قد تميل واشنطن إلى إحالة مشاكل تونس إلى أوروبا، لكن مذكرة تفاهم جديدة تخاطر بإدامة الأزمة الاقتصادية في تونس وتفاقم محنة المهاجرين.
في 16 تموز/يوليو، وقّع الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم مع تونس يتعهد فيها بشكل أساسي بتقديم دعم اقتصادي مقابل الحد من الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط. ولكن بغض النظر عن الفوائد المحتملة لكلا الجانبين، يقدّم الاتفاق أيضاً اعترافاً فعلياً بمسار القيادة المناهض للديمقراطية الذي ينتهجه الرئيس التونسي قيس سعيّد ويضفي الشرعية على جهوده المستمرة لترسيخ سلطته.
التأكيد على الهجرة أكثر من الديمقراطية؟
تتناول مذكرة التفاهم الجديدة مجموعة متنوعة من القضايا، بما فيها العلاقات بين الشعوب، والتحول إلى الطاقة الخضراء، والتجارة، ودعم الاقتصاد الكلي، والهجرة التي هي الموضوع الأكثر أهمية من منظور أوروبا. ووقعت رئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، برفقة رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني ورئيس الوزراء الهولندي مارك روته، الاتفاق مع سعيّد قبل الذكرى الثانية لقراره بحل البرلمان والبدء بالسيطرة على فروع الحكومة الأخرى بشكل منهجي. وأشار القادة الأوروبيون أيضاً، من خلال تأييد سعيّد علناً والتشديد على المخاوف المتعلقة بالهجرة على حساب جميع المخاوف الأخرى، إلى استعدادهم للتغاضي عن التصريحات العنصرية لسعيّد وسوء معاملته للأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى الذين يعيشون في تونس أو يمرون عبرها. على سبيل المثال، قبل أسبوعين من توقيع مذكرة التفاهم، اعتقلت قوات الأمن التونسية مئات المهاجرين الأفارقة في صفاقس ونقلتهم إلى مناطق حدودية صحراوية محاذية لليبيا والجزائر دون تزويدهم بمؤن.
وتم انتخاب ميلوني وبعض قادة الاتحاد الأوروبي الآخرين بناءً على برامج مناهضة للهجرة ع نابعة جزئياً من الزيادات الدورية في عدد الوافدين. وفي ظل تداعيات حرب أوكرانيا والأزمة الاقتصادية في تونس وتصاعد المواقف المناهضة للمهاجرين، حاول عدد متزايد من الأفراد العبور إلى أوروبا، وعاد “وسط البحر الأبيض المتوسط” ليبرز كطريق رئيسي. واعتباراً من 17 تموز/يوليو، أبلغت “المنظمة الدولية للهجرة” عن وصول 110 آلاف وافد من “وسط البحر الأبيض المتوسط” حتى الآن هذا العام، وشهد الشهر الماضي زيادة بنسبة 50 في المائة تقريباً مقارنةً بشهر حزيران/يونيو 2022. كما يستمر عدد المهاجرين المفقودين والمتوفين في الارتفاع، إذ بلغ 1769 هذا العام مقارنة بـ1417 في عام 2022 بأكمله. وحاولت غالبية هؤلاء الضحايا العبور من ليبيا، ولكن قرابة 500 شخص منهم انطلقوا من تونس.
ورداً على هذا الارتفاع، استضافت ميلوني عشرين دولة إقليمية لعقد مؤتمر حول الهجرة في 23 تموز/يوليو، وكان سعيّد جالساً مباشرةً إلى يمينها طوال الحدث. وتحدثت خلال المؤتمر بقولها، “كانت لدينا العقلية القائلة ‘لا يمكن تقييد الهجرة، لأن الهجرة حق ولأن الحدود لا وجود لها’، هذا ليس نهجي لأن الحدود موجودة، ويجب إدارة الهجرة”. ومع ذلك، كانت النتيجة الفورية الوحيدة للمؤتمر هي تعهد دولة الإمارات العربية المتحدة بتقديم مبلغ 100 مليون دولار لدعم مشاريع التنمية في الدول المتضررة من الهجرة.
وفي مذكرة التفاهم الجديدة، تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم 105 ملايين يورو كجزء من “ركيزة الهجرة” – وهي زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف تقريباً في دعم الاتحاد الأوروبي لهذه القضية. وتهدف هذه الأموال إلى المساعدة في إدارة الحدود (لاقتناء المعدات والتدريب والدعم الفني بشكل أساسي) بالإضافة إلى إطلاق مبادرة “شراكة المواهب” الجديدة لتعزيز الهجرة القانونية. وتنص مذكرة التفاهم صراحة على الجهود التعاونية لضمان إعادة المواطنين التونسيين، الذين سعوا إلى الهجرة غير النظامية إلى الاتحاد الأوروبي، إلى وطنهم. وانطبق ذلك على أكثر من 18000 تونسي في عام 2022، واحتلوا المرتبة الثالثة بعد المصريين والسوريين. وبعد توقيع مذكرة التفاهم، أوضح سعيّد أن تونس لن تقبل سوى بعودة مواطنيها وليس المهاجرين من البلدان الأخرى.
