عنه، جهله أو تجاهله، لا يغيّر في الحقيقة شيئاً. وبالتالي، فإنّ تماسك المجتمع أو عدم تماسكه، قوته أو ضعفه، وحدته أو تجزؤه، تقدمه أو تأخره، إنما تتوقف على نوع العلاقات القائمة بين مختلف عناصر تكوينه “. وعملية التوحيد القومي هي تجاوز واقع التجزئة دون إلغاء التعدد والاختلاف، فهو مستحيل موضوعياً. إنها عملية توحيد المتعدد والمختلف والمتناقض والمتعارض. لذلك كانت العقلانية، والعلمانية، والديمقراطية، والحداثة، مضامين عملية التوحيد القومي.
وبناء على ذلك كله، يبدو أنّ المدخل الوطني أضحى حقيقة عربية، لم يعد من الجائز تغييبها أو إهمالها، لأنّ الدولة الوطنية أصبحت واقعاً يفرض نفسه على المستويين القومي والدولي. وقد كان يجب إعطاءها حقها، والاعتراف بأنّ أية دعوة للوحدة العربية على حسابها أو من فوقها، هو عبارة عن قفز إلى المجهول، والدخول في حقل ألغام الصراع العربي – العربي.
مع العلم أنّ الدول العربية متباينة من حيث مكوناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، ومن حيث عمق الحضور الإمبريالي، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم، ومدى نضوج النزوع الوحدوي. فالعالم العربي فيه المتأخر جدا أو المتأخر والأقل تأخراً، إنه عالم مفوَّت، فيه الفقر الذي يقترب من التسول والغنى الفاحش الذي يؤدي إلى التخمة.
وإذا كانت السلطات الوطنية هي العائق الرئيسي أمام المشروع الوحدوي العربي، فإنّ الدول الوطنية ” هي الممر الإجباري والوحيد نحو الدولة القومية الأرقى، التي لن تقوم بضربة سحرية من طليعة قومية حالمة، أو بعمل جماهيري صاعق، بل هي بالأحرى عملية أو سيرورة تاريخية لها، ككل عملية تاريخية، مكونات تناقضية تصنع تاريخها الخاص، فكل مكسب تحرزه الجماهير الشعبية (مكاسب ديمقراطية أو اجتماعية) يقرّب الهدف الوحدوي من إمكانية التحقيق “. وقد نستطيع أن نعارض الدول الوطنية الراهنة، أو نبدي شكوكنا في منشئها وآفاقها ووظائفها، ولكننا ” لن نستطيع تجاهلها، أو القفز من فوقها، أو التقليل من أهمية وضرورة تبلورها كدول ديمقراطية حديثة، تشكل اللبنات الأساسية للبناء القومي، إذا أردنا أن نهجر الخطاب القومي الشعوري المتشنج، وأن لا نبرح أماكننا على أرضية السياسة والتاريخ “.
وثمة افتراض جدير بالدراسة والتحليل ينطلق من أنه كلما نضج النظام الوطني وحقق وظيفته التاريخية في التنمية الوطنية الموصلة للنمو القومي، كلما ” اقترب الموعد التاريخي للوحدة القومية وتم تجاوز المرحلة الوطنية لذاتها “. ولعلها ليست مصادفة ” أنّ الكيان الوطني الأقدم والأنضج بين الكيانات العربية، وهو الكيان المصري، كان أسبق الكيانات لقيادة حركة الوحدة العربية في التاريخ المعاصر، وباتجاه أقدم كيانين في المشرق، وهما سورية في مشروع الجمهورية العربية المتحدة، والعراق مع سورية، في مشروع الوحدة الثلاثية “.
وليس من المبالغة القول أنّ التاريخ السياسي العربي منذ التجزؤ المبكّر لإمبراطورية الخلافة الإسلامية، ثم تأرجحه المستمر بين التشكل المتعاقب لوحداته الكبرى والصغرى دون ثبات ” كان يشهد باستمرار عملية استئناف تشييد الدولة من الصفر “، حيث كانت الدولة في المنطقة العربية في تكوّن وانحلال دائمين.. إلى أن قامت الدولة الوطنية في العصر الحديث، وثبتت بحدودها وإقليمها الجغرافي وقاعدتها السكانية ومؤسساتها المتنامية، مما يوفر التجارب والنماذج الأولى في التاريخ السياسي العربي لنواة الدولة بمعناها ” العضوي ” والمتكامل.
وهكذا، يبدو أنّ الدولة الوطنية لم تمثل فقط إقامة السلطة السياسية، وإنما مثلت بالإضافة إلى ذلك – في أكثر الحالات – مشروعاً عملياً توحيدياً بين ولاياتها ومناطقها وأجزائها غير الملتحمة مجتمعياً وسياسياً في السابق. ولذلك، فهي تبدو ” نواة ” وتأسيسا للدولة وللوحدة في وقت واحد، فلا وحدة دون مقوّمات دولة. وعلى هذا الأساس، فإنّ الخطأ الكبير لحزب البعث أنه لم يدرك هذه الحقيقة أولا، وأنه لم يدرك – ثانياً – أنّ الدولة الوطنية (خاصة في سورية والعراق) لم تصل إلى مرحلة الدولة المكتملة التكوين والنضج والمؤسسات والتقاليد والنظم، بالرغم من قوة، بل وجبروت، جهازها السلطوي القمعي.