خلال الأيام العشرة الفائتة، انتهج نظام الأسد سياسة من ستة بنود، للتعامل مع تحدّي ارتفاع سقف الرفض للواقع الراهن في أوساط الحاضنة الموالية في الساحل السوري.
أول بنود هذه السياسة، كما هو متوقع، كانت حملة اعتقالات شنتها أجهزة الأمن ضد منتقدين للوضع المعيشي والخدمي، في اللاذقية تحديداً. ويبدو أن الاعتقالات، وفق المعلومات المتوافرة، طاولت أشخاصاً عاديين، شجعتهم تسجيلات النشطاء الأخيرة على نشر منشورات في وسائل التواصل انتقدت أداء حكومة النظام ودعت لتنظيم اعتصام ضد انقطاع الكهرباء في المدينة. ولم تُعرف أسماء المُعتقلين. ولا ينتمي أي منهم إلى زمرة النشطاء الذين تم تداول تسجيلاتهم بكثافة في الأسبوع ما قبل الفائت.
أما البند الثاني من هذه السياسة، فكانت زيارة بشار الأسد إلى الساحل السوري، بهدف تهدئة الحاضنة الموالية، وطمأنتها إلى أولويتها في حسابات حكومته. وكان جلياً تركيز الأسد في زيارته على أكثر قضيتين مستعجلتين، تؤرقان الساحل الآن. حرائق الأحراش والغابات، التي سبق أن اتهمت الناشطة لمى عباس، أيادٍ مجهولة بافتعالها بغية دفع أهالي الساحل إلى بيع أراضيهم لصالح زمرة يُعتقد أنها محسوبة على إيران. وقطاع الكهرباء، الذي بات انقطاعها سبباً لتفاقم التذمر وصولاً إلى دعوات عشوائية للاعتصام والتظاهر. واللافت أن الأسد، ورغم حرصه على الاقتراب –التمثيلي- من أوجاع سكان الساحل، حرص في الوقت نفسه، على عدم رفع سقف التوقعات كثيراً. وكانت الإشارة إلى إنجاز محطة توليد الكهرباء في بانياس، المتواضع للغاية، مثالاً على ذلك، إذ أنها ستزيد من الإنتاج الحالي من الكهرباء، بنسبة 1.20% فقط. علماً أن مجمل الإنتاج الحالي من الكهرباء يغطي أقل من ثلث حاجة سوريا الكلية.
أما البند الثالث، فكان خفض سعر صرف الدولار في السوق السوداء، عبر ما يبدو أنه تدخل في مسار التعاملات. إذ خسر “دولار دمشق”، 1550 ليرة، في أسبوع، تحديداً، بعيد بث تسجيل الناشط كنان وقّاف، الذي اتهم فيه بشار الأسد شخصياً، بتكليف عدد من الصرّافين المحسوبين عليه، بشراء الدولار من السوق، مما تسبب بارتفاعه الهائل، بنسبة بلغت نحو 47%، خلال شهر. وسيكون تحسن الليرة الأخير، مؤقتاً. كالعادة. لكنه قد يوفّر “تسكيناً” قصير الأمد، للغاضبين في الشارع الموالي.
أما البند الرابع، فتمثّل في خطابٍ رسمي يعبّر عن نيّة النظام في إدارة “مصالحة حقيقية” مع قطاع الأعمال المحلي. فوزارة الاقتصاد أعلنت العمل على تعديل المرسوم رقم 3 لعام 2020، بشأن تجريم التعامل بغير الليرة السورية، تجاوباً مع بعض مطالب قطاع الأعمال، للتخفيف من الاختناق الاقتصادي القائم. ورغم أن النظام ليس في وارد إلغاء تجريم التعامل بالدولار تماماً، إلا أنه في طريقه لخلق قنوات شرعية للحصول على القطع الأجنبي للمستوردين والتجار والصناعيين، بصورة تخفف من القيود بهذا الصدد.
لكن، ومقابل المسار الأخير من الانفراج لصالح قطاع الأعمال المحلي، حرص النظام على القيام بمحاولة سرعان ما تراجع عنها، كان الهدف منها، تعزيز قبضته على هذا القطاع، بصورة أكبر. وهو البند الخامس من سياسته. إذ حاول النظام انتزاع قيادة اتحاد غرف التجارة السورية من قبضة الدمشقيين، وإحالتها لرئيس غرفة تجارة طرطوس، المقرّب منه. في سابقة أثارت غضباً كبيراً في أوساط التجار الدمشقيين، دفعته للتراجع عنها لاحقاً.
إذ وبتوجيه من النظام، تمت مخالفة النظام الداخلي لاتحاد غرف التجارة السورية، وتم إجبار أبو الهدى اللحام، رئيس غرفة تجارة دمشق، على تفويض صلاحياته لنائبه الثاني، مازن حماد. وساد العُرف، منذ تأسيس الاتحاد، على أن يرأسه دمشقي، وينوب عنه نائب أول، من حلب، ونائب ثانٍ من حمص. وقبل بضع سنوات، اخترق النظام هذا العُرف بتعيين رئيس غرفة تجارة طرطوس كنائب ثانٍ. ومن ثم كانت القفزة الأخيرة، بتفويض هذا النائب “الطرطوسي”، بصلاحيات رئيس الاتحاد “الدمشقي”. وقد قُرأت الخطوة على حقيقتها، من جانب تجار دمشق، الذين صرحوا مداورةً، بأن ما حدث “انقلاب”، يخالف النظام الداخلي، ويطعن بتاريخية غرفة تجارة دمشق، وعراقتها. فيما أشار معلّقون وإعلاميون من خارج البلاد، إلى الأهداف العميقة للخطوة، متمثلةً بـ “علونة” القطاع التجاري، و”أسدنته” لصالح شخصية مغمورة لم تُعرف إلا منذ بضعة أعوام فقط – مازن حماد-، وتحيط بها الكثير من شبهات الفساد، حتى أنه كان سبباً في سجن الصحافي كنان وقّاف، قبل ثلاث سنوات، حينما نشر تحقيقاً يكشف فساد مؤسسات الكهرباء وإبرامها عقوداً مشبوهة مع شركات تتبع لرجل الأعمال الطرطوسي الصاعد مؤخراً. ناهيك عن أنه – مازن حماد- مقرّب من إيران أيضاً، حسب نشطاء في الساحل.
وينبئ تراجع النظام عن هذه الخطوة، بأنه ليس في وارد استنفار قطاع الأعمال في دمشق وحلب، جراء محاولة “علونة” القطاع التجاري، قسراً، في وقتٍ يحاول فيه “مصالحة” هذا القطاع، لتهدئة الأسواق، وتجنب المزيد من الاضطرابات غير المرحب بها، في الوقت الراهن.
لكن ذلك لم يمنع النظام من تنفيذ بند سادسٍ في سياسته لتحصيل الدعم الخارجي في مواجهة مخاوفه من حراك غير مضبوط في أوساط حاضنته. إذ أوفد وزير خارجيته برفقة وزيرَي الاتصالات والاقتصاد، لضمان الدعم الإيراني له، مقابل تقديم “فروض الطاعة” متمثلةً في متابعة تنفيذ عملية رهن قطاعات حيوية من الاقتصاد السوري لقاء الديون المتراكمة.
وبناء على البنود الستة السابقة من هذه السياسة، يتضح جلياً أن لا جديد ينتظر السوريين في الأفق القريب، وفق أجندات النظام. لا انفراجات منتظرة، ولا تغيرات دراماتيكية. هي إعادة تدوير لأدوات وسياسات سابقة، وتمتين لأخرى، للحفاظ على الوضع الراهن، كما هو. إذ لا مصلحة للنظام في تغييره، مطلقاً.
المصدر: المدن