ولا تحدد ركيزة “استقرار الاقتصاد الكلي” في الاتفاق مبالغ التمويل الدقيقة. لكن خلال زيارة فون دير لاين لتونس في حزيران/يونيو اقترحت إمكانية تقديم دعم أوسع نطاقاً يصل إلى 900 مليون يورو عن طريق القروض وترتيبات التمويل الأخرى. ويمكن توفير مبلغ 150 مليون يورو إضافي للدعم المباشر للميزانية، وهو ما يريده سعيّد على الأرجح. ومن المحتمل أن تُربط أي مساعدة من الاتحاد الأوروبي بشرط التوصل إلى اتفاق مع “صندوق النقد الدولي” للمساهمة في استقرار الاقتصاد التونسي وتنفيذ الإصلاحات. وجرى التخطيط منذ فترة لبعض المشاريع الأخرى المدرجة في مذكرة التفاهم، مثل ربط تونس بكابل الألياف الضوئية تحت سطح البحر، ويمكن بالتالي للاتفاق الجديد أن يشجع تنفيذها.
صفقة مراوغة لـ “صندوق النقد الدولي”
في كانون الأول/ديسمبر، انتقد سعيّد برنامج “صندوق النقد الدولي” الذي تبلغ قيمته 1.9 مليار دولار وتفاوضت عليه حكومته سابقاً، وسرعان ما علّقه مجلس إدارة “صندوق النقد الدولي”. وساهم فشل القادة المتعاقبين في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية في تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. وتواجه الحكومة الآن صعوبة في دفع ثمن بعض الواردات، مما يؤدي إلى نقص في السلع الأساسية، بينما انخفضت احتياطيات العملات الأجنبية إلى العتبة الحرجة التي أمدها تسعين يوماً. وتأتي معظم قروض البلاد من المصارف المحلية وقد بلغت بالفعل سقفها، إذ يستحق أجل قرض خارجي بقيمة 500 مليون يورو في تشرين الأول/أكتوبر، ويليه قرض آخر في شباط/فبراير، على الرغم من أن احتياجات الاقتراض الخارجي للحكومة تفوق 5 مليارات دولار، وفقاً للتوقعات.
وتتمثل النقاط الشائكة الأساسية بالنسبة إلى سعيّد فيما يتعلق ببرنامج “صندوق النقد الدولي” في الإلغاء الإلزامي لدعم الوقود والغذاء وإعادة الهيكلة المحتملة للشركات المملوكة للدولة. ووفقاً لـ “صندوق النقد الدولي”، يمثل الدعم الحكومي 7.6 في المائة تقريباً من “الناتج المحلي الإجمالي” التونسي، بينما تمثل ديون الشركات المملوكة للدولة حوالي 40 في المائة. وتستنزف أيضاً فاتورة رواتب القطاع العام الاقتصاد بدرجة كبيرة، حيث تمثل نحو 17.5 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي”. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، وافق “الاتحاد العام التونسي للشغل” النافذ على زيادة الأجور السنوية لعمّال القطاع العام بنسبة 3.5 في المائة في إطار خطة الإصلاح الأساسية للحكومة، ويواصل “الاتحاد” معارضة تخفيض الدعم وإصلاح الشركات المملوكة للدولة.
وفي الآونة الأخيرة، كانت ميلوني تضغط على “صندوق النقد الدولي” لتخفيف شروط قروضه، لا سيما فيما يتعلق بالمسألة الرئيسية لإصلاح الدعم. ويبدو أن الولايات المتحدة قد أقرت بهذه النقطة. وفي 12 حزيران/يونيو – بعد يوم واحد من زيارة فون دير لاين، وميلوني، وروتي لتونس، وبعد اجتماع مباشر لوزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين مع نظيره الإيطالي – شجع الوزير الأمريكي تونس على مراجعة خطتها الإصلاحية.
ويراهن سعيّد أيضاً على دعم دول الخليج العربي. ففي 20 تموز/يوليو، وقّع وزيرا المالية التونسي والسعودي اتفاقاً يلزم الرياض بتقديم 100 مليون دولار كدعم مباشر للميزانية و400 مليون دولار على شكل قروض. وفي غضون ذلك، سافر وزير الخارجية التونسي إلى الإمارات والكويت، ما يبشر بتمويل خليجي إضافي محتمل. وإذا تمكن سعيّد من جمع أموال كافية من هؤلاء الشركاء، فقد يتمكن من الصمود اقتصادياً من دون اللجوء إلى “صندوق النقد الدولي” – أو على الأقل تحديد ما يحتاجه من “صندوق النقد الدولي”، وبالتالي، ما يجب عليه التنازل عنه. كما أن الزيادة في عائدات السياحة منذ جائحة “كوفيد-19” ستمنحه متنفساً.
العوامل السياسية والاجتماعية
على الرغم من أن شعبية سعيّد في الداخل قد تراجعت إلى حد ما خلال العامين الماضيين، إلّا أن حملات القمع التي يمارسها بحق المعارضين السياسيين والمهاجرين لم تقوّض شعبيته بشكل كبير على ما يبدو. وعلى العكس من ذلك، لا يزال الكثير من التونسيين ينظرون إليه على أنه قادر بشكل فريد على التلاعب بالزعماء الغربيين لكي يحصل منهم على وعد بالتمويل دون اشتراط إجراء إصلاحات موجعة. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن الكثيرين يقدرون تركيزه في خطاب الهجرة على الحفاظ على “السيادة” – بدءً من إخبار المسؤولين الأوروبيين بأن تونس “لن تكون حارس حدود لأي دولة أخرى” وانتهاءً باتهام المنتقدين بنشر “الأكاذيب” و “الأخبار المزيفة”.
وتنص مذكرة التفاهم الجديدة بين تونس وأوروبا على احترام حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمهاجرين. ومع ذلك، لا يوجد ما يشير إلى أن الظروف الفعلية للمهاجرين ستتحسن نتيجة الاتفاق. وعلى الرغم من تعهد الاتحاد الأوروبي بدعم إجراءات مراقبة الحدود التونسية، إلّا أن الحكومة لا تتمتع سوى بقدرة محدودة على إدارة الهجرة غير الشرعية، كما أن المساعدة الحدودية الأمريكية تركز منذ فترة طويلة على قضايا مكافحة الإرهاب، وليس الهجرة. ويلوح في الأفق مثال اتفاق “الاتحاد الأوروبي” لعام 2017 مع ليبيا – فبعد أن وافقت بروكسل على تعزيز قدرة خفر السواحل في البلاد، كانت إحدى النتائج هي سوء المعاملة الجسيمة للمهاجرين في مراكز الاحتجاز الحكومية.
تونس كمشكلة لأوروبا
نظراً لأن مذكرة التفاهم غير ملزمة ومستويات تمويلها غامضة، فلا يزال أمام واشنطن فرصة لمناقشة هذه القضايا مع شركائها في الاتحاد الأوروبي وإيجاد حلول أكثر فعالية. وقد تُعد إحالة مشاكل تونس إلى الأوروبيين أمراً مغرياً، بما أنهم أقرب إلى قضايا البحر الأبيض المتوسط، وقد تسامحت إدارة بايدن حتى الآن مع الميول الاستبدادية لسعيّد. ولكن مذكرة التفاهم قد تخاطر، بصياغتها الحالية، بإدامة الأزمة الاقتصادية في تونس من خلال السماح للحكومة بالالتفاف على الإصلاحات الأساسية، وقد تهدد أيضاً بوقوع كارثة إنسانية للمهاجرين العالقين في تونس، أو الذين يُنقلون إلى مخيمات حدودية صحراوية، أو يتورطون في مخططات هجرة أكثر خطورة. ولا يصب تزايد خطر عدم الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط في مصلحة أمريكا.
وبينما تسعى واشنطن إلى تحويل التمويل بعيداً عن الدعم المباشر للحكومة التونسية، يجب على صانعي السياسات توجيه المساعدة إلى الجماعات الدولية التي تساعد المهاجرين وإلى جماعات المجتمع المدني التي تركز على مواجهة المواقف المناهضة للمهاجرين. كما ينبغي أن تستمر في دعم الإصلاحات المطلوبة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصاديين تدريجياً في تونس، وهو السبيل الوحيد للحد من الهجرة بدرجة كبيرة على المدى الطويل. ومن أجل الحفاظ على الآفاق المستقبلية للبلاد، سيتعين على واشنطن أن توضح للشركاء الرئيسيين في الاتحاد الأوروبي أنه لا يجب عليهم منح سعيّد شيكاً على بياض.
سابينا هينبرج هي زميلة حائزة على زمالة لما بعد الدكتوراه في “كلية الدراسات الدولية المتقدمة” في “جامعة جونز هوبكنز”، حيث تقوم بالبحث والنشر في القضايا المتعلقة بالتحولات السياسية في شمال إفريقيا.
بين فيشمان، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى