لجميع السوريين كامل الحق في أن يجدوا في كلام حاكمهم ما يعزز قناعاتهم السابقة وما رسموه في مخيلتهم عن سلوكه ومنطقه وطريقة تخريجه وتبريره لممارساته كصاحب سطوة لم ينجُ من شرورها أي مواطن بمن فيهم الموالون والمقربون من العصبة الحاكمة، لكن من المؤكّد أيضاً أن جميع الذين استمعوا إلى حديثه يوم التاسع من آب الجاري على قناة سكاي نيوز عربية لم يكونوا ينتظرون مضامين جديدة تسوقها كلماته بقدر ما هم مشغولون بالتقاط أهم السمات التي باتت تَسمُ تفكيره وتؤكّد تبلور معالم الشر لديه ليس حيال الشعب السوري فحسب، بل تجاه الشعوب الأخرى وفي مقدمتها جيرانه العرب.
ولعل هذه النزعة العدائية لم تكن بدعة طارئة على شخص بشار الأسد – كحاكم – بقدر ما هي سمة راسخة في نهج الدولة الأسدية خلال شطري الأب والابن معاً. فحافظ الأسد لم يكن حاكماً ودوداً في يوم من الأيام، لا تجاه شعبه ولا تجاه جيرانه العرب، بل ربما اعتقد دائماً أن ممارسة الاستعلاء على الآخرين وإشعارهم بقدرته الدائمة على إذلالهم هي الوسيلة الأمثل للحيازة على احترامهم، والاحترام في هذه الحالة لا يعني بالضرورة شموله على معاني قيمية كالود والرضى مثلاً، بل يعني تحديداً الهيبة والخوف من سطوته، وهذا هو المدخل لفهم مجمل العلاقات التي كانت تربط الأسد الأب سواءٌ بشعبه أو بمحيطه العربي على السواء، ولا شك أن هذا الضرب من الممارسة يوجب على صاحبه أن يتمتع بالقدرة الكافية على احتمال العزلة والقطيعة، بل إن الصمود على تلك القطيعة والانعزال يمكن إحالته حينئذٍ إلى ضرب من البطولة حين تجعل منه الطغمة الحاكمة نمطاً من الصمود بوجه المؤامرة الكونية التي ما وُجِدت إلّا لاستهدافه دون غيره.
العلاقة المضطربة بين الأسد الابن وأقرانه العرب هي استمرار لنمط العلاقة التي وسمت علاقة أبيه بجيرانه منذ عقود طويلة، إذ لم يكن بمقدور الأسد الأب أن يستمر في علاقة متوازنة مع الدول العربية، قائمة على المصالح المتبادلة وبعيدة عن الابتزاز وليّ الأذرع، إذ يمكن في هذا السياق النظر في شطرين من حكم حافظ الأسد، يبدأ الشطر الأول من عام 1977 حين أبرم أنور السادات صلحاً منفرداً مع الكيان الصهيوني، وقد أتاح هذا التحول لنظام دمشق أن يقود حلفاً مقاوماً ومناهضاً أُطلق عليه (جبهة الصمود والتصدّي)، وقد استطاع حاكم دمشق طوال سنوات، وتحت شعار هذا الحلف أن يمارس جميع أشكال الابتزاز على الأنظمة العربية من خارج (جبهة الصمود والتصدي) وفي مقدمتها دول الخليج العربي، كما تمكّن طوال سنوات من أن يظهر بمظهر المقاوم الذي يدافع عن الجميع، وبالتالي على الآخرين أن يقدموا له ما يريد وفقاً لمبدأ (الخُوّة) القائمة على الزعرنة والابتزاز، وليس وفقاً لنواظم قيمية أخرى.
ويبدأ الشطر الثاني من عام 1980، حين تلاشت الهالة الإعلامية لجبهة الصمود، باندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وانحياز الأسد بكل ثقله إلى جانب إيران، ولكن في الوقت ذاته استطاع تعزيز القناعة لدى دول الخليج بأنه سيكون العاصم لهم ولأمن أنظمتهم من الخطر الإيراني، وهكذا ظل حافظ الأسد طوال ثماني سنوات يترجم انحيازه لإيران على أنه مبعث توازن بين إيران والعرب، كما أراد أن يظهر بأنه صمام الأمان لأمن الخليج حيال النزعة الخمينية الكاسحة آنذاك، وربما هذا ما جعل حافظ الأسد يرى أن أسوأ فترات حكمه ضيقاً وضنكاً هي السنوات التي تلت قبول الخميني بشرب (كأس السم) ووقف الحرب مع العراق، إذ شهدت تلك السنوات حصاراً سياسياً واقتصادياً سواء من جانب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية أو من جانب دول الخليج التي نكثت بمبدأ (الخوّة) بمجرد وقف الحرب مع إيران، وكان هذا الحصار هو الأشد ضراوة على نظام الأسد الأب، إذ يذكر السوريون في السنوات ( 1988 – 1991) انعدام أبسط المواد المعيشية التي يحتاجها المواطن بما في ذلك حليب الأطفال والدواء، كما يذكر السوريون جيداً أن الحليف الوحيد الذي تبقى لحافظ أسد من المنطقة العربية هو نظام القذافي فقط، إلّا أن تلك الفترة الخانقة انتهت بفرجٍ كبير بعد ضيق حين اندلعت حرب الكويت (كانون ثاني 1991) بانضمام قوات الأسد للتحالف الدولي، إذ أتاح له ذلك فرصةً للاندماج في المنظومة الدولية من جديد، ففضلاً عن إعادة بوش الأب الغطاء الشرعي من جديد على نفوذ الأسد بلبنان، أتاحت له دول الخليج من جهة أخرى مدخلاً جديداً لعلاقات ما تزال قائمة حتى الآن.
يمكن التأكيد على أن حرص الأسد الابن على علاقته العضوية بإيران وحرصه في الوقت ذاته على عدم هدم الجسور بينه وبين دول الخليج إنما يعود إلى التمسّك بالنهج الأسدي ذاته القائم على الابتزاز واللعب على التوازنات الإقليمية، وخاصة في ضوء تعدد وانتشار أذرع الشر الإيرانية التي باتت تهدد دول المنطقة برمتها، ففي الوقت الذي أظهرت فيه دول الخليج موقفاً مؤيداً لثورة السوريين إبان انطلاقها، يتأسس هذا الموقف في أحد جوانبه على رغبة دول الخليج بتجفيف نفوذ إيران من الدولة السورية، إلّا أن الردّ الأسدي كان واضحاً، إذ كلّما تعزّزت علاقة الأسد بإيران وباتت أكثر عضوية، دفع ذلك دول الخليج إلى استجداء الأسد باعتباره صمّام أمان أو كابحاً لسطوة الشر الإيرانية عن دول الخليج، وهو ما يدعوه بشار، كما أبيه من قبل، عامل توازن إقليمي.
السيناريو الذي أُعيد من خلاله الأسد إلى الجامعة العربية لم يكن بعيداً عن تصورات نظام دمشق واستراتيجيته القديمة الجديدة، إذ لم تكن تلك العودة منبثقة عن نموّ في تفاهمات جديدة بين الطرفين، وكذلك لم تكن نتيجة رغبة أسدية بتسوية سواء محلية سورية أو عربية شاملة، بل أعيد الأسد كما هو بكل علّاته، فحضر قمة جدّة في أيار الماضي وهو يحمل في كلامه كل نوازع الوقاحة والتنمّر، مع حرص شديد على تلقين أقرانه بعضاً من شذراته الفلسفية (فلسفة الحضن)، كما حضر وزير خارجيته المؤتمر الوزاري بعمان في الشهر أيار ذاته، ولم يكن أقل من رئيسه وقاحةً واستعلاءً، ولعل كل ذلك ما كان ليحدث لولا أن رجوع الأسد إلى الجامعة العربية كان تحت المظلة الإيرانية، بل مصحوباً بالسطوة الإيرانية التي أثبتت الأنظمة العربية أنها لا تحبها ولكن تخافها. ولعل هذا ما دفع بشار الأسد في لقائه التلفزيوني الأخير مع قناة سكاي نيوز إلى وصف العلاقات العربية العربية بكل ثقة ووضوح بأنها علاقات شكلية، ولعله ليس الوحيد المسؤول عن ديمومة هذه الشكلانية في العلاقة، طالما أن الأنظمة العربية ما تزال تفتقد الاستراتيجية الأمنية المنبثقة من مصالح شعوبها وليس من مصالح أنظمة حكمها فحسب.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا