الحزب الشيوعي السوري: البرنامج السياسي، وقفة حاسمة في حياة الحزب.

د- مخلص الصيادي

في إطار الحركة الشيوعية عالمياً، وفي إطارها العربي، فإن الحزب الشيوعي السوري يعتبر بحق، أعرق الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية، وأكثرها خبرة، ودراية بأساليب النضال المختلفة، البرلمانية، والسرية ، والقهرية، وفي وقت مبكر جداً استطاع الأمين العام للحزب، أن يجلس تحت قبة البرلمان السوري ولم يكن قد مضى على استقلال سوريا أكثر من تسعة أعوام.
ولعب الحزب أدواراً بارزة، ومثيرة للدهشة والجدل بآن واحد. فبينما هو ضد الاستعمار الفرنسي ويعمل مع كافة القوى الوطنية يقف فجأة، وبمجرد قيام حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا عام 1936 ليدعو إلى التحالف مع هذه الحكومة، ويدين ويشجب أي كفاح يمكن أن يؤثر سلباً على حركة هذه الحكومة. ويقف الحزب الشيوعي ضد الصهيونية، ويندد بها، ويعارض التقسيم، ويعتبره مؤامرة دولية هدفها تمكين الصهيونية من إقامة دولة لها في فلسطين. ثم ما يلبث أن يعترف بالتقسيم، بمجرد أن صورت الاتحاد السوفياتي إلى جانب قرار التقسيم، أي قرار إقامة دولة يهودية في 29/11/1947، وفي مسألة الوحدة السورية المصرية، فإن الحزب بقي إيجابياً. ودافعاً في اتجاره الوحدة، وأيد قيامها، وأيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسياً لدولة الوحدة. واتخذ الضباط المحسوبون على الحزب الشيوعي ذات الموقف في اللجنة العسكرية التي كانت بمثابة القيادة الفعلية للجيش، ثم فجأة انقلب الحزب ضد الوحدة، وذد القومية العربية، دونما حدود، إلى درجة جعلته لا يرى أي مظاهر إيجابية لعهد الوحدة. بل ووقف ضد قرارات التغيير الاجتماعي التي تمثلت بالإصلاح الزراعي وبتأميمات يوليو /تموز 1961، واندفع يؤيد الانفصال، والبرجوازية السورية. ويقف إلى جانب الرجعية الداخلية والعربية وهي تنقض على السلطة في 28 أيلول /سبتمبر 1961، واعتبر نفسه قد لعب دوراً طليعياً في إحداث هذا الانفصال.
في كل هذه الأدوار، فإن الحزب الشيوعي السوري كان يعمل بتصميم وتماسك مدهشين، كان ينتقل من الشيء إلى نقيضه، ومن جو السلم والموادعة، إلى جو الصراع والسجون، دون أن يبدو عليه التأثر سلبياً بهذا الانتقال، بل على العكس من ذلك كان يبدو باستمرار أكثر تماسكاً، ويبدو أن هذه المواجهات تزيد من قوته الذاتية، يوماً بعد يوم. حتى بدأ الظن أن الحزب الشيوعي إذ يتسلح بالماركسية اللينينية، فإنه يستعصى على التأثر بمجريات الأحداث، ويستطيع أن يدرأ عن نفسه كل التيارات والاتجاهات الأخرى، وأن إيديولوجيته تعطيه من القوة ما يستطيع أن يواجه بها حركة الحياة نفسها.
فقط، في عام 1969، بعد ثماني سنوات من العمل في محيط شبه إيجابي، وفرته أجواء التحالف مع السلطات القائمة ظهرت آثار تلك السياسات. وانكشفت مدى التغييرات التي كانت تحدثها تلك المعارك في نفوس، وعقول الشيوعيين. ووضح إلى العلن أن مسيرة الحياة أقوى من أي حزب، ومن أي أيديولوجيا، وصار على الحزب الشيوعي أن يواجه كل الحقائق التي كشفت عنها تلك المسيرة، مرة واحدة، وبشكل حاسم.
في عام 1969 كانت حركة الثورة العربية التي تقف قيادة جمال عبد الناصر على رأسها قد سارت طويلاً في اتجاه تثبيت أهداف النضال العربي، رغم نكسة الانفصال، وأثبتت أحداث ما بعد عدوان 5 حزيران /يونيو. قدرة هذه الثورة على أن تحقق أمرين اثنين كل منهما يحتاج إلى جهد خاص، ومعارك خاصة:
تثبيت خط التقدم، والثورة، والانطلاقة القومية.
مواجهة نتائج العدوان، وتأكيد قدرة الأمة العربية مجتمعة على تجاوزه، وعلى تثبيت إرادتها المستقلة.
وفي عام 1969 كانت المقاومة الفلسطينية في أنضج أوقاتها، وأكثرها تأثيراً بالمواطن العربي، وبدا وكأنها تفرض قدرتها على فتح طريق جديد أو متميز. في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني.
في هذا العام، كان الحزب الشيوعي السوري قد وطد علاقات التحالف مع نظام البعث في سوريا، ذلك الحكم الذي جاء رافعاً شعارات اليسار. والتحالف مع الاتحاد السوفياتي، والالتزام التدريجي أو التداخل مع الماركسية اللينينية، وذلك عقب حركة 23 شباط /فبراير سنة 1966. وصعود الرباعي الحاكم: جديد – زعين – ماخوس – الأتاسي. أي كان الحزب الشيوعي يتمتع بأقصى حالات الحرية الممكنة منذ بداية عهد الوحدة. وكان قد مضى على عقد آخر مؤتمر له ستة وعشرين عاماً، كانت كافية بحد ذاتها للدعوة لمؤتمر للحزب، وهو المؤتمر الثالث في عمره المديد.
في هذا المؤتمر، في فترات التحضير له. وفي أثنائه، وفي الأحداث التي أعقبته وكانت مرتبطة به، ظهرت جلية آثار مسيرة الحزب ومسيرة الأمة في بنيان الحزب نفسه، وفي اتجاهاته، وثبت بشكل جلي أن الحرية – النسبية – التي تمتع بها كانت فاعلة فيه أكثر بكثير من أجواء الصدام والعنف التي عاشها في بعض الفترات.
أخطر وثيقة يطرحها حزب شيوعي عربي، طرحت في هذا المؤتمر تحت عنوان: “مشروع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي السوري”. وتكشف أثر وخطورة هذه الوثيقة في المناقشات التي جرت حولها، سواء داخل الحزب نفسه، أو داخل الحركة الشيوعية العربية، أم في تفاعل الحزب الشيوعي السوفياتي معها. ذلك التفاعل الذي جاء عبر ما دعي بملاحظات العلماء والسياسيين السوفيات والبلغار.
لقد أدت هذه الوثيقة وما دار حولها إلى عدد من النتائج لا بد من تسطيرها على النحو التالي:
تمرد القيادة التاريخية للحزب الشيوعي السوري ممثلة بالسيد خالد بكداش على قوانين العمل الحزبي، وقواعد المركزية الديموقراطية، ودخولها معركة مفتوحة مع أغلبية المكتب السياسي واللجنة المركزية، والمؤتمر، دون النظر إلى الوسائل المتبعة، ومشروعيتها في سبيل قهر المعارضين لها في الرأي.
تدخل الحزب الشيوعي السوفياتي في سياسات الحزب الشيوعي السوري، سواء جاء ذلك بداية بتلك الملاحظات، أو في ما تلا ذلك حين رمى بثقله إلى جانب خالد بكداش عربياً، ودولياً.
انقسام الحزب الشيوعي السوري، وهو الانقسام الفعلي الأول في الحزب، إلى حزبين، ثم توالي الانقسامات بعد ذلك في كلا الطرفين.
والحقيقة التي يجب الإسراع بتوضيحها. أن البرنامج بحد ذاته كان من الممكن أن يمر دون أن يحدث كل هذا الأثر، لكن لأنه كان محملاً بكل ذلك التاريخ الطويل من ممارسة الحزب، وبكل ما استطاعت أفكار الحزبيين وعقولهم أن تستوعبه من معركة الحياة العربية خلال ذلك التاريخ، فإنه كان يستعصي على الحلول الوسط. وظهر بسرعة أن الصياغات الدقيقة والحرجة التي ميزت البرنامج في عدة أماكن تفادياً لذلك الانقسام أعجز من أن تتفاداه. لذلك ما إن بدأت مناقشة هذا البرنامج في مؤتمرات الحزب، واجتماعاته الموسعة. حتى تكشفت المفاهيم المختلفة أو المتناقضة لتلك الصياغات. كذلك جاءت ملاحظات العلماء والسياسيين لتزيد من وضوح ضعف تلك الصياغات، وتناقضها.
إن ضمير الشيوعيين السوريين لم يعد يحتمل ذلك التناقض الشديد في ممارسات وتاريخ الحزب، كذلك فإن وعيهم الحزبي الذي دفعهم إلى الانضباط الحازم على مدى ستة وعشرين عاماً، هو ذاته الذي عمل على جعل المؤتمر الثالث، مؤتمراً حاسماً في تاريخ هذا الحزب وفي حياته، وقد كان – ويبدو أن خللاً في تقدير قدرة الحزب على تحمل مثل هذا البرنامج هو السبب في الانقسام الذي تولد عن هذا المؤتمر، ذلك أن قيادات الحزب التي وقفت وراء البرنامج، وكوادر الحزب الرئيسية لم تحسب الحساب الكافي الوزن الإجمالي للعناصر المناهضة لها، واكتفت بحساب وزنها فقط دون أن تضيف إلى ذلك، وزن وتأثير الحزب الشيوعي الأم “السوفياتي” ووزن وتأثير القوى المحلية، وفي المقدمة منها السلطة السورية، التي أخذت جانب الأمين العام خالد بكداش، ويبدو أيضاً أن تمسكها ستة وعشرين عاماً بمبادئ المركزية الديموقراطية، وانصياعها كل هذه الفترة، جعلها تفترض أن هذا السلوك سوف يطبع الأقلية المناهضة للبرنامج، وثبت أن هذا الافتراض خطأ كلياً.
حينما نضع مشروع البرنامج السياسي أمامنا، فإننا نستطيع أن ننظر إليه عبر ثلاثة محاور:
الأهداف: التي يجعلها البرنامج رايات لنضال الحزب الشيوعي.
تاريخ الحزب.
بنية الحزب.
وسوف نقف على كل محور من هذه المحاور لنرى كيف نظر البرنامج إليها وكيف جرى التعامل معها في إطار اجتماعات الحزب الموسعة، ثم نقدم رؤيتنا لما نعتقده قصوراً في البرنامج قبل أن نستطلع دروس أزمة الحزب هذه.
أولاً: الأهداف:
يحدد البرنامج الرئيسي أربعة أهداف للحزب الشيوعي يناضل من خلالها.
التحرير.
الديموقراطية الشعبية.
الاشتراكية.
الوحدة.
وفي إطار الأمة العربية يفصل هذه الشعارات العامة في سبعة مهام استراتيجية هي:
تصفية آثار العدوان الامبريالي الإسرائيلي في 5 حزيران 1967.
النضال لحل القضية الفلسطينية على أساس تصفية الاستعمار، والصهيونية أو القضاء على مؤسساتها العدوانية التوسعية.
النضال الدائب لتصفية النفوذ السياسي والاقتصادي للدول الامبريالية في العالم العربي والنضال من أجل حماية وتوطيد الاستقلال السياسي والاقتصادي لدوله.
استعادة الأجزاء المغتصبة مثل لواء الاسكندرون.
بناء اقتصاد وطني مستقل، وتعميق نفوذ الاتجاه التقدمي في أنظمة الحكم المتحررة والتقدمية، الأمر الذي يهيء الظروف الموضوعية الضرورية لانتقال البلدان العربية إلى مرحلة بناء الاشتراكية كما يساعد أيضاً على تهيئة الشروط الذاتية لتحقيق ذلك.
النضال الدائب لتصفية نفوذ الرجعية المتمثل بأنظمة الحكم الرجعية المتبقية، وتصفية تأثيرها على مسيرة حركة التحرر العربية، وإقامة أنظمة تقدمية تسير في اتجاه التقدم الاجتماعي والاشتراكية.
النضال الدؤوب لتحقيق وحدة عربية راسخة تسرع في حل المهمات الوطنية والقومية والاقتصادية والاجتماعية، التي تواجه الأمة العربية في عصرنا الراهن.
وواضح من هذه المهام الاستراتيجية أن الأمر يحتاج إلى تحديد للقوى الاجتماعية التي يقع عليها عبء تحقيق هذه الاستراتيجية، وتحديد دور ومكانة الحزب الشيوعي في هذه العملية.
في إطار القوى الاجتماعية فإن البرنامج يحددها تحديداً واضحاً في مجموعة “الطبقة العاملة، وجماهير الفلاحين، والبورجوازية الصغيرة في المدن والريف، وجاهير المثقفين، وغيرهم من أبناء هذه الطبقات، والفئات الاجتماعية، مثل الجنود، وصف الضباط، والضباط الوطنيين المرتبطين بالشعب، والمنحدرين من الأوصاط التقدمية الكادحة، والطلاب، والمعلمين، والموظفين، والمثقفين الثوريين”.
أما في إطار القوى السياسية فإن البرنامج يحددها على النحو التالي: “الأحزاب الشيوعية، والأحزاب والحركات التقدمية الثورية، على اختلاف اتجاهاتها وأسمائها، والكتل والشخصيات الوطنية الديموقراطية الأخرى المعادية للاستعمار والإمبريالية. والقوى والتنظيمات السياسية، والاتجاهات الفكرية لهذه الطبقات والقوى الاجتماعية في البلدان العربية”.
وخارج هذا الصف تقف القوى المعادية. وهي تحديداً “الطبقات الرجعية، وتنظيماتها السياسية، وعملاء الشركات والرساميل الاحتكارية، وعملاء الاستعمار … وهي بمثابة مراكز نفوذ للاستعمار والامبريالية داخل البلدان العربية”. ويدخل في إطار الصف المعادي البورجوازية العربية الكبيرة.
أما في الإطار الأضيق إطار الحزب الشيوعي، فإن هذه المهام الاستراتيجية تستدعي أن يضاف إليها هدف آخر، هو وحدة الحركة الشيوعية العربية “لذا فإن الحزب الشيوعي السوري كفصيل من الحركة الشيوعية العربية، يسعى بالاتفاق والتشاور مع الأحزاب الشيوعية الشقيقة الأخرى، لتكوين حزب شيوعي عربي موحد، يساهم في تحقيق مطامح الشعب العربي”.
ولأن الحزب الشيوعي هو الذي يطرح هذه المهام الاستراتيجية، ويجعلها مهامه هو، يناضل من أجلها، ويرفع راياتها، فإنه مدعو بشدة إلى إيضاح البنيان الفكري الذي أقام على أساسه هذه المهام، وعلى تلك التي تبدو جديدة في مواقف، ومهمات – حزب شيوعي – ونخص هنا:
قضية الوجدة العربية، والحزب الشيوعي العربي الواحد.
قضية فلسطين، والمواقف من الكيان الصهيوني.
وقد أجاب البرنامج السياسي عن هذا التساؤل، وكشف الزوايا التي من خلالها أقدم على رفع هذه الأهداف، وسوف نتابع إجابة البرنامج على كلتا القضيتين وما يتفرع عنهما.
في الوحدة العربية:
يبدأ البرنامج عرض موقفه إزاء قضية الوحدة بتعريف واضح ومحدد للأمة،والقومية، ويرى توفر كل عناصر مقومات الأمة عند العرب ومع ذلك فإن التجسيد السياسي لهذا الوجود قاصر، ومتناقض، حيث تتوزع الأمة الواحدة على كيانات متعددة لا تقوم على أي أساس موضوعي، ولا تعكس أي جانب من جوانب الإرادة الشعبية، يقول البرنامج :
” تتوفر لدى العرب كل مقومات الأمة الواحدة، ومع ذلك فهم موزعين في بضعة عشر بلدا تشغل مساحة واسعة من أفريقيا وغرب آسيا.
 إن وحدة اللغة، والتاريخ، والأرض، والتكوين النفسي المشترك الذي يجد له تعبيرا في الثقافة المشتركة، وتوفر إمكانيات التكامل الاقتصادي، كل ذلك يجعل العرب أمة واحدة”.
ويعطي تقييما لحركة الوحدة العربية منذ انطلاقتها فيراها حركة قومية تقدمية تستمد مكانتها هذه من انطباقها مع دلالات الحركة التاريخية .. ومن حقيقة موقفها من القوى المضادة للتقدم الإنساني، ومن وعي الجماهير وإدراكها، لذلك كان “شعار الوحدة العربية ـ قد ارتدى ـ منذ طرحه لأول مرة بسبب يقظة ونضال الجماهير العربية طابعا قوميا ديموقراطيا معاديا للاستعمار والرجعية”.
وعلى ضوء وجود الأمة العربية وتحققها عيانا، وتقدمية الفكر القومي، وحركة الوحدة العربية فإن الواقع الموضوعي للقوى الاجتماعية في الأقاليم العربية يجعلها تنقسم إلى موقفين متعارضين إزاء قضية الوحدة:
ـ موقف وحدوي: ناجم عن الحاجة لوجود دولة موحدة قوية تثبت الوجود القومي للأمة العربية، وتوحد جهود العرب وإمكاناتهم البشرية والمادية في معركتهم العادلة للقضاء على التخلف، وعلى النفوذ الإمبريالي والغزو الصهيوني.
ويمثل هذا الاتجاه المصالح الجذرية والأساسية لجماهير الشعب العربي من عمال وفلاحين، وكادحين بسواعدهم وأدمغتهم.
ـ اتجاه انفصالي : يرتكز على الكيانات السياسية التي استقل كل منها بأرض وحدود ووضع سياسي وحقوقي متميز، ويمثل هذا الاتجاه الآن المصالح الطبقية المتنوعة للإقطاعيين والبرجوازية الكبرى المتوافقة بصورة عامة مع مصالح الإمبريالية التي ترى في تجزئة الأمة العربية حالة ملائمة للتمادي في إضعاف إرادات المقاومة ضدها، ولمتابعة استثمارها، ونبها الاقتصادي مدة أطول …”
واستنادا إلى هذا  التحليل فإن الخلاصة الطبيعية تحدد “أن النضال من أجل الاشتراكية، ومن أجل الوحدة لابد أن يسير جنبا إلى جنب، ولا يجوز تأخير العمل من أجل الاشتراكية حتى تتحقق الوحدة، كما لا يجوز انتظار تحقيق الاشتراكية في عدة بلدان حتى تحقق وحدتها”.
والحزب الشيوعي ، حزب الطبقة العاملة ـ هذه الطبقة التي هي بطبيعتها وفق وصف البرنامج “أممية وحدوية” ـ لذلك فإنه مدعو أن يجسد طبيعة هذه الطبقة في بنيته، وفي سياساته، ومن هنا فإنه: “يرى أن تحقيق الوحدة العربية واجب وممكن، وسياسته في هذه القضية الهامة منطلقة من التحليل العلمي، ومن دراسة الظروف القائمة والمتحركة في العالم، في ضوء الماركسية اللينينية، ومن واقع المعركة الوطنية التقدمية التي تخوضها الأمة العربية ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وآفاق تطورها”.
ويرى الحزب الشيوعي بأنه لابد أن يرافق بناء دولة الوحدة العربية توحيد الحزاب الشيوعية العربية في حزب شيوعي واحد، وحتى يتم هذا الهدف، لابد من توثيق التعاون، وتقوية الصلات بين الأحزاب الشيوعية العربية، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق مختلف أشكال اللقاء والتنسيق .
بشكل مختصر ومكثف هذه هي رؤية البرنامج لقضية الأمة العربية، والوحدة العربية، وواجب الشيوعيين تجاهها، ومما تجدر ملاحظته أن البرنامج يحدد:
تعريفا واضحا للأمة العربية لمفهوم، من خلال تحديد عوامل تشكل الأمة، ويستسقي هذه العوامل من واقع الأمة العربية ذاتها ، وليس من واقع التعريف الماركسي الذي وضعه ستالين لعناصر تكوين الأمة، حيث يدل هذا الواقع على: اللغة، والتاريخ، والأرض، والتكوين النفسي، والثقافة المشتركة، ثم إمكانية التكامل الاقتصادي ، واعتماده هذه العناصر  يقيم قاعدة لقاء واضحة مع الفكر القومي التقدمي الذي خاض  وقاد معارك النضال العربي كل الفترة السابقة.
ويقسم قوى المجتمع من المنظور القومي إلى قسمين: انفصالي، ووحدوي، ويكشف حين يحدد معاني كل من القسمين أن هذا التقسيم ينطبق تمام الانطباق على التقسيم الاجتماعي الطبقي، فالانفصالي من المنظور القومي هو الرجعي من المنظور الاجتماعي الطبقي، والوحدوي قوميا هو التقدمي اجتماعيا وطبقيا، لذلك كانت لديه الطبقة العاملة دائما: وحدويةـ أممية.
ويضع تاريخ النضال القومي دائما في صف التقدم والديموقراطية، وتأتي هذه النظرة بمثابة نتيجة منطقية للتعريف الواضح للأمة، وللانقسام الواضح والمحدد للمجتمع، لذلك هو يرفض الفصل بين شعاري الوحدة والاشتراكية، والوقوع في أوهام الزعم بتأجيل الوحدة إلى حين استكمال البناء الاشتراكي، أو تأجيل التقدم الاشتراكي إلى حين استكمال الوحدة، ويعتبر أن دليل صدق أي شعار مهما هو في وجود الشعار الآخر، وصدق النضال في اتجاه أي شعار منهما، بتحقق النضال في اتجاه الشعار الآخر.
ويستكمل كل ذلك بتحديد مهمة الشيوعيين الموصوفين بأنهم طليعة الطبقة، وأداتها في الحركة، وعقلها في العمل، ومن هنا فإنه ليس على الشيوعيين أن يكونوا وحدويين فقط، أي قوميين فقط، وإنما عليهم أن يجسدوا قوميتهم، ووحدويتهم، بعمل مباشر يقرب يوم الوحدة، تماما كما عليهم أن يترجموا التزامهم الاشتراكي بعمل يقرب الوصول إلى المجتمع الاشتراكي، ومن هنا يفهم طرحهم لشعار “الحزب الشيوعي العربي الواحد”, ويمكن أن تكون بداية ذلك وخطوة على طريقه التنسيق المتصاعد بين مختلف الأحزاب الشيوعية العربية.
ويرسم الطريق الوحدوي: إذ كما أن الاشتراكية لا يبنيها إلا العمال، وأن الأمر يستدعي تحالفا بين قوى العمل في المجتمع الذي يلعب فيه العمال الدور الرئيس وصولا إلى الاشتراكية، فإن الأمر نفسه يصدق في المسألة القومية، ولما كان لكافة قوى العمل أحزابها وتشكيلاتها، فإن تنسقا وتعاونا فعليا يجب أن يقام بين الشيوعيين في كل بلد عربي وبين الأحزاب والقوى التقدمية الوحدوية في ذات البلد من أجل بناء جبهة تقدمية على مستوى البلد الواحد، ثم جبهة تقدمية قومية على مستوى الوطن العربي من أجل قيادة ركب النضال الوحدوي التقدمي, وهذا الطريق ضرورة حيث أن تحقيق أي من الأهداف الأخرى يرتبط بسلوك هذا الطريق، وبتعبيرات البرنامج ذاته فإنه يرى: “سرعة وعمق تحقيق ذلك مرتبط بصورة أساسية بالنضال من أجل إقامة جبهة تقدمية في كل بلد عربي، وعلى نطاق العالم العربي كل، وتضم كل القوى الوطنية التقدمية، ومنها الأحزاب الشيوعية العربية “.
في القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني
ينطلق البرنامج من قول شهير حول الصهيونية لقائد الاشتراكية الأول لينين حين يصفها بقوله: “إن الفكرة الصهيونية هي في جوهرها خاطئة ورجعية بصورة مطلقة”، واستنادا إلى هذا القول يرى البرنامج تاريخ نمو وتجسد الصهيونية كفكرة أولا، ثم كمشروع، ثم ككيان، وغذ يشير إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وقرار الأمم المتحدة بالاعتراف بإسرائيل، فإنه يقوم هذا الحدث كنتيجة لمؤامرات الاستعمار والرجعية، ثم ينتقل بعد ذلك لتوصيف طبيعة الكيان الصهيوني، فيرى بوضوح أن “إسرائيل بذاتها دولة إمبريالية، وقاعدة  عدوانية وعسكرية مدججة بالسلاح، وأداة طيعة للعدوانية الإمبريالية العالمية، وعدو لدود لواقع ومستقبل تطور حركة التحرر العربي، وتشكل خطرا على كل تطور تقدمي في البلدان العربية، فهي بمثابة ثورة مضادة في وجه هذا التطور، وهي أيضا العدو اللدود لحركة التحرر العالمية، وللحركة الاشتراكية العالمية، والمعسكر الاشتراكي، وخاصة الاتحاد السوفياتي، وهي بؤرة خطرة على مصير السلام في العالم، وهي فوق ذلك حليفة وسند لأشد الأنظمة الفاشية والعنصرية والرجعية في العالم، وتلعب دور القفاز المخملي لمخلب الاستعمار الجديد الذي يستخدمها للتغلغل في بلدان آسيا وإفريقيا الفتية خاصة”.
ولأن هذه هي طبيعة الكيان الصهيوني، من حيث اغتصابه لإقليم عربي، ومن حيث تهديده لأمة بأكملها، ولحركة التحرر الوطنية في كل مكان، فمن الخطأ النظر إلى هذا الكيان نظرة جزئية، وبالتالي التصرف على ضوء ذلك، وقد لاحظ البرنامج وجود مثل هذه النظرات الجزئية القاصرة لذلك راح يؤكد: “أن الدعوات السياسية التي تحاول التأكيد على اعتبار القضية الفلسطينية هي قضية الشعب العربي الفلسطيني وحده ـ رغم أنها قضيته بصورة رئيسية ـ ومحاولة عزلها عن مجمل قضايا الأمة العربية الأخرى، هي دعوات منفصلة علن الواقع الموضوعي، وليس لها مستقبل، … كما أن الفكرة القائلة بأن إزالة آثار العدوان وتحرير الأراضي المحتلة هو إنهاء للقضية الفلسطينية وللعمل الفدائي هي فكرة خاطئة أيضا ومضرة بمصلحة النضال ضد العدوان الإسرائيلي، إن الكفاح لإزالة آثار العدوان هو حلقة رئيسية في نضال الشعب العربي الفلسطيني لتحقيق أهدافه في تحرير وطنه، والعودة إليه، وتقرير مصيره على أرضه .. ولهذا فإن القضية الفلسطينية وحلها يرتديان طابعا وطنيا وعربا ودوليا …”.
ومن هذه الرؤية فإن جوهر القضية الفلسطينية يكمن في:
أولاً: حق الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه المغتصب من الاستعمار والصهيونية، والعودة إليه وتقرير مصيره على أرضه، وبناء دولته بالشكل الذي يريده.
ثانياً: إن العدو الذي يجابه الشعب العربي الفلسطيني في هذا النضال هو نفسه العدو الذي اغتصب هذا الحق وهو الإمبريالية والصهيونية .
ثالثاً: إن نضال الشعب العربي الفلسطيني هو نضال تحرري عادل يشكل جزءا أساسيا من حركة التحرر الوطني العربية، وبالتالي من الحركة الثورية العالمية.
رابعاً: ولكي يتمكن الشعب العربي الفلسطيني من تحقيق هدفه في تحرير وطنه لابد من تصفية الصهيونية ومؤسساتها العدوانية التوسعية.
خامساً: للشعب العربي الفلسطيني حق استخدام مختلف أشكال النضال بما فيها الكفاح المسلح من أجل تحقيق كل الظروف التي تتيح له إمكانية تحقيق أهدافه المشروعة.
سادساً: إن تحقيق الحقوق القومية للشعب العربي الفلسطيني لا يتنافى بل ينسجم مع مصلحة الجماهير اليهودية في العيش معه في ظل سلام حقيقي وعادل بمعزل عن الاستعمار والصهيونية، وفي تقرير مستقبلهم بالشكل الذي يريدونه”.
تأسياً على هذه الرؤية لجوهر القضية الفلسطينية فإن البرنامج يطلق دعوة عامة، ويعلن التزاما خاصا.
أما الدعوة العامة: فهي موجهة إلى الجماهير العربية عموما، وقواها التقدمية خصوصا، من أجل تقديم المزيد من الدعم المادي والمعنوي لحركة المقاومة، وترجمة رؤيتها القومية لهذه القضية ببذل المزيد من المساهمة والمشاركة العملية في هذا العمل الوطني القومي الكبير، فالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية يمس مصالح الشعوب العربية بمجموعها.
وأما الالتزام الخاص: فهو التزام الحزب الشيوعي بأن “يناضل لتصفية مصالح ونفوذ الإمبريالية، وفي سبيل تصفية آثار العدوان الاستعماري الإسرائيلي، وفي سبيل تحقيق هدف الشعب العربي الفلسطيني في تحرير وطنه المغتصب”.
وواضح من هذا العرض أن البرنامج يقدم رؤية للقضية الفلسطينية من زاوية جديدة لم نعهدها سابقا عند أي حزب شيوعي، عربي أو غير عربي.
وحتى تكون هذه الزاوية واضحة بشكل لا لبس فيه، فإننا نعيد تسليط الأضواء على ما نعتبره جديدا في تفكير الشيوعيين:
فالقضية الفلسطينية: ليست قضية شعب فلسطين، وإنما قضية الأمة العربية، ويتوقف على حلها مستقبل هذه الأمة، وليست قضية اغتصاب فقط، وإنما قضية عدوان مستمر يبغي الوقوف في وجه تقدم الأمة العربية وتطورها ووحدتها.
والكيان الصهيوني: ليس بمسالة سلطة عدوانية إمبريالية متربعة على قمة الهرم في “دولة إسرائيل” وإنما الكيان كله كيان عدواني، بكل مؤسساته، وتوجهاته، كيان عدواني بالطبيعة لا تصلح معه أي حلول وسط، كيان مؤسس على مهمة، ودور، يلعبهما لصالح الإمبريالية، وفي مواجهة الأمة العربية وكل حركات التحرر في إفريقيا وآسيا، وضد السلام العالمي، كيان مرتبط وجوده بقدرته على القيام بهذا الدور.
لذلك فالحل من حيث الجوهر: لا يكون بإيجاد أرضية مشتركة، نقطة وسط بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني، أو بين الأمة العربية وهذا الكيان، إن وجود هذه “الأرضية المشتركة” قضية منفية موضوعيا وساقطة عمليا، لذلك لهي وهم كامل لا مكان له على أرض الواقع، الحل بإزالة هذا الكيان، بهدم هذا الدور، بإقامة دولة فلسين العربية، يعيش فيها اليهود جنبا إلى جنب مع العرب في إطار الأمة العربية الواحدة.
أما موقع هذه القضية: من إجمالي قضايا النضال العربي فإنها في القلب منه، تأخذ الموقع المركزي الذي تتمحور حوله بقية القضايا.
إلى جانب القضية القومية، وعلى جانب القضية الفلسطينية، فإنه لا يكفي أن نطرح الرؤية الصحيحة، ونرى الأمور على نحو يتوافق مع حقائق الحياة، بل  لابد أن تحمل هذه الرؤية روح النقد.
لو أن هذا الأمر جاء من قبل حزب شيوعي جديد التأسيس لكان التعامل معه أسهل بكثير، إذ يكفي أن ننظر إلى الأساس الفكري والعقدي لهذا الطرح، كيف خًرج هذه المفاهيم على قاعدة الالتزام بالماركسية اللينينية، لكن الحزب الشيوعي السوري له من العمر نحو أربعين عاما، قضاها في العمل، متحالفا أو متصارعا  مع قوى سياسية واجتماعية عديدة، وهاتان القضيتان ـ على وجه التحديد ـ كانتا مطروحتين عبر السنوات الأربعين بشكل ملح ودائم، بل تحت راياتهما خاضت الأمة العربية أعنف معاركها: داخليا مع القوى الرجعية ـ الانفصالية، وخارجيا مع قوى الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وللحزب الشيوعي في كل هذا التاريخ مواقف وآراء لابد من إعادة معالجتها على ضوء هذه النظرة الجديدة، أي لابد من إعادة النظر في تاريخ الحزب وإعادة تقويمه من خلال النقد الذاتي، ما دام الحزب نفسه هو الذي يطرح هذه الرؤية، وما دام الحزب نفسه هو الذي يتقدم مكتشفا حقائق القضية القومية.
كذلك فإن هذا الطرح يحمل علائم ثورة فكرية شاملة، ثورة في طريقة استخدام المنهج الماركسي في التعامل مع الواقع الحي، وفي تحليل الظاهر الملموسة، ولا يعقل أن تحدث هذه الثورة بين ليلة وضحاها، فمثل هذا التطور الشامل لابد أن يكون قد مر بمراحل، وتراكم عبر سنين طويلة حتى ظهر أخيرا بالجوهر والشكل الذي طرحهما البرنامج.
وإذا كنا لم نلحظ هذا التطور قبل أن يطرح المكتب السياسي مشروعه هذا فلا بد أن يكون هناك خلل ما في بنية الحزب حال دون أن تأخذ الأمور تطورها الطبيعي التدريجي ، ودفع إلى أن تظهر هذه التطورات وكأنها ثورة مفاجئة في فكر الحزب، لأجل هذا فإن الوقوف على رؤية الحزب لتاريخه، ورؤيته للعوائق التي حالت دون التطور الطبيعي يصبح أكرا لازما، بل شرطا بلفهم طروحات الحزب وفكره الذي كشف عنه هذا البرنامج.
ثانيا: تاريخ الحزب
والقصد بتاريخ الحزب هنا تحديداً: مواقف الحزب، وفكره، إزاء القضيتين السابقتين: الوحدة، وفلسطين، وعبر هاتين القضيتين سوف نلحظ العديد من التفريعات سواء في إطار التحالفات الاجتماعية، أو في إطار حركة التغيير الاجتماعي. والتي لا يمكن فهمها إلا من خلال هاتين القضيتين تحديداً.
وأيضاً حينما ننظر إلى تاريخ الحزب تجاه: الوحدة وفلسطين فإننا لا نقصد رؤية غيرالشيوعيين لمواقف الحزب الشيوعي، سواء كان هذا الغير: المنشقين عن الحزب الشيوعي. أو أولئك المتمايزين والمتناقضين مع الفكر الشيوعي، فلمثل هؤلاء وأولئك كتبوا كثيراً في هذا التاريخ، وقد يكونون أصابوا، أو أخطأوا، لكن على الوجهين ستبقى رؤيتهم. رؤية من خارج الحزب، المهم عندنا أن ننظر في رؤية الحزب نفسه لهذا التاريخ، ورؤية كوادره وقيادته الرئيسية.
في نص البرنامج، فإن هناك إشارة خفيفة جداً، وعابرة إلى هذا التاريخ، وقد تعمد واضعو البرنامج أن يجعلوها في مقدمة البرنامج، وليس في داخله، أو تحت فقرة أو عنوان خاص. وجاءت هذه الإشارة في سياق عام حين يؤكد البرنامج أن الحزب الشيوعي “يضع برنامجه الكفاحي هذا مستنداً إلى كل ما في تجربته الثورية من انتصارات، وإخفاقات، ومن نجاحات، وأخطاء”. وغير هاتين العبارتين “الإخفاقات، والأخطاء” فلا يوجد شيء آخر يمس هذا الجانب. ويبدو أن هذه الفقرة من الفقرات التي أشرنا إلى أنها صيغت “صياغات دقيقة وحرجة”. وكان الهدف من هذه الصياغة تجنب إثارة المزيد من المشاكل. أمام هذا المشروع، إضافة إلى طبيعته ذاتها التي ليس من شأنها أن تحتوي نقداً عاماً لتاريخ الحزب.
إلا أن هذا البرنامج، وقد صار فجأة محور الصراع في الحزب، لم يعد يحتمل مثل هذه الصياغات الحرجة، لذلك جاءت المناقشات، والكلمات، ومداخلات قادة الحزب وكوادره لتكشف هذه الإخفاقات والأخطاء، ولتعطيها حجمها الحقيقي، وواضح لكل من يراجع تطور أزمة الحزب أن المحاولات لتجاوز هذه الأزمة كانت جادة  ومخلصة، وهي التي دفعت إلى تلك الصياغات الحرجة، ولولا أن الأقلية رفضت الانصياع إلى مبادئ العمل الحزبي، وخرقت المركزية الديموقراطية، وراحت تعمل في إطار محاور وتكتلات لبقيت تلك الصياغات في حدودها، ولتولت حركة الحزب، وتطوره. تحقيق التجاوز العملي لأخطاء الماضي، والتثبيت العملي أيضاً للقناعات المتفتحة. ومن هنا نلاحظ أن الوقوف العيني على تاريخ الحزب، تطور نحو مزيد من الكشف والتشخيص، كلما تطورت الأزمة نحو مزيد من التعقيد، وكلما كشفت عن نفسها باعتبارها حركة انشقاق.
إن قضية فلسطين، وقضية الوحدة العربية، وما يتبعهما ويتفرع عنهما، في الحقيقة ذات جوهر واحد، والخلاف حولهما ينطلق من الاختلاف في تعيين زاوية الرؤية لهاتين المسألتين ومن ثم تحديد مهمة الحزب ذاته تجاهما.
وإذا كانت القوى الثورية العربية نظرت دائماً باستغراب إلى موقف الأحزاب الشيوعية، – وهنا الحزب الشيوعي السوري –  من هاتين القضيتين، واعتبرت هذا الموقف غير مفهوم، وغير مبرر، فإن الطرح الذي صاحب البرنامج السياسي قد كشف بوضوح أن الحزب الشيوعي كان يعيش هذه القضايا، وكان يتفاعل معها، لكن ظرفه الخاص قد حال دون تمكنه من جعل هذا التفاعل إيجابياً علنياً.
محاور الخلاف:
عبر كل الكلمات، والمداخلات، التي صاحبت أو لحقت هذا البرنامج. والتي اختتمت أخيراً بانقسام الحزب الشيوعي السوري. فإن محورين أساسيين وضح تشكلهما وضوحاً لا يخفى على أحد. ولم يكن خافياً أبداً على قيادات الحزب وكوادره.
كان هناك من وقف خلف هذا البرنامج، وعمل على إقراره، وأراد أن يثبته كبرنامج سياسي للحزب كأهداف رئيسية في مرحلة ممتدة من الزمن، ويحدد بالطبيعة. المسالك التي يجب على القيادة أن تلتزم بها في تلك المرحلة، وإن تعيد رسم دورها في الحزب، وحركة الحزب ذاته، على ضوئها.
وكان هناك من لحظ أن هذه الوثيقة هي تعبير عن اتجاه الأغلبية الساحقة في الحزب، فاضطر إلى الموافقة عليها مناورة، وليس اقتناعاً، انتظاراً للفرصة المناسبة للانقضاض على البرنامج كله، ونسفه من أساسه، وإعادة الحزب إلى عهده السابق، وخطه القديم، .. هذا الاتجاه إذ اضطر إلى الموافقة على مشروع البرنامج بداية، فإنه كان يرى فيه خطرين اثنين:
خطر يتمثل في نتائج توجيه الحزب نحو اتجاه يحقق له فاعلية قومية، ويحوله من حزب نخبة، إلى حزب جماهيري يدفع بحركة الوحدة العربية، ويندفع معها ليس فقط في انجاه النضال من أجل إقامة دولة الوحدة، وإنما في انجاه النضال لنظم مختلف القضايا المطروحة، والتي يمكن أن تطرح بالناظم “القومي – الطبقي”. وبرزت هنا كل مخاوف الأقليات القومية التي بقيت تلعب دوراً رئيسياً في مسيرة الحزب طوال الفترة السابقة.
وخطر يتمثل في خضوع الحزب كله: مؤسساته، وقياداته، وأفراده، إلى قواعد الماركسية – اللينينية في التنظيم، وهي القواعد التي تجعل من مبادئ المركزية الديموقراطية ناظماً لحركة الجميع. أي أنها ستفتح الباب واسعاً لتصحيح هيمنة القيادة التاريخية للحزب على مقدراته، وبالتالي إخضاعه أكثر للفهم المتنامي حزبياً لاحتياجات الواقع، وللمدركات الحسية التي تكشف عنها حركة الحياة العربية نفسها. وهي كلها تصب في اتجاه الإرادة العامة للأغلبية القومية.
إن الخطرين معاً، يعني تحول الحزب الشيوعي، إلى حزب شيوعي عربي، مرتبط فعلاً بواقع الأمة، وبآفاقها، يبدو أنه لم يخطر يوماً على بال القيادة التاريخية.
لتوضيح حقيقة هذين الاتجاهين، لابد أن نعرف الموقف الأولي لقيادة الحزب الشيوعي من مشروع البرنامج، وكيف تطور هذا الموقف بعد ذلك.
في مداخلته المركزة يتحدث “بدر الطويل” عن الموقف الأولي من البرنامج فيقول: “إنكم تعرفون أيها الرفاق ولا شك أن الذي صاغ مشروع البرنامج هذا، والذي شتم ويشتم منذ زمن هم خمسة رفاق: أبو عمار “خالد بكداش”، دانيال، مراد يوسف، موريس، والداعي، وهؤلاء الرفاق هم من صاغ الصياغة الأولى. وجرى نقاش واسع حوله، فكرة فكرة، وجملة جملة! وكنا نعرف بعضنا وما بيننا من اختلاف في وجهات النظر حول العديد من القضايا وكل رفيق منا سعى جهده للدفاع عن وجهات نظره واقتناع الآخرين بها.
بعد الصياغة الأولى عرض على المكتب السياسي، ثم عرض على اللجنة المركزية، فناقشته، وصاغته. وهو بين أيديكم بعد المناقشة وإدخال العديد من التعديلات، وافقت اللجنة المركزية عليه بالإجماع ما عدا التحفظ الذي وضعه الرفيق خالد على شعار الحزب العربي الموحد، ومصدر تحفظ خالد كان يدور حول: هل ينبغي أن يوضع الشعار في المقدمة، أم يبقى في فصل الوحدة. ورفضت اللجنة المركزية تحفظ خالد وأقرت وضعه في المقدمة. وإبقاء الصيغة الواردة في فصل الوحدة”. ويكشف ظهير عبد الصمد في كلمته بعضاً من جوانب صورة التعامل مع المشروع، ويكف بدأت المواقف تتغير، وتتبدل دون أن يكون لهذا التغيير أساس فعلي في حياة الحزب. فيقول:
“إن اللجنة المركزية في أكثر من اجتماع قد درست هذا المشروع بهذا الشكل؟. واتفقت على كل مواده ونصوصه، وأقرته بالإجماع. واللجنة التي كتبته وصاغته كانت برئاسة الأمين العام وعضوية عدد من أعضاء المكتب السياسي، والسكرتاريا، واللجنة المركزية، والمستغرب أن بعض أعضاء هذه اللجنة يفقون من المشروع موقفاً غير طبيعي، ويعارضون أقساماً هي من صياغتهم؟
إن المشروع أقر بالإجماع باستثنايء نقطتين تمت تسوية حولهما هما:
الفقرة التي تتحدث عن الحزب الشيوعي العربي في مقدمة المشروع، بعض الرفاق كانوا يرون ضرورة حذف هذه الفقرة وإبقائها في فصل الوحدة العربية، أي أن هناك إجدماعاً في اللجنة المركزية على وجود فكرة حزب شيوعي عربي في فصل الوحدة العربية، والخلاف كان على مكان وجود هذه الفكرة، لا على وجودها.
الفقرة التي تتحدث عن إزالة المؤسسات الصهيونية، إن هذه الفقرة الموجودة في مشروع البرنامج وضعت بهذا الشكل بعد بحث طويل، وتم الاتفاق بالإجماع على النص الموجود في المشروع، وفسر هذا النص بعض الرفاق بأنه يمكن دولياً أن يقال: المقصور بهذا النص هو إزالة آثار العدوان، وداخلياً يمكن أن يقال المقصود هو تحرير فلسطين، أي بكلمة أن هذه الفقرة لم تكن موضع خلاف، وأقرت بالإجماع”.
ويستكمل أحمد فايز الفواز رسم صورة الجدل حول هذه الفقرات، ويعرض نمطاً محدداً في كيفية التعامل مع الفقرة السابقة الخاصة بالقضية الفلسطينية، يقول الفواز:
“وعندما اتفقنا على الصيغة الموجودة في المشروع حول القضية الفلسطينية، سأل أحد الرفاق، الرفيق خالد بلهجة التوكيد، هذه الصيفة تعني التحرير .. تحرير فلسطين! .. تعني تثقيف الحزب بروح التحرير! .. وأجاب أبو عمار: في داخل الحزب نعم: أم في الميدان الدولي، فلا”.
إن أحداً من قيادات الحزب في كل الكلمات التي ألقيت والمداخلات التي قدمت، لم تنكر حقيقة أن مؤسسات الحزب وافقت كلها على “مشروع البرنامج”. ومع ذلك فإن الحزب وقع في فخ الانقسام. وصار هناك بداية حزبين شيوعيين! وهكذا تتكشف إلى حد بعيد آلية الروح الانقسامية. كيف تنمو وتفعل فعلها.
لقد استخدم التكتل، وتجميع الأنصار، من قبل الأقلية التي وقف على رأسها الأمين العام خالد بكداش من أجل تعطيل إقرار هذا المشروع. وحينما تأزمت الأمور إلى درجة باتت تهدد وحدة الحزب، تم اللجوء إلى الاتحاد السوفياتي ليضع ملاحظاته العلمية والسياسية على المشروع للاسترشاد فيها في ترشيد عملية الجدل داخل الحزب، واشترط السوفيات أن لا تصبح هذه الملاحظات محوراً للصراع أو أداة من أدواته. وأن لا يتم تعميمها في الحزب وحصل على وعد قاطع بهذا الشأن، وفجأة تنقلب هذه الملاحظات إلى سلاح داعم للانقسام. وتصبح هي بحد ذاتها ستاراً لوقف هذا البرنامج، أو لإحداث انقسام في الحزب، وذلك حسب إمكانية أي من الاحتمالين.
من مراجعة نص البرنامج ومقارنته مع الحوارات والمداخلات يتضح أنه لم يكن هناك خلاف على:
وجود الأمة العربية.
حق هذه الأمة بإيجاد دولتها الموحدة.
ضرورة وجود دور فاعل للحزب الشيوعي في صناعة دولة  الوحدة.
ضرورة النظر إلى بناء حزب شيوعي عربي كهدف استراتيجي.
تشخيص الكيان الصيوني باعتباره كياناً استعمارياً امبريالياً.
حق تحرير فلسطين كهدف استراتيجي.
ضرورة أن تكون مواجهة العدوان والوجود الصهيوني مواجهة قومية.
أهمية الوضع الدولي وضرورة مراعاته.
لكن بعد أن وردت ملاحظات العلماء والسياسيين السوفيات والبلغار، بدأت كسوة الخلافات باللباس الفكري، وإذا كانت هذه الملاحظات قد ألقت ظلال الشك حول وجود أمة عربية مكتملة التكوين حين أشارت إلى أن الأمة العربية تناضل من أجل استكمال تكوينها، وأن عملية الاستكمال تحدث من خلال وإثناء المواجهة والتقدم الاجتماعي، والنضال الاشتراكي، وأن قضية الوحدة وأشكالها قضية مستقبل من الصعب تحديدها من الآن، وأن الشيوعي لا يمكن أن يؤيد أي وحدة إن لم يتحقق فيها الجوهر التحرري والاقتصادي. وملاحظتهم أن هناك خطين متناقضين للعمل الوحدوي: خطا إسلاميا، وآخر تقدميا، وأسسوا على رؤيتهم القومية هذه أن مسألة الحزب الشيوعي العربي الموحد ليست مسألة راهنة ، وإنما هي قضية مستقبلية بعيدة الأمد، وممكنة التحقيق في حال وجود دولة عربية موحدة.
وإذا كانت هذه الآراء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية قد تحفظت أيضا على رفع شعار إزالة المؤسسات الصهيونية، واعتبرته متضمنا معنى إزالة “إسرائيل”, وأعادت مرة ثانية معالجة هذه القضية إلى إطارها الدولي، وربطت بين التطورات الاجتماعية الثورية في البلدان العربية وعملية مواجهة العدوان الإسرائيلي، وحذرت من شعار “وطنه المغتصب”،  ورأت أنه يعكس رؤية قومية صرفة، واستبعدت أساليب النضال المظهرية التي سلكتها المقاومة الفلسطينية. وإذا كان هؤلاء الخبراء قد أكملوا ملاحظاتهم بأن اقترحوا صياغات محددة بديلة لتلك التي اعترضوا عليها، فإنهم في كل الأحوال قد انطلقوا بداية واختتموا حديثهم نهاية بعدد من الاعتبارات والتقييمات أهمها:
أن المشروع جيد ، ووثيقة نظرية هامة.
أن هذه الملاحظات لا يجوز بشكل من الإشكال أن تستخدم في عملية الصراع ضمن الحزب.
أن البرنامج هو في الأصل برنامج الحزب الشيوعي السوري، وهو المسؤول عن تنفيذه.
أن اعتماد المبادئ التنظيمية للماركسية اللينينية “القيادة الجماعية، التزام الأقلية برأي الأكثرية، .. الخ” وبالاستناد إلى الأساس الفكري الطبقي الذي يقدمه البرنامج يمكن للحزب تجاوز أزمته.
أنه رغم مظاهر الأزمة المتعددة فليس هناك مبرر فعلي لأي انقسام.
إن اللجوء إلى السوفيات والبلغار من أجل مزيد من التفاعل والتمحيص في أجزاء البرنامج لم يؤد إلى تقليل شقة الخلاف، وإنما زاد الأمر تفاقما، وشيئا فشيئا تكشفت الخلفيات التي تقف وراء المواقف الفكرية والسياسية المعلنة التي اتخذها الحزب خلال المرحلة الماضية، والتي جعلته باستمرار “متخلفا” عن الموقف الجماهيري، ومتناقضا معه، رغم الامكانات النضالية المعتبرة التي كان يحتويها.
وأيا ما كان الموقف من ملاحظات الخبراء، فإنها جعلها مادة خلاف، لا يعبر عن حقيقة موضوعية، إذ أن هذه الملاحظات نفسها قد تستخدم أداة للالتزام القومي، وقد تستخدم أداة لتبرير الموقف الانفصالي.
لقد كشف بدر الطويل في مثل ضربه في مداخلته التناقض الحاد في زاوية الرؤية لهذه الملاحظات، وبين في هذا المثل كيف أن الاتفاق حول هذه الملاحظات لا يتضمن الاتفاق حول موقف عملي واحد في الحياة تجاه المسألة نفسها، يقول الطويل:
“لنأخذ موضوعا آخر من آراء الرفاق السوفييت، رأيهم حول الأمة العربية: يفضل الرفاق السوفييت الحديث عن الشعب العربي بدل الأمة العربية التي هي في رأيهم ما تزال في طريق التكوين، لم تكتمل بعد، إن  هذه القضية ليست قضية جوهرية كبيرة إذا أخذت من الجانب العملي فقط، ولكنها يمكن أن تغدو مثار نقاش وخلاف شديد إذا ما بدأت استنتاجات متناقضة تستند إليها، فعلى هذه الموضوعة يمكن أن ينهض استنتاجان متناقضان:
الاستنتاج الأول
إذن استناداً إلى موضوعة “أمة عربية في طريق التكوين” – نحن لسنا بعد!
والأمر كذلك، فلا حاجة لنا نحن الشيوعيين السوريين أن نهتم اهتماماً مناسباً بالقضية التي تواجه الشعوب العربية. فالوحدة إذن مطلب “طوباوي”، ولا حاجة لطرحة بين شعوب أمة ينقصها عامل أساسي هو العامل الاقتصادي المشترك، وفي الوقت الذي يتجه فيه التطور التاريخي في هذه المنطقة من العالم نحو تشكيل أمم عربية (أمة سوريا، أمة عراقية … الخ). وإذا ما جرت المبالغة في هذه القضية يمكن إيجاد ناس من حزبنا يقترحون أن يكون شعار الحزب هو الانفصال. بدل شعار الوحدة المشروطة وغير المشروطة.
إن هذا ليس خيالاً أو تخيلاً. لقد حدث هذا بالنسبة للحزب الشيوعي الجزائري في أوائل الخمسينات، لقد انطلق الحزب الجزائري من موضوعة مشابهة وهي أن الأمة الجزائرية، أمة في طريق التكوين، ولم تكتمل بعد (بسبب وجود مليونين أو أكثر من الفرنسيين). فماذا نتج عن هذه الموضوعة؟ توصل الحزب الجزائري فماذا نتج عن هذه الموضوعة؟ توصل الحزب الجزائري إلى استنتاج يقول بصحة هذه الموضوعة. ورسم خطاً سياسياً معارضاً أو على الأقل محايداً من حركة التحرير الجزائرية عندما نشبت ثورتها، ووجد نفسه خارج هذه الحركة الثورية المعادية للامبريالية، وبالرغم من أنه صحح فيما بعد بعض مواقفه إلا أنه لا يزال يعاني العزلة الجماهيرية من جراء هذا الاستنتاج والموقف السياسي الخاطئ.
ولنأخذ مثالاً ملموساً آخر ظهر في مداخلات أحد الرفاق – في مداخلة الرفيق موريس – بالرغم من أن مداخلته احتوت أفكاراً جدية، وصحيحة، في موضوع تهيئة الظروف الموضوعية لإنجاح وترسيخ أية وحدة. إلا أن كل هذه الأفكار فقدت تأثيرها ومكانها – وخرجت عن الموضوع – عندما اتضح جوهر موقف موريس من قضية الوحدة، ويمكن تلخيص موقفه فيما يلي:
الميل الانفصالي في حركة التحرر العربي هو السائد، وهو الأقوى بسبب الفشل الذي أصاب العديد من المحاولات الوحدوية، وبواقع ازدياد عدد أعضاء الدول العربية في الجامعة العربية من جهة أخرى. وإذا كان الأمر على هذه الصورة – التي قدمها موريس – أي أن الحتمية التاريخية للتطور هي ضد تنفيذ الوحدة، فتغدو المحاولات التوحيدية في حلم “الطوباويين، وبقايا العصور السابقة” خاصة، والحزب الشيوعي لا يمكن أن يعارض الحتمية التاريخية، أو أن ينجر وراء الطوباويين، فلننبذ إذن شعار الوحدة.
الاستنتاج الثاني:
نحن إذن “أمة في طور التكوين”. إذن لابد أن نناضل من أجل تفادي الخلل القائم في تكوين الأمة العربية. من أجل تكوين أمة، ولن يكون هذا من شأن البورجوازية الصغيرة أو غيرها، بل هو من شأن البروليتاريا العربية، وينتصب شعار تحقيق الوحدة العربية كأحد الخطوات الجدية على طريق تكوين الأمة. ويصبح هذا الشعار أكثر إلحاحاً إذا توصلت الطبقة العاملة العربية إلى الاقتناع أن نضالها من أجل الوحدة بحد ذاته أمر يصب في مصلحة إنجاز بناء الاشتراكية. والشيوعيون، كما أكد الرفاق السوفيات يناضلون من أجل تكومين أممهم، ورفع الطبقة العالمة إلى درجة تصبقح فيها هي الأمة، وبالتالي فإن كل خطوة على هذا الطريق تؤيدها البروليتاريا، وتناضل من أجل إنجازها، وفي البلدان العربية سيأتي الوقت الذي يكون فيه ميزان القوى – وستناضل البروليتاريا العربية من أل ذلك – لصالح الأنظمة التقدمية، وستكون الحدود بينها عقبة أمام تطور هذه البلدان نحو الاشتراكية، وعندها ستكون الطبقة العاملة أول من يرفع شعار إزاحة الحدود!
ولكن هل يكون لنا شأن بكل ذلك إذا لم يكن شعار الوحدة العربية، وإنشاء الدولة العربية الواحدة شعاراً استراتيجياً لجميع القوى التقدمية في الوطن العربي.
هاكم استنتاجان متناقضان لموضوعة واحدة .. على أساس أحدهما يمكن أن يكون الحزب إما انفصالياً أو وحدوياً.
هذا أيها الرفاق، هو جوهر الموقف من آراء الرفاق السوفيات”.
إن هذا المثل الذي ضربه “الطويل” يكشف بشكل ساخر عن وجود عقليتين في الحزب نفسه، عقلية انفصالية، وأخرى وحدوية، لا علاقة لهما البتة بملاحظات العلماء والسياسيين، وإنما يجري استخدام هذه الملاحظات من أجل دعم هذا المنطق بشكل مشوه، ولعل هذا المثل ذاته يمكننا من فهم التناقضات التي وقع بها الحزب الشيوعي تجاه مسألة الوحدة تاريخياً، وهي تناقضات لا يمكن أن يمحوها الزمن وإن كان من الممكن أن يتجاوزها بالتصحيح والنقد.
لقد وقف الحزب الشيوعي مع دعوة القومية العربية، والوحدة العربية، وقال فيها قولاً بزَّ أقوال القوميين التقدميين، وحينما تحققت وقف ضدها، وحاربها، وحارب إجراءاتها التقدمية، ومشى في موقفه المعادي للوحدة إلى جرجة رفض فيها ما لا يمكن لشيوعي أو اشتراكي أن يرفضه “التأميم، والإصلاح الزراعي”. ووقف مع قوى الانفصال والرجعية وساندها ضد الوحدة.
جاء في القرار الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في 11-12-13 كانون الثاني 1958 حول تأييج الاتحاد بين سوريا ومصر، ما نصه:
“ليست القومية العربية مجرد مسألة عاطفية فقط، وإنما هي واقع عملي يتبلور ويتطور، وقوة ثورية تعبر عن نهضة ثمانين مليون إنسان، وعن طموحهم الجارف إلى احتلال مكانهم تحت الشمس. وفي صف الأمم المتقدمة … إن المحتوى الرئيسي للقومية العربية هو محتوى تقدمي ديموقراطي. وهكذا فإن القومية في نضالها من أجل تحرر العرب ووحدتهم تلعب عملياً دوراً تقدمياً ديموقراطياً على الصعيد الدولي”.
ويلاحظ “الطويل” أن هذه الفقرة جاءت في وقت لم تبن فيه بعد الاجراءات التقدمية اجتماعياً لنظام الوحدة، وجاءت بشكل “أكثر تقديراً وجمالاً”. مما ورد في مشروع البرنامج، ومع ذلك فإن الاتجاه المضاد وصف هذا المشورع بأنه “متعصب قومي”.
وقبل قرار اللجنة المركزية في هذه الدورة كان خالد بكداش قد وقف في البرلمان السوري في 7 تشرين الأول يعلن رؤيته لقضية الأمة العربية، والقومية العربية. ويقابل الوجود الموضوعي المتحقق لهذه الأمة، بالادعاء الصهيوني بأن اليهود أمة واجدة، ويجعل سند قوله في القضيتين: الأمة العربية، والادعاء الصهيوني: الاشتراكية العلمية أي الماركسية اللينينية. يقول بكداش:
“إن الاشتراكية العلمية تقرر على أساس درس تاريخ الأمم والقوميات، وتطورها، أن الأمة (هي جماعة ثابتة من الناس، مؤلفة تاريخياً، ذات لغة مشتركة، وأرض مشتركة، وحياة اقتصادية مشتركة، وتكوين نفسي مشترك يجد تعبيراً عنه في الثقافة المشتركة…
ومن الواضح أن هذه المقومات والمميزات غير متوفرة بتاتاً في يهود العالم حتى يقال إنهم يؤلفون أمة أو قومية، فأي رابطة مثلاً بين يهود أمريكا، ويهود الصين؟ أو بين يهود بولونيا ويهود تركيا أو غيرهم؟ … لا رابطة أبداً. فلا لغة مشتركة، ولا أرض مشتركة، ولا تاريخ مشترك، ولا تكوين نفسي مشترك، ولا ثقافة مشتركة …
ولا بأس من القول بهذه المناسبة بأن الوقاحة بلغت بالصيونيين اليوم درجة أنهم بينما يدعون أن اليهود يؤلفون قومية، ينكرون ذلك على العرب. بينما جميع مقومات الأمة الآنفة الذكر التي تقررها الاشتراكية العلمية متوفرة عند العرب، كما هو واضح ساطع كشالمس في رابعة النهار”…
ولنقل هنا إن هذا الاتجاه من الصهيونيين لنفي العقومية العربية يتفق تماماً مع موقف عصابة القوميين السوريين بإنكار القومية العربية إنكاراً تاماً”.
مقابل هذا الموقف النظري للحزب، ولأمينه العام، قبل قيام الوحدة، وفي مراحل التحضير لها، فإن أحمد الفواز يسجل الموقف العملي للحزب. فيقول:
“يجري الحديث عن – البنود الثلاثة عشر – .. وأن لا أريد أن أناقش مضمونها هنا. يزعم البعض أنها كانت أساس سياستنا خلال الوحدة .. لكن لم تكن كذلك .. أساس سياستنا كان الانفصال، والدعوة إلى الانفصال .. وسأعطي مثالاً من كراتس معروف (خالد بكداش). “الوحدة السورية المصرية كيف تمت وكيف أفلست وأشرفت على الانهيار” – ملحق الخبار العدد 352، المقال مكتوب في أواسط 1960 أي بعد تأميم بنكي مصر والأهلي في 11 شباط 1960. ص 29
“أصبحت سوريا اليوم، ولما يمضي على الوحدة سوى سنتين أو أكثر قليلاً في وضع لا يوصف من الفوضى والأزمة الشاملة، سواء في ميدان الاقتصاد أو في سائر الميادين الأخرى، وبعد أن أبعد عن الحكم حزب البعث، وكذلك ممثلو مختلف أوساط البورجوازية الوطنية السورية، صار من الواضح تماماً أن الوحدة لم تقم في سبيل “إنقاذ سوريا من الخطر الشيوعي” كما صرح عبد الناصر في حديثة إلى مجلة “بليتز”. بل من أجل استعمار سوريا طبقاً لمشاريع البورجوازية المصرية الكبرى .. وتجربة الفترة التي مرت منذ إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة، أقنعت الشعب السوري تماماً بأن الوحدة لم تتحقق لمصلحة سوريا، ولا لمصحلة الحركة التحررية للشعوب العربية، وإنما تحققت لمصلحة الرجعية، بل وفي آخر تحليل لمصحلة الاستعمار” … إن طريق الخلاص هو في إقامة .. جبهة شاملة هدفها النضال في إعادة النظر في الوحدة من الأساس، وفي سبيل إنقاذ سوريا المعذبة، وطنهم الحبيب”.
ويتابع الفواز رصد موقف الحب من الانفصال الرجعي قائلاً:
“أما الانفصال الرجعي البورجوازي الاقطاعي الذي كان الاستعمار وراءه فقد قيمناه كما يلي: “وهكذا فإن انتفاضة 28 أيلول التي انتصرت بفضل تضامن الشعب الواعي، والجيش الباسل، كانت أمراً محتوماً، ساق إليه منطق الحوادث نفسها، وجاء تتويجاً لنضال مرير خاضه الشعب السوري ضد حكم الديكتاتورية، والتمصير، وكان للحزب الشيوعي في هذا النضال دور طليعي”.
إن هذا التناقض، هذا الانتقال من الموقف الوحدوي، إلى الموقف الانفصالي. لا يمكن فهمه إلا على ضوء حركة الحياة نفسها، على ضوء التطورات الجارية على الأرض، وعلى ضوء بنية الحزب الشيوعي، ومراكز التأثير فيه أيضاً.
لقد نظر الحزب الشيوعي إلى الوحدة عام 1958 بمنظارين لا يحمل كلاهما أي قدر من الموضوعية، أو المواقف المبدئية:
المنظار الأول: أن هناك اندفاعة وحدوية في سوريا أشد قوة مما تطرحه مصر، أو مما يعتقد أنها تتحمله، وكان غالب الظن أن هذه الوحدة لن ترى النور، وإذا رأته فستكون في إطار مهلهل يبقى كل إقليم فيها يتصرف في شؤونه الخاصة، ولما جاءت على غير هذه الهيئة نمت بسرعة دواعي الحذر المعروفة عند الأقليات، وكشفت عن نفسها في قيادة الحزب الشيوعي. لكن المد الوحدوي كان طاغياً إلى درجة لا يمكن الوقوف في وجهه. وهكذا بدأت قيادة الحزب في إيجاد مخرج لعملية التراجع.
المنظار الثاني: حين غطت تراجعها بوضع ما دعته بالشروط الثلاثة عشر للوحدة، ولم تكن هذه الشروط غير ستار للموقف الانفصالي الحقيقي، حيث عملت على محاربة الوحدة، وادعت لنفسها بفخر دوراً طليعياً في صنع الانفصال، وراحت تزوِّر الوقائع التاريخية حين ادعت أن الشعب السوري وقف إلى جانب الانفصال، في حين أن هذا الشعب وعلى الأخص قطاعي: العمال والطلاب، هما اللذان قادا أضخم حركة تمرد، وأكثرها امتداداً في تاريخ سوريا، ضد الانفصال ومنذ اليوم الأول، وسقط العديد من الشهداء من العمال والطلاب نتيجة الصدام مع الجيش المؤتمر بالقيادة العسكرية الرجعية الانفصالية …
إن عمر قشاش، مثله مثل غالبية أعضاء المكتب السياسي، واللجنة المركزية، وكوادر الحزب، لم يعد راضياً أن تبقى الأمور المتعلقة بالوجود القومي موضع شك أو تقلقل، لذلك فإنه يقدم في هذه القضية بحثاً مميزاً لكشف مدى عمق هذه القضية في تفكيره، وفي وجدانه. يبنيه – وفق ما يرى – عبر تطبيق خلاق للماركسية اللينينية على الواقع العربي. إنه يفرق بين النضال لوحدة الأمة، والنضال لاستكمال عوامل وشروط وجود الأمة، ويكشف معنى أن الأمة بنيان تاريخي، محصلة تطور تاريخي، ليست مرتبطة بالصعود الرأسمالي، وبالتالي ليس حتماً أنها مهمة للقوى البرجوازية. ويكشف بنفس الوقت الطبيعة الثورية للعملية الوحدوية، حينما يسلط الضوء على جبهة الأعداء الذين أثبتت حركة الحياة أنهم ضد هذه العملية دون هوادة، فإذا هم قوى الاستعمار والرجعية، نفس الأعداء الذين يقفون في مواجهة أي تقدم اجتماعي. أو بناء اشتراكي. يقول القشاش:
” نحن لا نناضل من أجل استكمال تكوين أمة عربية، بل من أجل توحيد الأمة العربية المجزأة، لكي تسهم هذه الدولة في تطوير القوى المنتجة، وتحقيق العملية الثورية لدولة الوحدة”.
ويستشهد في هذا الصدد بالتقرير السياسي، حين يقول “الأمة ليست وليدة الرأسمالية، ولا من صنع البرجوازية وما يرتبط بها من مفاهيم وأصناف، هي وليدة تطور طويل بدأ قبل الرأسمالية، وسيبقى بعدها، والجماهير هي التي لعبت دائماً الدور الأساسي في هذا التطور في جميع مراحله، ولهذا فإن عدم وجود دولة مركزية اتحادية أو موحدة لا ينفي وجود وحدة الأمة”.
“لقد أثبتت تجربة الحياة نفسها أن الاستعمار والرجعية هم أعداء الوحدة العربية، وقد حاربوها في الماضي وسيحاربونها في المستقبل لحرفها عن اتجاهها الوطني التقدمي”.
أما رؤيته للوحدة الرائدة، وحدة 1958، فإنه يحددها بشكل قاطع ويحدد السبب الرئيسي للانفصال قائلاً: “إن الوحدة السورية المصرية التي قامت عام 1958، رقم كل الصعوبات، والآلام التي لحقت بحزبنا فإن محصلتها كانت تقدمية في مجرى التطور العام… لقد تحقق إصلاح زراعي، وأممت الصناعات والمعامل الكبرى التابعة للبرجوازية. ونتيجة لهذه التحولات التقدمية قامت الرجعية السورية عام 1961. بفصل الوحدة، مستغلة الأخطاء التي وقعت”.
إنه هنا يوجه إدانة كاملة ، ونقداً عنيفاً لموقف الحزب الشيوعي الذي اعتبر الوحدة. استعماراً مصرياً، واعتبر الإصلاح الزراعي لمصلحة البرجوازية المصرية، والتأميم إفقارا للبلد وإضاعة لثروته.
بعد أن يؤكد على أن تقدمية الوحدة، وليس رجعيتها هي التي ألبت قوى الرجعية عليها، يستدل أحمد فايز الفواز من واقعة الانفصال على حقيقة القوى التي تقف في مواجهة تقدم الحياة قائلاً:
“إن انفصال الوحدة لا يعني فشل حركة الوحدة العربية، كما يزعم البعض، بل يكشف مدى حقد الإمبريالية والرجعية على الوحدة العربية، ويستدعي بالضرورة نهوض الطبقة العاملة وكل القوى الديموقراطية الثورية بواجبها في توحيد الوطن العربي”.
ثم يكشف عن نموذج من النماذج في تعامل بعض الشيوعيين مع قضية الوحدة، ويحدد واجب الحزب الشيوعي:
“هناك عندنا من يتحدث عن عملية الوحدة. كما لو أنها عملية زواج رجل وامرأة!!! ونحن نجلس في مكان قاضي الشرع ..  نستطيع أن نرفض عقد القران أو نستطيع أن نباركه!!! الوحدة حتمية … الوحدة تصنعها حتى الآن قوى أخرى .. وهي تصنعها على مثالها. وحسب مفاهيمها … المطلوب من الحزب الماركسي اللينيني أن يفهم هذا الاتجاه التاريخي، ويعمل على أساسه من أجل قضية الطبقة العاملة، من أجل الاشتراكية”.
على ضوء الموقف من الأمة العربية، وجوداً، وحركة توحدها، يتحدد الموقف من شعار الحزب الشيوعي العربية الموحد، وعلى ضوء هذا الموقف أيضاً تتحدد النظرة إلى قضية فلسطين، والوجود الصهيوني، لكن قبل أن ننظر في هذا. يجب أن نلاحظ التباين الشديد في النظرة إلى الأمة العربية داخل الحزب الشيوعي:
أغلبية متوفرة في المكتب السياسي، واللجنة المركزية، والمؤتمر، وجسم الحزب كله، تقف إلى جانب البرنامج السياسي. وتؤكد إيمانها بوجود أمة عربية، وبضرورة وضع جهد الحزب في اتجاه بناء دولة واحدة لهذه الأمة الواحدة.
وأقلية في كل هذه المواقف لا ترى ذلك، بل إنها ترجح الاتجاه الانفصالي في حركة هذه “الأمة” ولا ترى للحزب أي دور في حركة الحياة العربية باعتبارها حركة “وطنية”.
أن تكشف موقفها بوضوح وصراحة، وأقلية تحاول أن تتخفى وراء عبارة معينة، ووراء شروط معينة، وتتقوى بملاحظات قدمها “الرفاق السوفيات” من أجل أن تخفي موقفها الانفصالي!!! والغريب أن هذه الأقلية التي تتخذ من تجزئة الأمة العربية دليلاً على انتفاء وجودها، ومن التباينات الطبيعية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تقدم عليها قوى التجزئة في كل إقليم عربي، دليلاً على انتفاء عامل “الاقتصاد المشترك” الذي وضعه ستالين في تعريف الأمة.
نقول الغريب أن هذه الأقلية تسمح، وترضى، وترى الأمر طبيعياً، في أن يناضل الأكراد الموزعون بين أربع دول، وثلاث أمم، ويخضعون وفق توزعهم هذا إلى أساليب تنمية اقتصادية متباينة، ومتناقضة، من أجل وحدتهم، وبناء دولة تتسع لحجم أمتهم التي يتصورونها، ثم ترضى. وتسمح أن تمارس هذه القناعات داخل صفوف الحزب الشيوعي نفسه.
إن وجه الاستغراب هنا لا ينبع من رؤيتهم للقضية الكردية، وإنما من التعارض العنيف، وغير المبرر في رؤيتهم للقضية العربية، قياساً على رؤيتهم للقضية الكردية.
يروي بدر الطويل حادثاً جرى في الحزب الشيوعي، وهو يرويه انتقاداً للنظرة الطبقية الضيق5ة التي تسود الحزب الشيوعي، لكن الدلالات القومية لهذا الحادث غنية وصاعقة. يقول الطويل: “في الأيام الأولى للمناقشة جاءني أحد الرفاق. وقم لي ورقة مرسوماً عليها العلم الكردي. قمت أنا ورسمت عليه منجلاً ، ومطرقة، وأعدتها إليه معقباً” أنا لا أريد أن تنشأ دولة كردية تحت قيادة برجوازية. “وشتم أحد الأغوات، ونست اسمه”.
ويأتي السؤال هنا: ما هي دوافع هذه الأقلية في موقفها هذا؟
حتى لو انطلقنا من صحة تحليل العلماء والسياسيين السوفيات والبلغار لموضوعة الأمة العربية. باعتبارها أمة في مرحلة التكوين، ولما تستكمل تكوينها بعد، فإن “الطويل”. كشف بمثله السابق وجود موقفين متعارضين من هذا الرأي: موقف انفصالي، وموقف وحدوي.
ما هي دوافع أصحاب الموقف الانفصالي؟
في أحاديث الرفاق تم كشف هذه الدوافع. ونحن مدعوون لأن نتابع أحاديثهم حتى نقف على رؤيتهم هم كشيوعيين لهذه الدوافع.
بدر الطويل يؤكد: “أن الرفاق الذين رفضوا بصورة قاطعة طرح هذا الشعار – الحزب الشيوعي العربية الموحد، انطلقوا من رفضهم، بل وكرههم لقضية الوحدة العربية”.
ثم يسترجع ماضي الحزب في مسألة الوحدة، ليبين إلى أي مدى مضى بهم هذا الكره، ونحو أي المواقع جرهم:
“لقد تمت الوحدة السورية المصرية فأيدناها شكلاً، وحاربناها فعلاً.. إن الكره للوحدة دفعنا للوقوف مع الرجعيين والبرجوازيين ضد التأميمات، والإصلاح الزراعي، جعلنا سياسياً، نقف مع الرجعية، واستمرينا على هذه المواقف السياسية الخاطئة حتى فترة الانفصال. انتقد ذلك، لا أبرئ نفسي من هذه الأخطاء، فأنا كنت واحداً من المسؤولين عن هذه السياسة الخاطئة”.
ونفس التأكيد يأتي عليه ظهير عبد الصمد حينما يقول: “أعتقد أن وضع الشروط للوحدة من قبل بعض الرفاق – كما ظهر في هذا الكونفرانس – يعكس روح الخوف من الوحدة، إن هؤلاء وأمثالهم يريدون بقاء روح التجزئة المصطنعة الموجودة في العالم العربي”.
لكن الخوف ليس سبباً بحد ذاته، إنه حالة لها أسبابها، ويعلم هؤلاء الرفاق بدقة أن هناك أسباباً تقف وراء هذا الخوف. لذلك يتولى ظهير عبد الصمد طرح هذه الأسباب فيقول:
“إن المخاوف التي تبرز لدى بعض الرفاق عندنا طبيعية، فهي قد تعود إلى ظروف الإرهاب التي تعرض لها الحزب في فترة الوحدة المصرية السورية، وربما تعود إلى أسباب أخرى مفهومة، كرواسب مشاعر أقليات قومية، أو رواسب بقايا العقلية الإقطاعية، أو رواسب الإقليمية، أو بسبب الخوف البرجوازي من التقدم الاجتماعي.. ولكن هذه المخاوف كلها يجب أن لا تكون الأساس قفي رسم سياسة الحزب”.
إن عرض هذه الأسباب على هذا النحو المجمل وعلى قدم المساواة، فيه خلل واضح، “فالإرهاب” الذي تعرض له الحزب لم يمنع أغلبية الحزب أن ترى القضية القومية بشكل صحيح، مع العلم أن هذه الأغلبية هي التي تعرضت أكثر من غيرها “للإرهاب”. والبحث الحقيقي في دواعي الموقف الانفصالي يجب أن ينصب حول الرواسب بمختلف أشكالها حتى يتم تحديد الأوزان الفعلية لكل منها في مواقف وسلوك الأفراد.
على كلٍ فإن عرض السباب بهذا الشكل الإجمالي مفهومة دواعيه في مسيرة الحزب، وفي محاولات هؤلاء القادة المحافظة على وحدة الحزب، وفي توقعهم إمكانية تشذيب كل هذه الرواسب في مسيرة الحزب المستقبلية.
على الوجه الآخر لقضية الوحدة، تأتي قضية فلسطين، وقد كشف الصراع الفكري حول هذه القضية بعداً آخر، وعميقاً من أبعاد الفكر الإقليمي، والفكر القومي تجاه هذه المسألة. إن القضية هنا ليست طبقية النظرة، أو عدم طبقيتها، ولا أممية النظرة، أو عدم أمميتها، وإنما التقابل كائن بين إقليمية النظرة، وبين قوميتها.
إن أحداً من الشيوعيين الذين وقفوا خلف هذا البرنامج لم يطر أي شعار غير طبقي، أو غير أممي، أكثر من ذلك، فإنهم جميعاً أبدوا استعدادهم لنزع أي عبارة يفهم منها ولو خطأ أنها تدين الشعب اليهودي كله، أو تدعو إلى إلقائه في البحر، أو تغامر في الدفع نحو حرب عالمية لحل قضية فلسطين، أو ترى أن هذه المسألة مطروح حلها اليوم. لكن هؤلاء كلهم أرادوا أن يملكوا الحزب رؤية صحيحة للقضية الفلسطينية وأن يدفعوه للممارسة الصحيحة في هذا الاتجاه، ثم يتركون للزمن، لتطور الأحداث أن تحدد الكيفية النهائية لشكل حل القضية الفلسطينية، إنهم انطلقوا في تحديد موقفهم من قضية فلسطين من قاعدة وضعها لينين تقول: في القضايا القومية تكفي مبدئية الشعار لوحدها. ومبدئية الموقف من القضية الفلسطينية حددها قادة الحزب الشيوعي تأسيساً على ما ورد في البرنامج فجاءت لتضم عدداً من العناصر:
إنها قضية الأمة العربية، وليست قضية الشعب الفلسطيني وحده.
إن الهدف البعيد هو إنهاء وجود المؤسسات الصهيونية وإقامة كيان عربي في فلسطين يعيش فيه الجميع بمن فيهم اليهود.
إن على الحزب الشيوعي أن يقوم بدوره المفترض في هذا الاتجاه.
وما وصلوا إلى هذا الموقف المبدئي إلا بعد تحليل تاريخي، وعياني، واجتماعي لنشاط الكيان الصهيوني ودوره.
لقد تمسك الأمين العام للحزب بملاحظات العلماء والسياسيين، واتخذ من هذه الملاحظات أساسً فكرياً له، في حين لم يكن هذا وارداً قبل ورود هذه الملاحظات، واستند كغيره من قادة الحزب إلى القاعدة التي رفعها لينين فيما يتعلق بالقضايا القومية المبدئية. لكنه طوع هذه القاعدة لشعار حق تقرير المصير، فاعتبر هذا الحق هو الموقف المبدئي الصحيح، وإن كان غير عملي. في حين قال أصحاب الرؤية القومية – الطبقية، إن شاعر التحرير هو الموقف المبدئي الصحيح، وإن كان في ظروف الواقع غير عملي. واعتبر خالد بكداش أن رفع شعار التحرير “ليس له أساس طبقي، كما أنه غير واقعي”. وزاد على ذلك أن هذا الشعار يخدم “مآرب الدعاية الصهيونية والاستعمارية”.
إن الأمين العام لا يواجه المسألة مواجهة مباشرة، لا من حيث كونها موقفاً مبدئياً، ولا من حيث الموقف التاريخي للحزب منها، إنه يروي حادثة جرت معه في ندوة عامة للطلاب عقدت في بلغاريا، سأله في أحد الحاضرين عن موقف الحزب الشيوعي السوري إذا وصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى الحكم. وجاء في إجابته: “إذا وصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى الحكم انحلت المشكلة، لأن معنى هذا هو أولاً: أنه تم القضاء على البرجوازية الكبرى، وكبار ملاكي الأراضي اليهود، وثانياً: انقطعت السلسلة التي تجمع بين إسرائيل وبين الصهيونية العالمية والإمبريالية العالمية، ولا يبقى هناك لا سيطرة استعمارية، ولا صهيونية، ولا عدوان، وينفتح المجال لعودة الشعب العربي الفلسطيني إلى وطنه وتقرير مصيره بنفسه، وتبقى القضية بين كادحين عرب وكادحين يهود. ومن الواضح أنهم في ظل الاشتراكية يمكن أن يتفقوا بسهولة على كل شيء بما في ذلك التسمية”.
ويعب على هذه الإجابة بأن القاعة استقبلتها بالتصفيق، ويقول إن هذا دليل على وعي جماهير الشعب العربي والشباب العربي.
مثل هذا التفكير، هذه المعاجلة للقضية الفلسطينية، يشير بوضوح إلى قدر عال جداً من الالتفاف على القضية الفلسطينية، ويكشف إلى أي مدى يمكن أن تذهب الرؤية الإقليمية.
ففي مواجهة المسألة الكردية، يعتبر نضال الأكراد من أجل إقامة دولتهم نضالاً مشروعاً ولا ينظر الشيوعيون إلى أن حل هذه المسألة يأتي من خلال حل المسألة الطبقية في المجتمع الذي يعيشون فيه.
أما في مواجهة المسألة الفلسطينية، فإن القضية محلولة حين يصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى السلطة ؟!
إنه ممنوع على الفلسطينيين أن يحلموا بوطن لهم، ولم يكن قد غاب هذا الوطن عن بعضهم غير عشرات السنين، والكثيرون منهم لا يزالون يعيشون على أرضه، ثم هو لا يرى في المسألة أي بعد قومي. أما فلسطينية الدولة أو إسرائيليتها فإنها مسألة تسمية لن يختلفوا عليها، أو هي لا تستحق خلافاً فعلياً.
الأمين العام لم يسأل نفسه تحت أي مشروعية أصبح الشيوعي الذي جاء من أوروبا الشرقية أو الغربية منذ عشرين عاماً ضمن سياق هجرة منظمة من القوى الاستعمارية إلى فلسطين مالكاً لهذا البلد، وأصحابه الذين بقوا آلاف السنين فيه غرباء!.
ولم يسأل نفسه كيف كان موقف هؤلاء الشيوعيين في العدوان المستمر على أرض فلسطين. ومروراً بالأعوام 1947، 1948، 1956، 1967!.
 وكيف يكون شيوعياً يحارب الاستغلال هذا الذي يقف على أرض ما كان يمكن أن يقف عليها لولا أنه طرد منها صاحبها الأصيل ، ثم أخيراً يتناسى واقعية هذا الافتراض الذي طرحه، وأيضاً إمكانيته!.
لقد تولى بدر الطويل كشف وهم هذا التغيير المتصور في الكيان الصهيوني، دون أن يبخس – كشيوعي – حقه في رؤية الشيوعيين الإسرائيليين بمنظار متميز – ويربط قدرة “الحركة الثورية الإسرائيلية” على فعل شيء إيجابي جدي، بقدرة حركة التحرر الفلسطينية على التقدم نحو هدفها. يقول الطويل:
“ولكن أيحق للشعب العربي الفلسطيني، ولحركة التحرر الوطنية العربية، أن تقعد منتظرة نعيم تلك التغيرات المنتظرة، وغير الواقعية برأيي، وهي تملك أيضاً كل الحق لاستخدام مختلف الشعارات والأساليب التي تؤدي بحركة التحرر الفلسطينية والعربية إلى تحقيق أهدافها القريبة والبعيدة .. ويهيأ لي أن مستقبل الحركة الثورية في إسرائيل مرتبط بعمق الضربات التي توجهها حركة التحرر العربية إلى العسكرية والعدوانية الإسرائيلية”.
ويكشف عن العلاقة الجدلية بين وجود إسرائيل، واستمرارها بلعب دورها في العدوان والاغتصاب، ليستخلص أن هذا الوجود، وجود قائم على دور، وليس وجوداً قائماً على أسس موضوعية مكونة تاريخياً لذلك فإن سقوط هذا الدور أو انتفاءه. يسقط الوجود ذاته وينفيه، وسوف تتولى الجهة التي أوجدت إسرائيل لتلعب هذا الدور. إزالتها حين تصبح عاجزة عن القيام به. وبألفاظه فإنه يقول:
“واسمحوا لي أن أقول إنه عندما تكف إسرائيل عن أن تكون قاعدة عدوانية إمبريالية، عندما تكف عن لعب دور الدركي في وجه حركة التحرر العربية يهيأ لي أن الإمبريالية الأمريكية بنفسها ستجد كل المبررات للقضاء على هذه الدولة”.
إن طرح الأمين العام لا يرى أبداً تناقضاً ما  بين الحق، والاغتصاب، ولا بين الأمة العربية، والمغتصبين لأحد أقاليمها..  بين حقها في التقدم والتهديد القائم فوقها.. فقط هو عنده قضية سلطة برجوازية مرتبطة بالإمبريالية، ولعل إجابته السابقة تتحمل القول أنه ينظر إلى الفلسطينيين كنظرته إلى المطاردين المضطرين إلى الإقامة في أرض المهجر – من نظام حكم رجعي مرتبط بالإمبريالية مثل النظام السعودي، حيث سقوط هذا النظام وإقامة نظام شعبي سوف ينهي مشكلة هؤلاء.
إلى جانب الأمين العام يقف أحمد نصري ممثل الطبقة “موقع بناء سد الفرات” ليكشف خلفية هذه الرؤية لقضية فلسطين، وهو في معرض الدفاع عنها. يعتبر وجود اليهود في فلسطين أصبح حقيقة تاريخية! وأن اغتصاب فلسطين بالهجرة اليهودية ليس أمراً مفرداً أو طارئاً في التاريخ، فقد حدث من قبل الشيء نفسه، بل بوحشية أكثر، ويشير إلى الهجرات العربية، وإلى الاستعمار الأوروبي لأمريكا يقول نصري:
“ولكن وجود اليهود أصبح حقيقة تاريخية في فلسطين، إن مجتمعاً بشرياً طبقياً، تنطبق عليه كل مواصفات المجتمعات البشرية الطبقية في إسرائيل حالياً … لقد عرف التاريخ الكثير من الهجرات الشبيهة التي تمت في مراحل تاريخية سادت فيها أنظمة اجتماعية عمادها استثمار الإنسان للإنسان. وأخذت أشكالاً أكثر همجية وسادية من الهجرة اليهودية نفسها، الهجرة الأوروبية إلى أميركا والفتك بأهالي البلاد الأصليين، وقبلها الهجرة العربية إلى الكثير من مناطق آسيا، وأفريقيا والهجرات المتتالية التي انطلقت من أواسط آسيا، باتجاه تركيا والمجر وغيرها .. الخ ، وطبعاً فإن أحداً اليوم حتى ولو كان من أغلى غلاة القوميين لا يمكن أن يخطر على باله رفع شعار تحرير المجر أو أميركا مثلاً…”.
إن نصري في هذه الرؤية لم يكتف بأن جعل قضية الفلسطينيين شبيهة بقضية الهنود الحمر في أميركا، ولم يكتف بأن جعل المسألة بين شتات فلسطيني، ومجتمع يهودي مكتمل، أي عالجها من منظور أقل من إقليمي. بل راح يماثل بين هذه الهجرات الاستعمارية، وبين الهجرات العربية، فألقى بظلال محرفة وكئيبة على التاريخ العربي، ثم في موقع آخر يدافع عن موقف الحزب من قرار تقسيم فلسطين، ولم يكتف بذلك بل راح يشبه وقف إطلاق النار عقب عدوان 1967 بقرار التقسيم، وكأنه يبشرنا “بحق إسرائيل” في دعواها عدم العودة إلى خطوط ما قبل العدوان كشرط من شروط شعار “إزالة آثار العدوان”.
وينسى هذا الكادر الشيوعي أن مليونين من الفرنسيين استقروا في الجزائر أكثر من مائة عام، وولدت لهم أجيال على أرض الجزائر – لكن السنين الطويلة هذه لم تغير من حقيقتهم الاستعمارية – ولو جرينا على هذا المنطق لكان من الواجب ليس فقط بقاؤهم في الجزائر. وإنما من واجب الحزب الشيوعي الجزائري أن يقاتل حتى يحتفظ هؤلاء بحقهم في البقاء في الجزائر بعد قيام ثورة التحرير فيها. ولكان واجباُ أن يقف الحزب الشيوعي ـ أي حزب شيوعي،  وكل حزب شيوعي ـ  في مواجهة حركات التحرير الإفريقية التي تريد أن تنزع الرجل الأبيض من بلادها، وأن تزيل مؤسساته العنصرية . ولو جرينا على هذا المنطق كان من المفروض أن نرى في فلسطين الصليبية الأوروبية التي احتلت هذه البلاد على مدى مائتي عام. ولكان واجباً علينا أن نقف لندين تلك الحرب الطويلة التي خاضها العرب والمسلمون لطرد الصليبيين.
في مقابل هذه النظرة: الإقليمية والشعوبية معاً، يطرح أحمد فايز الفواز النظرة الواقعية قبل أن يحدد الهدف، حين يصوغ سؤاله على النحو التالي:
 هل ننظر إلى المسألة كحق شخصي، فردي، أم كحق أمة وشعب؟
هل مسألة حقوق الشعب الفلسطيني تنتهي حينما نحدد مَن مِن أفراد هذا الشعب المهجر يريد العودة؟! ومن يريد التعويض!؟ فيأخذ ثمن أرضه في وطنه ولا يرجع إليه.
إذا كان الأمر وفق هذا المنطق فإن الوطن يتحول إلى مجموعة أراض مملوكة ملكية شخصية، لا رابطة بينها غير إرادة مالكيها. ولا يعود هنا للوطن معنى غير التملك؟!
ويحدد أيضاً النظرة إلى العدو حيث السؤال:
 هل هجرة اليهود إلى فلسطين كالهجرة الشامية إلى أميركا الجنوبية في أوائل هذا القرن. أفراد يبحثون عن مواطن استقرار لهم نتيجة الفقر أو الاضطهاد أم أنها هجرة قائمة في إطار “منظمة غزو”؟!
 إذا كانت هجرة أفراد فليس من الإنسانية الوقوف في وجه أفراد يبحثون عن مأوى لهم، أما إذا كانت في إطار “منظمة غزو”. فيجب تحطيم هذه المنظمة. ويؤكد: “هم لا يأتون كأفراد، بل كمنظمة غزو، وعندما نحطم منظمة الغزو لن يعني ذلك ذبح اليهود أو رميهم بالبحر .. ما يريد شعبنا تحطيم منظمة الغزو التي تتوسع”.
نظرتان مختلفتان للقضية الفلسطينية، لا تجمع بينهما أية عناصر مشتركة، وقفنا عليهما في إطار التعرض لتاريخ الحزب، لأنه على أساس هاتين النظرتين يجري تقييم هذا التاريخ.
إذ بينما يسلط الأمين العام الأضواء على مواقف الحزب ضد الهجرة إلى فلسطين، وضد التقسيم، ويتناسى المواقف المناقضة لهذه المواقف، حين يقول في التقرير السياسي الذي قدمه إلى المؤتمر الثالث 1969 “هكذا ترون أن موقفنا المبدئي من قضية فلسطين كان صحيحاً. إذ نبهنا إلى خطر الصهيونية، ومؤامراتها مع الاستعمار، وقاومنا الهجرة إلى فلسطين. ووقفنا كما تقدم ضد مشروع التقسيم، ولكن النقص الذي وقعنا فيه في الفترة التالية، وخلال مدة طويلة هو أننا أغفلنا التذكير بموقفنا المبدئي حتى أن العديد من رفاقنا وخصوصاً الشباب منهم، ما كانوا يعلمون مثلاً أن الحزب قاوم مشروع التقسيم”.
 يتولى أحمد فايز الفواز كشف ما في هذا القول من مداورة، ومن محاولة لحني الرأس أمام العاصفة ، وذلك حينما يسلط الضوء على ذلك الجزء الذي تناساه الأمين العام في تحديده السابق فيقول: “أما الحقيقة فهي أننا كنا ضد مشروع التقسيم. ولكننا أيدنا قرار التقسيم فور صدوره. كما تشهد على ذلك وثائق حزبية. وكما جرى الاعتراف بذلك في اللجنة المركزية عام 1969 .. ذلك بينما كانت جماهير الشعب تملأ الشوارع مستنكرة قرار التقسيم، المهم أن لا نتنصل مما قمنا به وأن لا نخشى قول الحقيقة للحزب وللشعب، وأن لا نقول بعنف الحقيقة ” ويؤكد الفواز أن من صفات الثوري أن يقول الحق كاملاً ذلك أن “الرائد لا يكذب أهله. هكذا قال محمد قبل ألف وأربعمائة عام”.
ثالثاً: بنية الحزب
مما يلفت الانتباه، ويثير الجدل العميق. أن الحزب الشيوعي السوري حين عقد مؤتمر الثالث عام 1969 كان قد مضى على مؤتمره الثاني ست وعشرون عاماً. قضاها الحزب دون أي مؤتمر.  وهي ولا شك مرحلة طويلة، طويلة جداً بالنسبة لأي حزب، أياً ما كان موقعه على هذه الأرض.
وإذا كانت الفترة الزمنية وحدها ليست دليلاً كافياً على حاجة الحزب للمؤتمر. فإنها حين تسبح على هذا القدر من الامتداد، تغدو كافية بذاتها للتدليل على مدى الخلل في حياة الحزب، ويزداد هذا الدليل قوة وموضوعية حينما يخص الحزب الشيوعي السوري، ذلك أن سوريا على وجه التحديد قد مرت خلال سنواتها الست والعشرين التي أعقبت عقد الحزب لمؤتمره الثاني بأحداث، ومنعطفات، وتطورات، توجب على أي حزب أن يقف أمامها أكثر من مرة. وأن يراجع مسيرته، وينقدها, فيقوي عناصر الصحة فيها، ويشذب عناصر الضعف والخلل، وأيضاً فإن الحزب الشيوعي ذاته لم يكن خلال هذه الفترة الممتدة، هادئاً أو ساكناً، ولا كان بعيداً عن الأحداث، غير منفعل ومتفاعل معها. بل كان في قلبها، يدفع بها، أو يقف في وجهها، يتصادم، أو يتحالف.
عام 1943 كان المؤتمر الثاني للحزب، وفي عام 1969 عقد المؤتمر الثالث، ومن المهم أن نرصد الاتجاهات العامة للتطور في سوريا خلال هذه المرحلة، لنرى مقدار الحاجة الموضوعية لانعقاد أكثر من مؤتمر للحزب، ومقدار التجاوز الذي خلفه عدم عقد مؤتمر، وأثر ذلك كله في بنية الحزب، وفي خطه ومواقفه.
لقد استقلت سوريا عن الاستعمار الفرنسي، وما لبثت أن راحت تبحث عن طريق لها، للنمو، وللتحرر، وللتفاعل العربي، ووسط عملية البحث، ووسط تطاول تحالف الإقطاع مع الرأسمالية، برز دور الجيش، ودخلت سوريا دوامة الانقلابات العسكرية.
ومنذ اللحظة الأولى للاستقلال بدأت رياح الجذب للمحاور والأحلاف تهب على سوريا، فمن مشروع سوريا الكبرى، والهلال الخصيب، إلى معاهدات الدفاع المشترك. والنقطة الرابعة، وحلف بغداد.
ونمت تدريجياً القوة الجماهيرية، وفرضت نفسها على التحالف الرجعي الحاكم، وعلى السلطات العسكرية المتتالية. واستطاعت أن تعزز وتراكم تجاربها الديموقراطية، وإن تهز عبر نضالها حكم الديكتاتوريات العسكرية، وأن تفرض سياسة شعبية حمتها من الوقوع في مطب الأحلاف، والاتحادات المشبوهة، ودفعتها لإقامة نوع من التوازن في العلاقات الدولية. هيأ له بالإضافة إلى الجهد الشعبي الداخلي، الجو التحرري الذي شاع في المنطقة العربية بعد ثورة 23 يوليو 1952، وكان أحد عناوين هذا الوضع الاتفاقات العسكرية والاقتصادية التي عقدت بين سوريا والاتحاد السوفياتي في وقت مبكر عقب الاستقلال.
وكشفت تطورات الأحداث التي بدأت تتسارع مخطط الإمبريالية والاستعمار العالمي تجاه فلسطين والأمة العربية. فصدر عام 1947 قرار تقسيم فلسطين. وأعلنت الأمم المتحدة عام 1948 قيام “دولة إسرائيل”. على أرض فلسطين المغتصبة، ودخلت توازنات القوى السياسية السورية، والسياسة السورية محك التعامل مع هذه القضية، وقد فجرت في محكها هذا الكثير من المؤثرات، وإذا كان أبرزها موجة الغضب الشعبي والعسكري. الذي وجد متنفساً خاطئاً  له في الانقلابات العسكرية المتتالية، فإنه جعل الموقف من هذه القضية أداة فرز، ونقطة علام، في الحكم على القوى السياسية، وفي تحديد اتجاه سوريا لمرحلة ممتدة من الزمن لا زالت جارية حتى الآن.
وفي هذه المرحلة تفجرت حركة الثورة العربية قومياً، وتمثل صاعق التفجير في العدوان الثلاثي على مصر، ذلك العدوان الذي جاء رداً على سياسات الثورة التقدمية: القومية التحررية، والذي اتخذ قرار تأميم قناة السويس مبرراً رسمياً له، وانهزم العدوان وقواه، وقامت أول وحدة في التاريخ العربي المعاصر، وغيرت هذه الوحدة طبيعة وخريطة المنطقة العربية، فسقط حلف بغداد، والاتحاد الهاشمي، حينما استطاعت قوى النضال العربي أن تسقط حكم الملك فيصل وعبد الله في بغداد، واهتز عرش الحسين في عمان، واستدعيت القوات البريطانية لحمايته، وأنزلت أميركا قواتها في لبنان حماية للرجعية الطائفية اللبنانية. واشتعل الوطن كله من المغرب فالجزائر حتى الأردن ولبنان تحت أعلام التحرر والوحدة، وتفجرت  الثورة الجزائرية تنهي الوجود الفرنسي في الجزائر، ثم دخلت الأمة مرحلة نزاع مع رافعي شعارات الاشتراكية الرافضين للوحدة، وكان موقف الحزب الشيوعي السوري، ونظام حكم عبد الكريم قاسم في العراق هو البداية.
وفي هذه المرحلة أيضاً بدأت سوريا خطوات مهتزة وخجولة في اتجاه تأميم الملكيات الأجنبية والمرافق العامة، وبعض المؤسسات الوطنية، وازدادت هذه الخطوات ببطء دون أن تغير من طبيعة السلطة، والقوى المسيطرة حتى جاءت الخطوة الكبرى المتميز والمختلفة نوعياً التي وضعت سوريا على طريق التحول الاشتراكي. وذلك حين صدرت قوانين يوليو /تموز 1961 التي أممت الصناعات الكبرى في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة، الإقليم الشمالي (سوريا) والإقليم الجنوبي (مصر).
وردت الرجعية الداخلية، والعربية، وقوى الاستعمار على هذه الخطوة بالتآمر على دولة الوحدة، وفصل سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، مستفيدة من أخطاء وقصور سلطة دولة الوحدة، وكان من الطبيعي أن تكشف الرجعية بسرعة عن دواعي قيامها بفصل سوريا عن جسم الجمهورية العربية المتحدة، حدث ذلك حينما قامت تلغي التأميم، وتجهض قانون الإصلاح الزراعي. وتقيم علاقات تحالف وطيدة مع الرجعية العربية ممثلة بالنظام الأردني والسعودي. وبالنظام الشعوبي الديكتاتوري في العراق، وتعلن العداء لكافة حركات التحرر العالمية، وتتخذ موقف الحذر والترقب من الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، وتقيم علاقات تحالف وتعاون واضحة مع الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الغربية، وتلقى التفهم الكامل من الكيان الصهيوني.
وفي هذه المرحلة تغير وضع الاتحاد السوفياتي في المنطقة العربية، فلم يعد ذلك العدو الذي تعقد لمواجهته الأحلاف، ولا الدولة التي تحاول أن توجد لها موطئ قدم في هذه المنطقة الحساسة، وإنما تحول إلى قوة فاعلة تؤثر في مجريات الأحداث كلها، وإذ جاء هذا – في بعض منه – نتيجة المواقف المناصرة لقضايانا التي جعلها الاتحاد السوفياتي خطاً ثابتاً. فإنه في الأصل صدى لحركة الثورة العربية، وتجاوباً مع اتجاهاتها الرئيسية.
إن كسر احتكار السلاح لم يكن مؤشراً لدخول السلاح السوفياتي للمنطقة العربية، فقد كان هذا – رغم مكانته – أقل الأشياء أهمية من المنظور التاريخي. وإنما كانت هذه المعركة إيذاناً بانتهاء احتكار الغرب الاستعماري لشؤون المنطقة العربية ، وعلامة حاسمة على اتجاه تلك الإرادة. وجاءت معركة السويس وبناء السد العالي ليؤكد هذا المعنى بوضوح وجلاء. وإذ بدا أن النفوذ الاستعماري الغربي يطارد في الأرض العربية، وأن عروش الملوك، وقصور الرجعية العربية تهتز، وأحلاف الغرب تتهاوى، فإن هذا كله كان صدى للتحول العظيم الذي عاشته هذه الأمة مع ثورة يوليو، وأعطى آثاره في إفريقيا وفي آسيا، وحتى في أمريكا اللاتينية.
ولعل أكثر التغييرات دلالة وعمقاً من المنظور الشيوعي، ذلك التغيير الفكري الذي جعل مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي – وهو الحزب الأم للأحزاب الشيوعية الأخرى – تتحدث عن طريق التحول اللارأسمالي، عن إمكانية دخول ميدان الاشتراكية عن غير طريق الحزب الشيوعي. وبغير قيادة الطبقة العاملة، ومن غير تحقق  ديكتاتوريتها.
ولم يأت هذا التطور نتيجة دراسات نظرية وفقهية وإنما نتيجة تغييرات اجتماعية جارية على الأرض. وتقودها قوى سياسية غير شيوعية. ولعل أهم هذه التجارب التي فتحت الأعين على هذه الحقيقة، وأهم الإجراءات هي تلك التي كانت تقوم بها الثورة العربية. والتي عبرت عن نفسها نظرياً بميثاق العمل الوطني. هذه الوثيقة التي وصفها العلماء والسياسيون السوفيات بأنها “برنامج وطني ديموقراطي يمكن تسميته بمجمله طريق التطور اللارأسمالي”.
ومنذ 28 أيلول 1961. تاريخ الانفصال الرجعي عاشت سوريا حركة تمرد شعبي مستمرة، ودموية، لم تهدأ أبداً، حتى العدوان الإسرائيلي عام 1967. “استمرت بعد ذلك وإن بأساليب مختلفة، وكان وقود هذه الحركة باستمرار العمال، والطلاب، والضباط والجنود الثوريون. ورغم إجراءات التصفية للعسكريين إبان الانفصال الرجعي، وبعد حركة 8 آذار سنة 1963، ورغم العنف الدموي الذي ووجهت به هذه التحركات، والتي جاءت أحداث 18 تموز 1963 قمة لها، فإن الحركة الشعبية لم تهدأ، واستطاعت أن تفرز القوى السياسية والاجتماعية السورية إلى اتجاهين متضادين. تماماً كما عبر مشروع البرنامج السياسي:
اتجاه انفصالي، رجعي أياً ما كانت الشعارات، والرايات التي يرفعها.
واتجاه وحدوي تقدمي.
وكان الفيصل بين الاتجاهين الموقف من الوحدة العربية، وليست الوحدة في هذا المعيار شيئاً مجرداً وإنما كانت تعني بالتحديد، الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، الدولة العربية المركزية التقدمية، القومية، التي تقف على رأسها قيادة ثورية من طراز فريد.
وفي جو هذا النضال سقط الانفصال الرجعي، ودفعت الجماهير باتجاه الوحدة، فكان ميثاق الوحدة الثلاثية، الذي ما لبث أن سقط نتيجة أوهام “الانفصاليين – التقدميين” في إمكانية بناء وحدة ضد الحركة التاريخية التي كانت تجسدها مصر بقيادتها الثورية. وما لبث القوة السياسية “البعث” التي اندفعت خلف هذا الوهم أن بدأت بالتمزق، وبالتناحر الداخلي. مما أدى إلى انقلاب 23 شباط /فبراير 1966.
وقد اختتمت هذه الفترة بالعدوان الإسرائيلي على الأمة العربية في 5 حزيران سنة 1967، وهو العدوان الذي أريد منه أن ينهي وجود الثورية العربية، وأن يكسر مرة واحدة إرادة التحرر العربي، وأن يعيد المنطقة إلى الأسر الإمبريالي تماماً كما كان عليه الحال قبل ثورة يوليو، ولكن باختلاف الوسائل، وباختلاف مميزات القوة الأمريكية الإسرائيلية.
هذه ملامح التطورات، والأحداث التي مرت بها سوريا، وواضح أن حزباً سياسياً مسؤولاً وعقائدياً مدعو حتماً إلى عقد الكثير من المؤتمرات يقف من خلالها على دلالات هذه الأحداث، ويرسم عبرها خطه السياسي، وحركته العامة، والمرحلية، ويعالج بنيته التنظيمية وفق آثار هذه المتغيرات عليها. ويستطلع اتجاهات الرأي في الحزب تجاهها. ولعل سلوك الحزب الشيوعي السوري. ومواقفه خلال هذه المرحلة الممتدة، كان تقتضي – أكثر من أي سبب آخر – عقد مثل هذه المؤتمرات، نقول هذا لأن الحزب لم يستطع أن يحافظ على موقف متماسك تجاه هذه التطورات، ولا أن يقيم سياساته على أسس واضحة، فقد انتقل من الشيء إلى نقيضه، ومن الموقف إلى الموقف المضاد من ذات المسألة، في القضايا المبدئية والاستراتيجية، كما في المسائل التكتيكية. والمتتبع لتاريخ الحزب، أو للحوارات والمداخلات التي أجريت حول البرنامج السياسي يعرف ذلك معرفة يقينية:
فمن موقف معارض لتقسيم فلسطين، إلى موقف مؤيد له “كلمة ظهير عبد الصمد”.
ومن موقف ملتزم بالخط السوفياتي إلى خروج على هذا الخط في مسألة رئيسية لها علاقة فيما يجري على أرضنا هي مسألة طريق التطور اللارأسمالي والموقف من الجمهورية العربية المتحدة “خالد بكداش، وظهير عبد الصمد”.
ومن عداء للرجعية ، إلى تحالف معها ضد الوحدة، وضد التأميم، وضد الإصلاح الزراعي “ظهير عبد الصمد”.
ومن موقف يعتز بالقومية العربية ويلتزم بها، إلى موقف ينكر وجود الأمة العربية كأمة مكتملة التكوين “خالد بكداش، بدر الطويل”.
ومن موقف وحدوي واضح قبل إبرام الوحدة إلى موقف انفصالي واضح عقب الوحدة، وعقب الانفصال أيضاً.
ومن موقف يرى الصهيونية شراً كاملاً، إلى موقف يعارض تصفية المؤسسات الصهيونية ويتبنى عملياً وجود “إسرائيل” “خالد بكداش، أحمد فايز الفواز”.
وما كان لهذه المواقف أن تأتي على هذا النحو من التناقض، والتضارب، لو أن الحياة الحزبية الداخلية سليمة، لو أن مؤتمرات الحزب جارية، ومستقرة، لو أن مؤسسات الحزب، ومواقعه القيادية آتية، عبر الانتخاب، وعبر مصافي المؤتمرات، حيث النقد والنقد الذاتي، وحيث ضرورة أن تعكس هذه المؤتمرات الاتجاهات العامة لحركة القاعدة الحزبية، ولرؤيتها.
إن الاتجاهات التي ظهرت في المؤتمر الثالث، والتي انتظمت كغالبية حول البرنامج السياسي. تتيح لنا أن نفترض أنه لو كانت الحياة الحزبية سليمة، لأمكن للحزب الشيوعي السوري أن ينأى بنفسه عن كثير من المواقف الخاطئة التي وقع بها. وأن يلعب دوراً إيجابياً فعلياً ومؤثراً في اتجاهات التطور التي مرت بها سوريا.
ولا يجوز أن يخطر على بال أحد أن عدم انعقاد مؤتمر للحزب عبر تلك الفترة الطويلة كان بفعل أجواء ضغط أو إرهاب، عاشها الحزب. فإن هذا الخاطر غير صحيح البتة، إذ بتجاوز سنوات الوحدة التي لم تصل إلى أربع  سنوات، وضع فيها الحزب نفسه في مواجهة فكرة الوحدة ودولتها، فإن بقية تلك الفترة البالغة اثنين وعشرين عاماً، كانت بالإجمال فترات راحة واستقرار له.
لقد كان الامتناع عن عقد مؤتمر للحزب، موقفاً مباشراً من قيادات الحزب. ليس له أي مبرر، وكان  من نتيجته أن حققت قيادته سيطرتها الكاملة، على مواقع التشريع والتنفيذ في الحزب. فصنعت اللجنة المركزية تدريجياُ على الهيئة التي ظنت أنها تحقق تبعيتها للقيادة، وأخضعتها نتيجة قرارات التعيين والإضافة لعضويتها للهيمنة المباشرة لها، ولم تكن القيادة جسماً واحداً يتحمل مسؤولية العمل، وإنما انفرد فيها “الأمين العام” ليكون في الموقع المميز في الحزب، وليمارس دور السلطة العليا على كل الحزب.
إن الرسالة التي وجهها المكتب السياسي المنتخب عقب المؤتمر الثالث وقبل حدوث الانقسام تكشف لنا دواعي عدم عقد مؤتمر للحزب، كما تكشف عن الأوضاع الشاذة التي خلفها هذا الوضع على بنية الحزب، وعلى سياساته.
يقول المكتب السياسي في رسالته:
“وخلال السنوات العشر الأخيرة ظهرت بعض الأصوات التي تطالب بعقد مؤتمر للحزب، ولكنها أهملت، وكان من المفروض أن تستجيب الهيئات المسؤولة لمثل هذا الطلب المشروع خصوصاً بالنسبة لحزب كحزبنا مضى على مؤتمره السابق ستة وعشرون عاماً.
إن الأسباب الحقيقة وراء مثل هذا الموقف هو الحذر من مراجعة الماضي على أساس الانتقاد والانتقاد الذاتي، والتشدد أمام تقديم الكادرات، بالإضافة إلى اعتماد الأساليب القديمة. ولذلك ورد في تقرير اللجنة المركزية في هذا الموضوع ما يلي: “ولا شك أن عدم عقد المؤتمر ليس صدفة، وإنما هو خطأ كبير، طبع الحزب بطابعه طوال فترة طويلة من الزمان، وسببه الرئيسي هو الخوف من الانتقاد، والانتقاد الذاتي، والثقة المبالغة بالنفس، وبإمكان تجنب الأخطاء”.
ثم توضح الرسالة أثر غياب المؤتمر على بنية الحزب، وعلى خطه السياسي فتقول:
“أدى ذلك عملياً إلى خرق العمل الجماعي، ومبادئ المركزية الديموقراطية، وعدم احترام الهيئات الحزبية، كما أدى إلى ضعف دور اللجنة المركزية، وخاصة أن أكثر أعضائها لم ينتخبوا انتخاباً، وإنما جرى تعيين بعضهم من قبل المكتب السياسي، كما أدى إلى وصاية المكتب السياسي على اللجنة المركزية، وبروز العمل الفردي والإداري، وحلولها أحياناً محل الهيئات، والعمل الجماعي … وتبني بعض المواقف الفكرية والسياسية غير الصحيحة خلال فترة من الوقت، كموقفه من التأميم أيام الوحدة، وفي مرحلة الانفصال مثلاً”.
هذا المكتب السياسي، الذي أصدر رسالته، وهذه اللجنة المركزية قومت الوضع الداخلي للحزب حين كان “خالد بكداش” ما زال يتمتع بموقع الأمين العام بينما كان الانقسام لم يحدث بعد، لم يأته صاعق التفجير … أما وقد تفجر بعد ذلك. فإن الأمين العام يرفض كل هذه التحليلات، والتقييمات للوضع الداخلي، ولا يرى مواقف غير صحيحة للحزب، سياسية، وفكرية، ويشن حملة عنيفة على أولئك الذين ينقدون هذه الأوضاع معتبراً أنهم بنقدهم هذا “يسودون تاريخ الحزب” يقول خالد:
“في حزبنا الشيوعي السوري لم يكن الانضباط نتيجة أساليب فردية، ولا أساليب ديكتاتورية كما يقول البعض! كلا‍! بل كان هذا الانضباط نتيجة تطور تاريخي برهن صحة مواقف الحزب الأساسية في معظم المسائل الكبرى، والانعطافات الكبرى التي جابهتها بلادنا، وقرارات المؤتمر الثالث لحزبنا تؤكد هذه الناحية بوضوح كامل.
وبكل إخلاص وكل صراحة أقول أيها الرفاق، ما دام الانضباط الحزبي كما يعلمنا لينين، وكما تدل التجارب بما فيها تجربة حزبنا، يتكون تاريخياً . أفلا ينتج من ذلك أن كل تشويه، وكل تسويد لتاريخ الحزب لا بد أن يؤدي إلى ضرب هيبة الحزب، وضرب الانضباط الحزبي وهلهلته”.
في مقابل هذا الموقف يتقدم بدر الطويل في نفس اللقاء الذي يتراجع فيه خالد بكداش ويرفض تقييمات المكتب السياسي واللجنة المركزية، يتقدم ليكشف الفارق الجوهري، بين النقد والتسويد، بين نقد فرد أو قيادة، وبين التشهير بتاريخ الحزب، بين رؤية الحقائق كما هي والجرأة في مواجهتها، وبين الالتفاف عليها ومحاولة إخفائها. يقول الطويل:
“إن مراجعة الماضي وتقييمه هي عملية ضرورية في كل مرحلة معينة من الزمن وليست مؤتمرات الحزب إلا شكلاً جدياً لهذه المراجعة المبدئية. فالمراجعة النقدية لا تهدف ضرورة إلى رؤية الجوانب السلبية فقط، بل هي محاولة لرؤية السلب والإيجاب في العملية … فتقييم تاريخ حزبنا ضروري بعناصره الثلاثة:
رؤية الجوانب الإيجابية، ورؤية ودراسة المواقف السلبية والخاطئة، ثم استخلاص العبر من الموجهين …
وإذا حدث وساهم فرد من الأفراد أكثر من غيره في صياغة العديد من المواقف الإيجابية، وليس مستبعداً أن يكون قد حصل في حزبنا بالنسبة للعديد من الأفراد ـ والإشارة إلى ذلك ضرورية عند تقييم الماضي ـ  فلماذا لا يتمتع هذا الرفيق بقدر مرموق من الجرأة، والتواضع ليشير إلى دوره في صياغة المواقف الخاطئة! ومعروف أنه إذا هو لم يفعل ذلك بمحض إرادته فإن الحزب سيقيم بصورة صحيحة مواقفه، ومسؤوليته، ولا يستطيع أحد أن يمنع ذلك عاجلاً أم آجلاً”.
إن الطويل “يحاول الاقتراب الحذر من الوضعية الخطرة التي عاشها الحزب فترة طويلة من الزمن، وحذره هذا منبعه أن “الآخرين” لم يكونوا قد حسموا وضعهم بعد وكان الأمل لا يزال يراود قيادة الحزب ومؤسساته في تجاوز الأزمة، أما وقد خرجت الأقلية على إرادة الحزب، وأصدرت بيانها الانشقاقي في 3 نيسان / إبريل ، فإن أحمد فايز الفواز يتولى وضع النقاط على الحروف في هذا الجانب. فيقول:
“إن عبادة الفرد – كعقلية وممارسة، كمدرسة في الفكر والسياسة والتنظيم – هي السبب العميق في ارتكاب الأخطاء الكبرى، والمواقف السياسية والفكرية – التي أوردت أمثلة عنها – مسؤول عنها الأمين العام للحزب نفسه، وليس هيئات الحزب القيادية.
وبحكم ممارسة الرفيق خالد للأمانة العامة في الحزب خلال خمسة وثلاثين عاماً. وبأساليب عبادة الفرد، فإنه منع انعقاد مؤتمرات الحزب، وصياغة البرامج السياسية، وألغى النظام الداخلي وأحل إرادته الذاتية محله، جاعلاً إياها قانون حياة الحزب”.
بعيداً عن كل الصراع الذي تفجر حول البرنامج السياسي. والذي كشف بوضوح كل الإشارات والإيماءات التي أتت عليها الوثائق الرسمية للحزب، نستطيع القول إن الحزب نفسه، من خلال وثائقه الرسمية، قد شخص المرض الذي وقع فيه، عبر ربع قرن من الزمن، منذ المؤتمر الثاني، وحتى المؤتمر الثالث، واختصرها بأن الآلية الحزبية كانت معطلة تماماً. فالأنظمة، والقوانين، والنظام الداخلي كانت في إجازة كاملة، وكان الاعتماد يجري على فرد أخذموقع ومكانة مؤسسات الحزب، ومثل باستمرار عقل الحزب وإرادته، وحدد له مواقفه وقراراته السياسية. وإذا كان هذا الوصف يصيب فرداً بعينه فإنه أيضاً يصيب قيادته كلها بشقيها “المكتب السياسي، واللجنة المركزية”. فلولا ضعف هذين الموقعين لبقي دور هذا الفرد ومكانته، في الإطار المطلوب والمرغوب فيه.
وإذا كان كشف هذا الخلل يثير الكثير من النقد على مسيرة الحزب، فإن قدرته الذاتية على تحديد هذه الأمراض، وتشخيصها، والوقوف لمواجهتها بمثل الحزم والصراحة التي كشفت عن نفسها، تعطي الحزب أكثر مما تأخذ منه، وتجعل إيجابياته مرجحة بتفوق على سلبياته، وتدل على مقدرة ذاتية على التجدد، ولولا حركة الانشقاق لكان الدرس أعمق حيث الحزب لم يستطع أن يقوم مسيرته فقط، وإنما قوم أخطاء الأفراد دون أن يؤدي ذلك إلى إسقاطهم. بل هو عزز مواقعهم لكن في اتجاه الممارسة الصحيحة، وبعد التقويم الصحيح.
 إن حركة الانشقاق لم تطعن في هذا الدرس، وإنما كشفت عن حالة عجز الأفراد عن تقبل الأوضاع الجديدة في الحزب.
رابعاً: بعض المعالجات السريعة والخاطئة في البرنامج:
في معرض رؤية هذه الوثيقة، لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط التي جاءت فيها، وعبرت عن اتفاق أطراف الخلاف حولها، ولا نستدل على هذا الاتفاق من اعتبار وجودها في البرنامج السياسي. وإنما أيضاً من عدم تعرض المتجادلين لها. وهي نقاط تحتوي على ضعف شديد سواء في رؤية الوقائع وتحليلها، أو في تقدير أهميتها ومكانتها تكتيكياً واستراتيجياً، أو في تقدير دور الحزب ومكانه تجاهها، ورغم أن ملاحظات العلماء والسياسيين قد وقفت على بعضها، إلا أنه لم يلتفت إليها في كل الجدل الحاصل. سوف نقف عليها وقفات سريعة هدفها فقط الإشارة إلى موضع الخلل دون التوسع بذلك.
قضية لواء اسكندرون: حدد مشروع البرنامج السياسي الأهداف الكبرى التي تناضل الأمة العربية من أجل تحقيقها وجاء الهدف الرابع على النحو التالي.
استعادة الأجزاء العربية المغتصبة مثل لواء الاسكندرون.
وإذا كنا لا نشك في حق هذه الأمة الثابت في كل قطعة أرض اغتصبت منها، فإن إيراد هذا الهدف على هذا النحو، وبهذا التحديد، لم يأت موفقاً، ولا متوازناً، وأيضاً جاء مبتوراً. فقد وضع كهدف رابع من أهداف الأمة العربية، فجاء متقدماً على هدف اقتصاد وطني مستقل، وتصفية نفوذ الرجعية، والعمل من أجل الوحدة العربية، وجاء تالياً لهدف تصفية آثار العدوان، وتصفية المؤسسات الصهيونية، والنفوذ الإمبريالي في وطننا، وهو بهذا الموقع يشير إلى أولوية غير سليمة واقعياً، كما قد يفهم منه أن استعادة هذه الأجزاء تتم بالطريقة نفسها التي يتم بها تحقيق الأهداف الثلاثة السابقة عليه، وملاحظات وآراء السوفيات حول هذه النقطة – وحول مجمل البرنامج – تشير إلى مدى الاهتمام الذي أولوه لهذا البرنامج، فقد توقفت هذه الملاحظات على هذا الهدف، ونقدته من منظور سياسي فيه الكثير من الصحة، يقول واضعوها:
“هل من الصحيح في هذا الوقت بالذات أن يوضع في المشروع إلى جانب قضايا ومطالب هامة جداً (ضد الاستعمار، ضد العدوان الإسرائيلي .. الخ) المطلب عن اسكندرون؟
في وقت يجري فيه تحول حتى في اتجاه بعض بلدان السانتو، تركيا وإيران. هل من الصحيح وضع قضية اسكندرون، بينما تركيا تؤيدكم ضد العدوان الإسرائيلي؟
ألم تستغل ذلك الأوساط الرجعية في هذه البلدان؟
ويبدو أن واضعي المشروع جعلوا هذا الهدف، في هذا الموقع توافقاً مع الترتيب الذي أخذوا به لأهداف الحزب الشيوعي وهي: الحرية (التحرير والديموقراطية الشعبية)، والاشتراكية، والوحدة، دون الانتباه إلى أن الفارق ضخم بين قضية الأجزاء العربية المغتصبة، ومنها الاسكندرون، وبين قضية فلسطين وإزالة آثار العدوان، ومواجهة إسرائيل.
وجاء هذا الهدف مبتوراً. ففي حين تم تحليل كافة الأهداف الأخرى، ورسم طريق التفاعل معها، فإنه تجاه هذا الهدف بقي الأمر مجرد ذكر له.
إن ملاحظات السوفيات جاءت لتنبه إلى بعض النقاط حول هذا الموضوع، دون أن تتعرض إلى نظرة نقدية جادة فيه وواضحة أيضاً. فليس فقط من المنظور السياسي يأتي هذا الطرح في غير محله، وإنما أيضاً من منظور الأساليب في التعامل مع هذه المسألة، ومن منظور الموقع أيضاً. والعلاقة التاريخية بين تركيا المغتصبة لهذا الجزء، وبين الأمة العربية، وسوريا. إن الفارق واسع إلى درجة ينعدم فيها القياس بين قضية الاسكندرون، وأيضاً عربستان، وبين قضية فلسطين، وبين هاتين القضيتين وأمثالها، وبين قضية سبتة ومليلة، وما لم يؤخذ تاريخنا العربي الاسلامي بعين الاعتبار لا يمكن إدراك هذا الفارق، الذي إذ لا يمس الحق التاريخي للأمة، فإنه يؤثر على كافة المسائل الأخرى المعلقة بكيفية معالجة هذه القضايا.
تحليل الوضع الدولي: حيث ينطبع هذا التحليل بطابع تقليدي إلى حد كبير، ويبدو قاصراً عن استيعاب التغيرات الحاصلة في الحركة الشيوعية العالمية، وعلى الأخص على جبهة التطورات الفكرية، تلك الجبهة التي ميزت فيما بعد الأحزاب الشيوعية الأوروبية كلها – تقريباً – وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي الإيطالي، والأسباني، والفرنسي، ولم يعد صحيحاً التمسك بمعيار التطابق مع الاتحاد السوفياتي، كدليل على صحة شيوعية هذه الأحزاب. ولم يعد صحيحاً استمرار القول بانحراف الصين عن الفكر الماركسي.
إن عبارات أخرى، وتوصيفات أدق يجب أن تعتمد في تحليل هذه الظواهر. وضعيف إلى درجة كبيرة القول “إن الأحزاب الشيوعية تملك عوامل ودوافع أساسية ثابتة لوحدتها” استناداً إلى كونها تملك اتجاهاً طبقياً واحداً، فهي طليعة الطبقة العاملة، وتلتزم بمصالحها الجذرية الشاملة، وتمتلك أساسها الفكري الواحد: النظرية الماركسية – اللينينية، ولها عدو مشترك: الإمبريالية العالمية، وهدف مشترك: بناء الاشتراكية”.
هذه الاتجاهات الخمسة: – الاتجاه الطبقي – الطليعية العمالية – الأساس النظري – العدو الواحد – الهدف الواحد – تحتوي على قدر واسع من الافتراض، وتخلص إلى نتائج لا تؤكدها المعاينة الموضوعية للواقع الملموس.
 والمراجعة التاريخية لمواقف الأحزاب الشيوعية تبين أنها لم تكن دائماً تعبيراً عن اتجاه طبقي، وطليعة عمالية، وليس صحيحاً البتة أن هذه العناصر الافتراضية مضافاً إليها العدو الواحد، والهدف الواحد، والنظرية الواحدة، تشكل عناصر ودوافع أساسية للوحدة، إن الواقع لا يؤيد هذا الافتراض. ولا يجوز عملياً أن نسند كل الانقسامات في الصف الشيوعي على المستوى المحلي، وعلى المستوى الدولي إلى دوافع ثانوية. كذلك فإن الواقع يشير إلى أنه ينقص هذه العناصر عنصرين آخرين:
فهم واحد أو مشترك للواقع الموضوعي: الوطني، والقومي، والدولي.
وتحديد متفق عليه لطريق بناء الاشتراكية، وأساليب الوصول إلى هذا الطريق.
ولعله على أساس هذين العنصرين انقسمت الحركة الشيوعية، وقد لاحظ بعض المتجادلين هذه الحقيقة على مستوى الوطن العربي، فهذا “بدر الطويل” يلمس جوانب منها، وهو يتحدث عن وحدة الحزب فيقيم الخلاف الداخلي على عنصرين اثنين.
من فهم ويفهم أكثر عمقاً واقع بلادنا وآفاقه.
ثم كيف يمكن تطبيق الماركسية اللينينية على ظروف بلادنا.
ويضرب أمثلة على ذلك من انقسام الأحزاب الشيوعية في السودان، ولبنان، والأردن، حيث جاءت هذه الانقسامات نتيجة الاختلاف في كيفية التعامل مع الواقع العيني في أقاليمها.
إنه بدون نظرة خلاقة إلى الواقع المحيط بنا، لا يمكن لأي حزب، ولا لأي إيديولوجيا أن تثبت نفسها على أرضها، وأن تخلق لها كياناً قادراً على الفعل والتأثير، ولعله استناداً إلى هذه النظرة الخلاقة جاءت الشيوعية الأوروبية للتحدث عن “الكتلة التاريخية”، وتحالف أصحاب الياقات “الزرق والبيض”، والطريق الديموقراطي للاشتراكية، وغير ذلك مما يعكس رغبة هذه الأحزاب وحاجتها في رؤية مبدعة لواقعها ومجتمعها.
تقدير دور ومكانة الأحزاب الشيوعية العربية: ويحتوي القسم الخاص بحركة التحرر العربي تقديراً يبدو فيه عنصر التضخيم ولو الحذر لدور الأحزاب الشيوعية في هذه الحركة تاريخياً وحاضراً.
فمن الناحية التاريخية يقول البرنامج:
“إن الشيوعيين العرب قد أسهموا إلى جانب القوى الوطنية التقدمية الأخرى بأشكال مختلفة سياسياً وفكرياً، وعملياً من خلال نشاطهم في النضال الوطني والاجتماعي، ونشرهم أفكار الاشتراكية في إقامة الأنظمة الوطنية التقدمية، وفي حمايتها، والدفاع عنها، وإغناء محتواها”.
وقد كشفت ملاحظات العلماء والسياسيين كيف أنهم يربطون بين تحالف “سلطة البرجوازية الصغيرة، الديموقراطية الثورية” مع الحزب الشيوعي، وبين استكمال مهمات طريق التطور اللارأسمالي” ويجزمون بأن بناء الاشتراكية لا يكون إلا بقيادة الطبقة العاملة، والحزب الشيوعي.
إن هذا التحديد في قسمة الأول يغفل حقيقتين لابد من ذكرهما:
أما الأولى: فهي أن الأحزاب الشيوعية إذ ساهمت إيجابياً في بعض الحالات والأوضاع الوطنية، فإنها ساهمت سلبياً في أوضاع وحالات أخرى، ولم ينحصر هذا التناقض في المساهمة في الساحة العربية، وإنما هذه الملاحظة واردة على الساحة الدولية – مثال كوبا -. إن موقف الحزب الشيوعي الجزائري من ثورة التحرير الجزائرية، والحزب الشيوعي العراقي من نظام الحكم الديكتاتوري والشعوبي في العراق أيام عبد الكريم قاسم، والأحزاب الشيوعية العربية عموماً، ومنها الحزب الشيوعي السوري من الوحدة، والانفصال، وقضية فلسطين، أمثلة واضحة على ذلك جاء البرنامج على ذكر بعضها.
وأيضاً فإن المعارك الرئيسية التي تشكل نقاط علام، ومنعطفات حاسمة في تاريخ المنطقة العربية كانت غالبية الحركة الشيوعية العربية غائبة عن أجزاء منها: ثورة 23 يوليو والتحولات الاجتماعية الرائدة – حيث كانت الكتل الشيوعية المصرية مع عودة الديموقراطية الرجعية خلال أزمة مارس 1953، ولعب بعضها نفس الدور مع السادات حينما طرح ديموقراطيته الجديدة في مطلع السبعينات – ومعركة السويس، وثورة الجزائر، وحركات التغيير في سوريا والعراق، واليمن، وحركات المقاومة الفلسطينية، ومعارك العمل الوحدوي.
وأما الثانية: فإن هذا التحديد لا يشير أية إشارة إلى تأثر الأحزاب الشيوعية بطروحات ومعارك الأمة التي خاضتها تحت ما تسميه الوثيقة “قيادة البرجوازية الصغيرة الثورية ” وهو تأثر بالغ العمق لا نراه فقط فيما طرح في مؤتمر الحزب الشيوعي السوري الثالث. وفي تبنيه لأهداف النضال العربي: الحرية، الاشتراكية، الوحدة، وإنما قبل ذلك في حل الحزب الشيوعي المصري،  وفي عملية الهرولة للحاق بالحركة الثورية الجزائرية. بعد أن ثبتت الثورة أقدامها، وفي مجمل الانقسامات التي شهدتها الحركة الشيوعية العربية.
أما في القسم الثاني من هذا التحديد، حيث ضرورة أن يكون الحزب الشيوعي حليفاً للسلطة الثورية الديموقراطية كشرط لتثبت هذه السلطة في طريق التحول اللارأسمالي. فإن هذا الشرط لا يثبت الواقع صحته والمثلان المتناقضان على عدم صحة هذا الشرط: الجمهورية العربية المتحدة زمن جمال عبد الناصر، والعراق زمن عبد الكريم قاسم.
 يبقى أن نقول إن الحديث عن قيادة الحزب الشيوعي، والطبقة العاملة للمجتمع والدولة، حتى تدخل هذه ميدان الاشتراكية فرض ليس إلا: وإذا كانت الردات الحاصلة في البلدان المتحررة دليلاً على خلل ما في القوة الاجتماعية التي تقود هذه البلدان، فإن هذا الخلل أعقد من أن يفسر فقط بوجود البرجوازية الصغيرة، ولا يقع فقط على عاتق تلك القوة الاجتماعية. وإنما يفترض أن نبحث عن دواعيه عند كل القوى التي ترفع شعار التغيير الاشتراكي.
القصور في الرؤية القومية: رغم المقاطع الرائدة التي تحدث عن الأمة العربية، وعن الاتجاه التاريخي لوحدتها، وذلك الكشف المبدع للعلاقة الجدلية بين الاشتراكية والوحدة. والتي تعززت بالأبحاث والمداخلات التي قدمها قادة الحزب، وعناصر التوجيه الرئيسية فيه: “ظهير عبد الصمد، عمر قشاش، بدر الطويل، أحمد فائز الفواز”، والتي أشار إليها آخرون، فإن هذه كلها بقيت قاصرة عن الإمساك بالناظم الوحدوي، رغم أن أصحابها وهم يتحدثون عن الاشتراكية، وعن الحركة الشيوعية أمسكوا بشدة – وفق اعتبارهم – بالناظم الشيوعي.
إن التقرير كله يتحدث عن إمكانية اجتياز طريق التطور اللارأسمالي بقيادة  قوى “الديموقراطية الثورية ” ويربط ربطا محكما بين هذه الاشتراكية والوحدة ، لكنه لا يفسر الصراع العنيف بين هذه القوى على قضية الوحدة ، وهو يدين الموقف الذي اتخذه الحزب الشيوعي نفسه إلى جانب الانفصال ، وتعيد المداخلات مسببات هذا الموقف إلى عناصر محددة ، لكنه لا يكشف لماذا جرثومة ” الانفصالية ”  سرت في جسم أحزاب قومية اشتراكية مثل حزب البعث وحركة القوميين العرب .
وملاحظات الزعماء والسياسيين تشير إلى مقدار ما في سلطة 23 شباط / فبراير في سوريا من خلل واضح إزاء قضية إزالة آثار العدوان ، ويقيمون موقفها تقييما سلبيا حيث يعتبرونه يبغي المحافظة على حالة اللاحرب واللاسلم ، وهي حالة لصالح العدو دائما ، وأيضا موضوع التنمية حيث يوضحون كيف تسير الأمور ـ ولو في بعض اتجاهاتها ـ بشكل غير عقلاني ، بل كيف ترفض اقتراحات اقتصادية يقدمها الخبراء السوفييت تزيد من مجالات التعاون الوحدوي بين هذه السلطة ومصر ، لكن هذه الملاحظات القيمة ستبقى في إطار ضرب الأمثلة دون محاولة للربط بينها واستخراج الأسباب .
إن ظهير عبد الصمد يلاحظ أنه ” ليس من الصدفة أن محاولات الوحدة في السنوات الأخيرة قد تمت أولا بين مصر وسوريا ” وإذ يستنتج من ذلك ارتباط قضية الوحدة بالوضع التحرري  فإنه وفق هذا الاستنتاج كان عليه أن يلاحظ أن هناك أقاليم عربية تعيش ـ وفق المنظور الشيوعي ـ حالة تحررية ، ومع ذلك لم تحدث محاولات وحدة بينها ، أو بينها وبين مصر وسوريا، بل شكلت محورا مضادا للعمل الوحدوي عاد بالأذى على حركة التحرر كلها ، إن معالجة المسألة هذه لم تسترع انتباهه ، رغم أنها ظاهرة متكررة في التاريخ الوحدوي وفي العصر الحديث فقط فإن هناك أربع محاولات وحدة قامت ، وكانت مصر محورها الدائم ،  وكانت سوريا أداة فعل مستمر فيها ، وخارج هذه المحاولات فإن كل شيء كان باهتا :
** الوحدة السورية المصرية زمن محمد علي ،
**والوحدة السورية المصرية زمن جمال عبد الناصر ،
** والاتحاد الثلاثي “المصري السوري العراقي” ، زمن جمال عبد الناصر ، **والاتحاد الثلاثي “المصري السوري الليبي” غداة وفاة جمال عبد الناصر .
ولحظ أيضا عدد من المتحاورين دور الحزب الشيوعي الروسي في إقامة الاتحاد السوفياتي ، ومع ذلك فإن هذه الملاحظة لم تعكس أثرها في رؤية الحزب للناظم الوحدوي ، اللهم إلا في التأكيد على ضرورة وجود حزب شيوعي عربي موحد ، وهو تأكيد مهم جدا في العملية الوحدوية ، لكنه غير كاف .
لقد غاب عن هؤلاء جميعا رصد دور مصر في العملية الوحدوية ، وفي الحركة التقدمية التحررية العربية ، وكان هذا الغياب جزءا من الحقيقة التي يمكن تلخيصها بالقول :
” إن القضية القومية ليست أفكارا ونظريات فقط، وإنما هي منهج وقوانين في رؤية الأمة، وفي رؤية طريقها في التوحد ، وما لم يتوفر هذا المنهج، وما لم نعرف ونلتزم هذه القوانين فإن الموقف القومي يبقى دائما مثلوماً “.
إن هذه الملاحظات الأربع التي أوردناها على مشروع البرنامج السياسي ـ رغم الأهمية التي نوليها ـ لا تقلل من المكانة التي يجب أن يوضع فيها هذا المشروع ، ولعل الحزب الشيوعي كان بحاجة إلى فترة لاحقة من النمو الطبيعي ، يطرح فيها برنامجه هذا على القوى الصديقة ، وعلى الجماهير ، فيغتني بالحوار العلني ، وتزداد النقاط الإيجابية رسوخا ، وتذبل وتتلاشى النقاط السلبية ، وتستكمل النقاط الناقصة ، لكن كما هو واضح في تاريخ الحزب أنه لم تتح أمامه  الفرصة حتى يجري التفاعل المطلوب داخليا وخارجيا مع هذا البرنامج ، فقد صممت القوى المتضررة من هذا البرنامج داخل الحزب على شقه ، ولم تُجد كل المحاولات التي بذلت لتجنيب الحزب هذا المصير ، وانقسم الحزب الشيوعي . ورغم الأغلبية التي وقفت مع هذا البرنامج وفي مؤسسات الحزب كلها ، وهي أغلبية ساحقة ن فإنها لم تستطع لا أن تحبط الانقسام ، ولا أن تمنع أو تتجاوز الآثار السلبية الضخمة التي تبعت هذا الانقسام.
لقد جاء الانقسام ضربة مباشرة لكل المضامين التي حملها المشروع ، ودفع الحزب أشواطا بعيدة إلى الوراء ، ولم يأت هذا كله نتيجة الانقسام كحدث ، فهو عدا عن كونه انقسام أقلية ، فقد كان من الممكن أن يتحول إلى عامل دفع وتقدم للحزب ، وإنما جاءت هذه  الضربة بفعل ترافق هذا الانقسام مع عوامل عديدة في المقدمة منها الظروف القومية والوطنية التي رافقت حدوث هذه الأزمة ، وبفعل القوى التي استعديت على هذا المشروع ، داخل الحزب ، وداخل سوريا ، وعربيا ، وعلى المستوى الدولي ، وكذلك بفعل حجم وجذرية القضايا التي حملها المشروع ذاته :
1ـ فحينما طرح مشروع البرنامج السياسي للحزب ، كان الوطن العربي يعيش ـ رغم النكسة ـ حالة تقدم عامة ، وكانت عوامل النكسة تتراجع باستمرار ، وعوامل القوة ، والوحدة ، والتقدم ، ترفع راياتها ، وكانت المقاومة الفلسطينية تبدو في أزهى حللها ، ومثل هذا الوضع لم يدفع فقط إلى أن تطرح قضايا البرنامج على النحو الذي طرحت فيه ، وإنما فرضت على معارضي البرنامج أن يحنوا رؤوسهم للعاصفة، وأن يبدوا موافقتهم على كافة نقاط البرنامج دونما استثناء اللهم إلا في نقطة واحدة ، وشكلية .
هذا الوضع التقدمي لم يستمر طويلا ، فسرعان ما دخلت المقاومة الفلسطينية أزمتها في الأردن ، وكشفت عن مقدار الأمراض التي تحملها ، وانتقلت القيادة الثورية الممثلة بجمال عبد الناصر إلى جوار ربها ، وقام السادات بردته ، ورغم عقده معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي ، وإعلانه قيام إتحاد الجمهوريات العربية ، فإنه بدا يتكشف سريعا أمام القوى المراقبة للمنطقة حقيقة التغيرات الجارية، وإذا كان ترحيل الخبراء السوفييت قد اعتبر دليلا مكشوفا على منهج السادات ، فإن هذه القوى التي كانت تملك أكثر من دليل ، ثم ظهرت على التوالي  اتجاهات الردة ، فلم يأت عام 1974 حتى أصبحت لا تخفى على أحد ، رغم الظلال الضخمة التي أثارتها حرب تشرين / أكتوبر على اتجاهات الردة .
إن خط الاستسلام هذا غطى المنطقة العربية كلها ، فانهزمت أمامه ـ ولو إلى حين ـ رايات الحرية والاشتراكية والوحدة ، وإذ أصبحت هذه هي الرايات التي يرفعها الحزب الشيوعي في برنامجه فقد كان طبيعيا أن تتأثر بذلك أعمق التأثر ، وأن تتراجع القوى الدافعة بهذا البرنامج ، وأن تبدو علائم التقلقل والتأرجح ، فقد أصبح وضعها في معمعة الهزيمة كالقابض على جمرة من نار ، لا يستطيع أن يستقر لحظة ، ولا أن تتاح له فرصة التفكير الهادئ لترتيب تكتيكاته ، وخطوط سيره ، وقد كانت هذه القوى في أمس الحاجة لهذه الفرصة الممتنعة نتيجة حداثتها في هذا الطريق .
2ـ ويبدو أن قوى الأغلبية الحزبية التي وقفت خلف هذا البرنامج نظرت ـ وفق الظروف المتاحة ـ إلى القوى المعارضة لها نظرة لم تتجاوز وزنا معينا ، وكانت على حق إلى حين أن تغيرت الظروف العامة ، فاستقوت هذه القوى المعارضة بهذه الظروف ، وضمتها إلى رصيدها ، فبدت أكثر شراسة وأقوى قدرة مما كان مرصودا فيها .
إن الأغلبية الحزبية التي بقيت راضخة ستة وعشرين عاما للجانب المحمول عليها في المركزية الديموقراطية ، من مبادئ التنظيم اللينينية ، ظنت أن القيادة التاريخية الفردية للحزب سوف تخضع عبر المؤتمرات إلى ذات المبادئ ، تماما كما خضعت مؤسسات وكوادر الحزب إلى ذات المبادئ كل تلك الفترة ، وقد كان هذا الظن وهما صرفا .
لقد سجل المؤتمرون صورة من أنصع صور النقد والنقد الذاتي ، وعددوا الدوافع التي وقفت سواء خلف حقيقة غياب المؤتمر لهذه الفترة الطويلة ، وبروز وتمكين مفاهيم عبادة الفرد ، أو دوافع الخوف من الوحدة ، ولكنهم على الوجهين لم يقدروا وزن واثر هذه الدوافع والمفاهيم في سلوك قيادات وكوادر بعينها ، واعتقدوا أن النقد كاف ٍلتطهير مثل هذه العوامل المرسخة في الحزب أجيلا بعد أجيال .
واستطاعت الأقلية هذه لا أن تستفيد من التراجع القومي الثوري ، وإنما أيضا من خبرتها في إطار العلاقات الدولية  في جعل الموقف الشيوعي الدولي والعربي ويصب إلى جانبها ، فقامت عملية محاصرة مباشرة للحزب الشيوعي الشرعي دوليا ، وصدر أكثر من تحذير للأحزاب الشيوعية العربية بالتزام جانب تلك الأقلية الحزبية ، وبالامتناع عن التجاوب مع قيادة هذا الحزب .
وجاء الوضع الداخلي السوري ليضيف إلى هذه الأقلية قوة مؤثرة ، حيث اعتُمد خالد بكداش كممثل عن الحزب الشيوعي في الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا ، ويبدو مثل هذا الاعتماد غريبا ، لكننا نستطيع أن نفهم دواعيه سواء حين نتوقع القفزة الكبيرة التي سيحققها الحزب الشيوعي لو وقف يدا واحدة خلف هذا البرنامج ، أو بدارسة تطور الوضع السياسي العربي من وجهة نظر الحكم السوري في تلك المرحلة ، واستمرار هذا التطور لاحقا .
إن النظام السوري مشى خطوات معينة مع السادات ، لكن سرعان ما تبين له أن استكمال هذا الخط يحمل له الدمار الداخلي ، لذلك وقف في هذا الطريق عند حدود معينة ، وأصبح واضحا له عند هذه الحدود أن التحالف مع الاتحاد السوفياتي هو الموازن الحقيقي للوقوف في وجه الخلل الذي أحدثته مسيرة السادات ، والقيادة الممثلة بخالد بكداش هي القيادة المعتمدة من قبل الحركة الشيوعية الدولية ، فكان لابد له أن يعتمدها هي في علاقاته الجبهوية ، وأن يعمل على استبعاد الآخرين ، ليس فقط من إطار الجبهة وإنما أيضا من إطار العلاقات الايجابية ، كذلك يبدو أيضا أن التعامل مع حزب ضعيف يفتقد القدرة على  إقامة الصلات مع الأغلبية الشعبية مفهوم مركزي وضعه الحزب الحاكم نصب عينيه  في بناء الجبهة الوطنية التقدمية ، وعلى أساسه تعامل مع كل التيارات السياسية في سوريا .
3ـ وأخيرا فإن هذا البرنامج لم يأت كتطور تدريجي في حياة الحزب ، وإنما جاء يمثل قفزة ضخمة ، وحاسمة ، وقد يكون غياب مؤتمرات الحزب كل تلك الفترة هي السبب ـ كما تشير وثائق الحزب ـ لكن تبقى الحقيقة أنه قفزة ضخمة وحاسمة ، ولأنها كذلك فإنها كانت بأمس الحاجة إلى فترة من الزمن تُهضم داخل الحزب ، وتتمثله قواعد الحزب وكوادره وهو ما لم يتحقق .
إن أغلبية الحزب كانت مع هذا البرنامج ، كان هذا واضحا باستمرار في كل مراحل الأزمة ، لكن الفارق ضخم بين أن تؤيد الأغلبية ، وبين أن يصبح نهجا عندها ، وواضح أنه عندما بدأت الأزمة تفعل فعلها ، وحينما تكتلت كل الظروف والعوامل المناوئة لم يكن هذا البرنامج قد أصبح بعد نهجا عند الحزب ، إذ سرعان ما بدأت التكتلات داخل الحزب ، وبدأت عمليات التثقيف الجانبية بهذا الجزء أو ذاك من البرنامج ، وعمليات التشويه له ، مما جعل قاعدة الحزب ، وجزءا من كوادره المتفقة على هذا الطرح تعيش حلة من انعدام الوزن أمام سيل الصراعات الجانبية ، والصور المشوهة ، وأمام الاتهامات الخطيرة التي بدأت ترمى في اجتماعات الحزب وميادينه ، وعمل هذا الجو عمله في ظل التراجع العام للثورية العربية .
باختصار :
” فإن رواسب مشاعر الأقليات القومية ، ورواسب العقلية الإقطاعية ، ورواسب الإقليمية ، والخوف البرجوازي من التقدم الاجتماعي ، والتربية المستمرة على مفاهيم عبادة الفرد ـ تحديدات ظهير عبد الصمد ـ استطاعت في ظل التراجع القومي الثوري ، أن تضيف إلى قوتها ضغط الظروف الداخلية والقومية والدولية ، وأن تعاود الهجوم على هذا البرنامج ، وان تسجل عبر عدة سنوات نقاط نصر عليه ” .
لقد فتح الانقسام الذي قاده خالد بكداش باب التشرذم في جسم الحزب الشيوعي السوري، وهو باب يبدو أنه لن يغلق في مثل هذه الظروف ، وإذا كانت الأغلبية التي أصبحت تعمل باسم الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي ، لم تستطع أن تتماسك تماما ، فإن هذا التماسك غير متاح لجماعة خالد بكداش ذاتها ، وكما أصابت الانقسامات الجناح الأول ، فإنها أصابت جماعة بكداش بشكل يبدو أخطر ، وسيبقى الحزب الشيوعي السوري في هذه الدوامة حتى تستعيد الحياة العربية عافيتها ، وتعاود الثورة العربية مسيرتها ، وحينذاك فقط فإن المفاهيم الجديرة بالحياة التي طرحها برنامج الحزب الشيوعي سوف تستعيد تفتحها ، ونضارتها ، وقوتها .
إن تجربة الحزب الشيوعي السوري تعطي دروسا غنية لا تقدر بثمن ، سواء على جبهة الفكر ، أم على جبهة التنظيم ، أم على جبهة الحياة نفسها ، جبهة التفاعل السياسي العام :
** فعلى جبهة الفكر : تبرز الحقيقة الجلية التي تقول : إن الحاجة أقوى من الأيديولوجيا ، وحركة الواقع الحي أقوى من الأفكار ، وإن الأفكار ثورية ، وتقدمية ، وفاعلة بمقدار ما تعبر عن الاتجاهات التاريخية الصحيحة في هذا الواقع .
لقد بقي هذا الحزب يقاوم شجرة الحياة الزاهرة بالروح القومية ردحا طويلا من الزمن، لكن تفتحت في النهاية الأزهار اليانعة في هذه الشجرة ، وأثبتت قدرتها على النمو داخل جسمه ، وأن تطوع أفكاره ومفاهيمه لحقائقها واحتياجاتها .
** وعلى جبهة التنظيم : ظهرت الخطورة البالغة لغياب الديموقراطية ولتمركز الأقليات والروح الإقليمية المتخلفة في موقع القيادة المنفردة، وقدرة هذين العاملين على أن يكسرا كل القيم والمفاهيم الإيديولوجية حزبيا ، ولو كانت الحياة الحزبية ديموقراطية لأمكن تقويم اثر هذه النعرات المتخلفة في جسم الحزب .
** وعلى جبهة الحياة : فإن تجربة الحزب الشيوعي أثبتت أن أجواء الحرية ، هي الأجواء الوحيدة التي تصلح لنمو الأفكار الصحيحة ، وأن ما تستطيع أن تفعله الحرية في جسم سياسي في فترة محددة لا يمكن أن يحدث ولا بأضعاف هذه الفترة في أجواء الكبت والضغط ، أو في أجواء التأثيرات الخارجية القهرية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى