قراءة في رواية : البنات

أحمد العربي

عن دار موزاييك في اسطنبول صدرت رواية محمد جلال البنات . وكنا قد قرأنا توثيق محمد جلال للثورة السورية في محطتين من مسارها في كتابيه. هذه ثورتي واليوم التالي، وكتبنا عنهم…

في رواية محمد جلال الجديدة البنات يكتب بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية في الرواية حسن. معتمدا على أسلوب الخطف خلفا. منطلقا من كونه يقضي سجنه المؤبد في حلب عام ٢٠٣٠م وأنه منعزل عن كل المحيطين به في السجن. ويدعى مالك الحزين . حتى جاءه اتصال جعله يعود الى طبيعته وبدأ يتواصل مع الآخرين. لقد عادت اليه أسباب تربطه بالحياة بعدما كان منسحبا منها…

ثم تبدأ حكايته منذ البداية…

تتميز الرواية في سرد ما عاشه حسن بكل تفاصيله عبر نصف قرن تقريبا حيث تكون حياته الخاصة هي الحدث المركزي في الرواية، بينما تكون الخلفية الحياتية والمجتمعية والسياسية العامة متخفية وراء الحياة الخاصة لبطل الرواية. لكنها السبب الحقيقي وراء حصول ما حصل في حياته. ورسم مسار تلك الحياة بالكامل… هنا يظهر تميز الرواية بأنها عمل أدبي اولا ثم تأريخ لما حصل في سوريا وتطور الأوضاع فيها وحولها في العقود الأخيرة.

يعود حسن بطل الرواية إلى التحدث عن نفسه. فهو ابن مدينة حلب، والده يعمل في تجارة العقارات. أحواله المادية جيدة. دخل الجامعة ودرس اللغة الإنكليزية اوائل الالفية الجديدة. وتخرج بعد ذلك. اتمّ خدمة الجيش الإلزامية . عمل مدرسا للغة الانكليزية في مدرسة قريبة من منزلهم في حلب. انصب اهتمام العائلة على تأمين زوجة مناسبة له. من مستواه الاجتماعي والاقتصادي ومن البيئة المتدينة. لم يكن لدى حسن اي خيار مباشر في ذهنه. لذلك ترك الامر لاهله الذين اختاروا له زوجة من حارتهم وبيئتهم، يعرفها منذ الصغر. كانت خيارا مقبولا بالنسبة له بكل المعايير. طلبت اسماء الخطيبة  أن تلتقي به دون معرفة الاهل. التقيا وتحدثت معه في أمور المستقبل، كانت تدرس الحقوق، سألته عن موقفه من عمل المرأة وهل سيقبل عملها في المستقبل، كان الجواب أنه لا مانع إن كان هناك حاجة لذلك. فهي ستكون ربة منزل ولديها أولاد..الخ . كانت متوازنة وعقلانية وتعرف ماذا تريد. تزوجوا في بيت اشتراه أبوه له وعاشا مثل أي اسرة ناشئة هو يدرّس وهي في البيت. موعود ان يعمل مع والده في تجارة العقار مستقبلا…

لا بد من التعريج على حياة حسن السابقة فقد كان قد تعرف بالصدفة على هند وهي طالبة أيام دراسته الجامعية، حيث سحبت بطاقته الامتحانية على أنه يغش والتقى بها حيث كانت تستعيد مثله بطاقتها. كانت فتاة متميزة في كل شيء. متحررة لا تلبس الإيشارب. منطلقة، ثورية بالفطرة، نقدها لاذع لكل شيء خاص وعام. التقيا كثيرا بعد ذلك حتى تولدت بينهم مشاعر حب، لكن حسن خاف أن يعد هند بأي مستقبل مشترك ؛ زواج ، لأنه ادرك ان بيئته لا تحتمل نموذج هند. وهي فهمت ذلك وطردته من حياتها. وغادرته دون أي تواصل… لذلك لم يفكر حسن بهند حين فكر بالزواج. واعتبرها خرجت من حياته…

حصل الزواج وانجبت زوجته بعد ذلك طفلته الأولى سارة وعاش حياة هانئة نسبيا. فقد كان رجل يحب بيته وأسرته. تعلق بابنته كثيرا…

استمر ذلك حتى حصلت الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١م. كان حسن بعيدا عن السياسة. ويعرف من خلال ذاكرة من حوله أن النظام لن يرحم من يخرج مطالبا بأي حقوق. الثمانينات والقتل وتدمير الاحياء واعتقال المعارضين مازال حاضرا في ذهن الناس. مع ذلك خرجوا في حلب تأخروا قليلا عن بقية المحافظات لكنهم خرجوا بقوة وقدموا الكثير من التضحيات. أصاب حياة حسن وعائلته الارتباك، فزوجته لم تكن سلبية مثله فهي تؤيد الثورة و التظاهر والمشاركة به. فرضت عليه ذلك. كانت تخرج للتظاهر تاركة ابنته عنده. ومع تطور رد فعل النظام العنيف على الحراك الثوري السوري. الذي وصل إلى مرحلة القصف والتدمير واستعمال الطائرات. وزاد الامر سوء بحيث لم تعد زوجته قادرة على التحرك بأريحية مثل الاول. انتقلت لتساعد المهجّرين والهاربين من الموت المنصب عليهم. وزاد الامر سوء بدعوة حسن الى الاحتياط بعد مضي سنوات على الثورة. وهذا يعني ان يذهب للجيش ويقتل السوريين الآخرين ويُقتل بيدهم. اتفق مع أهله على انتقاله الى مناطق حلب الشرقية التي تحررت من سيطرة النظام. النظام الذي لم يستسلم لتقدم الجيش الحر في أغلب سوريا. استعان بالإيرانيين وميليشيات حزب الله الطائفي وغيره. وكذلك بالروس الذين بدأوا بحملة إبادة جماعية للسوريين في مناطق سيطرة الثوار. قصف طيران وصواريخ سكود وكيماوي. أصبحت الحياة جحيما وغير ممكنة في حلب الشرقية المحررة . مما جعل حسن يفكر بشكل جدي أن يغادر سوريا الى تركيا ومنها إلى أوروبا ثم يستدعي عائلته حيث يكون. ساعده والده بأن باع بيته الذي اشتراه له وأعطاه ثمنه لكي يؤمن سفره. زوجته حملت بطفلتها الثانية وهو يبحث عن طريق للخروج إلى أوروبا بالتواصل مع المهربين.

حصل متغير في حياة حسن سيكون له تأثير عليه في حياته التالية. لقد جاء مع زوجته الى بيته فتاتان ناشطتان من صديقات زوجته. التي استمرت تقوم بدورها الإغاثي في حلب المنكوبة كما ذكرت سابقا. كانت هند حبيبته السابقة إحداهن. انصدم بوجودها وهي ارتبكت وانسحبت من بيته مسرعة. لم تلاحظ زوجته شيئا. لكنه انتظر نومها مساء ودخل عبر حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي وبحث عن هند وتواصل معها. أعاد سيرته السابقة وأن حبهما لم يمت وانه عاتب عليها كيف تركته. وعاتبة عليه كيف لم يبحث عنها إن كان صادقا. المهم أكدوا أن جذوة الحب مستمرة… اطّلعت زوجته على المحادثة وكانت مصيبتها كبيرة بزوجها. فكرت: أحببت في الماضي لا مشكلة لكنك متزوج الآن و لديك طفلة صغيرة وطفلة في رحم أمها وزوجة تحبك وتحنو عليك وانت تركض وراء حب ضائع… واجهت الزوجة حسن ولم يعرف ماذا يجيب. وهي من جهتها كانت عقلانية ففي هذه الظروف والموت يحصد الناس فكيف ستنفصل عن زوجها ؟.وكيف تخبر اهلها واهله.؟. قررت بلع السكين في قلبها والصمت والتحمل…

 تابع حسن موضوع اللجوء الى أوروبا ذهب عبر الحدود السورية الى تركيا ومن ازمير الى اليونان ومنها إلى ألمانيا. واستطاع الحصول على إقامة لجوء ودعا زوجته وابنته لم شمل بعد اكثر من سنة. استطاعت الزوجة والطفلة الوصول إليه في ألمانيا. هناك عاشا حياة مشتركة لكن ما في القلب في القلب. لا تواصل جسدي. أنجبت زوجته طفلتهما الثانية في المانيا سمتها أمها جهان. وهو استعاض عن حنان الاسرة بعلاقة حميمية مع الأطفال. والزوجة استمرت تحتمل حياتهما المشتركة وتقوم بالحد الأدنى لواجبها الاسري. وحسن يجتر معاناته. فلا هو قادر على الانفصال عن زوجته بسبب تعلقه بابنتيه ولا هو قادر على ردم الهوة النفسية معها. استمر بحياته معهم في بيت واحد مع انفصال نفسي وجسدي…

لكن متغيرا حصل قلب حياة حسن رأسا على عقب فقد كانت ردود أفعال زوجته على بناتهم قاسية وهو يحتمل، إلى أن وصل إلى درجة ركلها واخذ البنت التي كانت تبكي بين يديها. وبعد وقت بكت البنتين كثيرا واكتشف ان الركلة ادت لضرب رأس زوجته بحافة في الأرض ونزفت وماتت كان اكتشاف ذلك بعد ساعات. أصيب حسن بالرعب. ماذا فعل؟. قتل زوجته. ما مصيره ان علم الشرطة. وما مصير البنات. كيف سيعلم اهله وأهلها… فكر كثيرا قرر أن يخفي جثة زوجته في حديقة منزلهم. لقد زرعها في أرض الريحان التي كانت جلبته معها زوجته من حلب. كان ذلك مؤلما وسرّيا. وقرر الهرب بابنتيه والعودة بهم الى سورية. أعاد الحفر على زوجته المدفونة ليأخذ الذهب في معصميها ورقبتها. ليؤمن تكلفة العودة. هرب قبل اكتشاف قتله لزوجته. واعتقاله. تواصل مع مهربين وعاد طريقه معاكسا أمواج الهاربين بعشرات الآلاف من سوريا وويلاتها. كانوا كالموج يحملون حياتهم ناجين بروحهم متوجهين إلى أوروبا لعلهم يحظون بفرصة حياة أفضل …

عاد حسن إلى اليونان ومنها الى تركيا ومن تركيا انتقل الى مدينة الرقة السورية. كانت تطورات الحرب السورية قد دخلت أسوأ فصولها. فقد أعاد النظام سيطرته على بعض المدن والبلدات بمساعدة إيران وروسيا. وكانت قد ولدت وتوسعت التنظيمات الجهادية القاعدة وداعش في أغلب الجغرافيا السورية على حساب المناطق المحررة، وكذلك في العراق. تدخّلت أمريكا والغرب لمحاربة الإرهاب الداعشي ؟!!.. وكانت الرقة قد أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية داعش . لم يرد حسن العودة ببناته الى حلب فليس لديه جواب حول مقتل زوجته. ولا يعلم هل علم اهله وأهلها بذلك أم لا ؟.

لذلك قرر الذهاب الى الرقة حيث كانت تحت سيطرة داعش. وكان التحالف الدولي قد بدأ معركة إنهاء داعش بالقوة العسكرية. وكان الناس ضحية ذلك القصف عشوائي و هم اغلب الضحايا. المهم استقر حسن في الرقة، كان جاره من معارضي داعش. مما أدى لاعتقاله واعتقال حسن من قبلهم. كان اكثر ما يخيفه انفصاله عن ابنتيه وعدم معرفته اين هنّ . زاد الضغط على داعش وبدأت تنهزم في الرقة. مما ادى للإفراج عن حسن وفي الحقيقة فهو بعيد عن اي موقف معادي لأي طرف في صراع الموت في سوريا. أفرجوا عنه قبل هروب داعش من الرقة . ولكن لم يعرف كيف يصل لابنتيه اللتان قيل إنهما في ميتم. وصل للميتم وجده خاليا. علم بعد بحث وتقصي ان الميتم نقل ومن فيه إلى مدينة دير الزور. ذهب حسن إلى هناك باحثا عن ابنتيه. وكانت دير الزور تعيش هول ما عاشته الرقة قبلها. وبدأت تنهزم داعش امام التحالف الدولي وقوات ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني ممثلة بقوات سورية الديمقراطية التي اصبحت بقواتها ادوات امريكا والتحالف الدولي لمحاربة فلول داعش على الأرض. وهكذا وجد حسن نفسه في سجن الحسكة عند قوات سوريا الديمقراطية حزب العمال الكردستاني متهما بأنه داعشي وقد يكون من قادتهم. دخل حسن وقتها في حالة فقدان الامل. فقد قتل زوجته وفقد بناته ولا يوجد ما يجعله يأمل بالحياة واستمرار العيش. لقد حاول إرسال اخبار لاهله في حلب حول بناته. ولم يعلم هل وصلهم الخبر…

في سجنه بالحسكة أعاد شريط حياته وعاش تأنيب ضمير كبير ثم قرر أن يعترف عن كل ما فعله في حياته لمسؤولي السجن ليرفع عن كاهله تهمة داعش التي تعني الموت او السجن الدائم أو الحجز في مخيم الهول. حدّث الشرطة والمحققين عن نفسه وهجرته وقتل زوجته واين دفنها وعن كل شيء. تأكدت الشرطة من صحة أقواله. فنقلته الى سجن حلب يعني تحت يد السلطة السورية حيث حكم بخمسة عشر سنة سجن. وهذا يعني ان العلاقة بين النظام السوري وال ب ك ك وقوات سوريا الديمقراطية كانت مستمرة تحت الطاولة. إمداد بالنفط وتبادل المعلومات وكل شيء…

عزل حسن نفسه بالمطلق عن الآخرين وأصبح اسمه مالك الحزين. مرت عليه السنين وهو على هذه الحال حتى جاءه اتصال أعاده إلى الحياة. بعد أربعة عشر سنة من سجنه. كان عام ٢٠٣٠م . لقد حدثته ابنته الكبرى سارة التي علمت بمكانه عن طريق هند الحبيبة السابقة لحسن الناشطة بحقوق الإنسان. ووعدوه بزيارة.

حصلت الزيارة أصبحت ابنته سارة صبية منقبة تزوجت شابا متدينا اما ابنته الاصغر جهان فقد ماتت بالقصف على ميتهم من قوات التحالف الدولي، بينما نجت سارة …

لقد عاد حسن الى الحياة وهاهو يدفع ثمن قتل زوجته. وهاهي ابنته تعود اليه بعد سنين طويلة وينتظر حتى يخرج من السجن ويعيش بقية حياته جوار ابنته ولعله يتزوج من هند التي مازالت على ماكان يعرفها عليه…

لسان حال حسن يقول:مازال في الحياة ما يستحق العيش لأجله…

هنا تنتهي الرواية .

في التعقيب عليها اقول:

لقد استغرقتني الرواية في جانبها المباشر الذي يتابع حياة حسن بطلها. رغم أن الخلفية المجتمعية والأحداث الجسام التي مرت على سوريا عبر العقود الاخيرة لم تكن حدثا عاديا بل استثناء تاريخي قد لا يتكرر في دول ومجتمعات اخرى. وهذا نجاح الرواية والراوي. لقد ذهبنا مع بطله كل الوقت في العيش في ما عاينه وعاناه ومارسه حسن بطلها…

لكن العمق الحقيقي في الرواية هو الحدث الحقيقي لسوريا وما حصل فيها…

صحيح أن حسن سكت عن حب قديم ميت وأنه اخطأ في محاولة احيائه وأثّر في حياته الزوجية. لكن ما تبقى كل ما حصل مع حسن من مآسي وكذلك مع أغلب السوريين سببه الوضع العام الذي صنعه النظام المستبد القاتل. وحلفاؤه روسيا وإيران و المرتزقة الطائفيين. وزاد السوء حضور أمريكا والغرب عبر التحالف الدولي الذي استباح سوريا بدعوى محاربة إرهاب داعش. كذلك واقع المرتزقة الجهاديين المصنعين دوليا ومن النظام : القاعدة النصرة وداعش. وكذلك ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني وخلقهم روج آفا دولة غرب كردستان بقيادة قوات سوريا الديمقراطية التي اقتطعت بحماية أمريكية ثلث سوريا لتصنع دولتها الانفصالية الكردية مستحوذة على البترول والثروات الغذائية في شرق الفرات…

النظام قتل الناس بمئات الآلاف و اعتقلهم  بذات النسبة  ودمّر بلداتهم ومدنهم وهجّرهم بالملايين. روسيا وإيران وأمريكا يتقاسمون سوريا كغنيمة حرب. عادت سوريا إلى ما قبل التاريخ. نقص في كل شيء. في الداخل شعب جائع خائف يفكر بالهجرة والهروب ، في الخارج شعب هرب ويعيش غربة، وشعب في الخيام في دول الجوار…

 مستعمرين كثر ينهشون الجسد السوري…

هذا هو واقعنا الحقيقي المتخفّي وراء أحداث الرواية الأساسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى