تجريف منظّم لإرث العراق الحضاري  

ولاء سعيد السامرائي

لا يمكن وصف إزالة نصب العراق وتماثيل ساحاته ومآذنه وأشجاره العديدة، قديمها وحديثها، منذ الغزو واستلام حكومة الخضراء الحكم في العراق، وكذا هدمها وإهمالها، الا بالتدمير الممنهج. بعد أيام من الهدم المتعّمد في البصرة، مع سبق الإصرار، لمئذنة السراجي التي يعود بناؤها الى عام 1727، الذي أثار ضجة واستهجاناً واسعين، يغضب العراقيون من رؤية أشجار أحيائهم التاريخية القديمة تقطع بشكل واسع في مناطق جميلة، مثل الكرادة واليرموك، فقد استيقظوا على اختفاء أشجار تعود زراعتها وأعمارها إلى نشأة أحيائهم وبنائها، وذلك من دون سبب أو مبرّر “ظاهر” لهذه الإجراءات المستفزّة، خصوصا أن العاصمة بحاجة أكثر وأكثر إلى زيادة المناطق الخضراء والمشجّرة بشكل أكبر لمساهمتها في تخفيف حرارة المدينة، وللميزة الجمالية والحضارية لأي مدينة مع الزيادة السكانية المتسارعة، وليس الزحف عليها وتدميرها والقضاء على وجودها.
تكشف قضية هدم مئذنة جامع السراجي في البصرة تشابه عمل المحافظة الإطارية في المدينة مع أساليب حكومة المنطقة الخضراء وأحزابها، التي ضربت بتعهداتها التي عقدتها لتسهيل تشكيل الحكومة مع الأطراف الأخرى عرض الحائط، لتكون اللاعب الوحيد في الساحة من دون منازع. لقد أظهر المحافظ أنه حاكم البصرة ورجلها الأول، وهو من أمر بهدم الجامع، وأن إلقاء التهم والمسؤولية على الوقف لا تصمد أمام حضوره الشخصي الهدم في حين كان في وسعه أن يمنع الأمر!

 

يعمل بعض ممثلي الوقف السني في خدمة المحافظ، ودافعوا عن قراره زورا، رغم أن تصريحاته في المؤتمر الذي عقده معهم، وبالمباشر من القنوات الإعلامية، واضحة جدا بتناقضاتها، وبروز حقيقية أنه قد حنث بوعده، وأنه يتملّص من مسؤوليته في هدم المئذنة، واتفاقه مع الوقف على الطلب من الشركات التركية المتخصّصة بهذا الميدان تقطيع المئذنة وإعادة نصبها في مكان آخر.
بدلا من أن يتحمّل المسؤول قراره هدم المئذنة في الليل، وحضوره شخصيا متفاخرا بالإنجاز الذي يقوم به أمام الكاميرات التلفزيونية، اأى المسؤولية في المؤتمر الصحافي بالكامل على الوقف السني وموظفيه، متناسيا اتفاقه معهم! كيف لمن يدّعي أن مسؤولية الهدم تقع على الوقف السني أن يحضر شخصيا أعمال الهدم ويستدعي القنوات التلفزيونية لتصوير ذلك؟ الأغرب أن المسؤول الحكومي عمد إلى تحشيد الإعلام للكلام عن صواب قراره في تهديم مئذنة السراجي، لأنها تسبب ازدحاما في نقطة من نقاط الشارع الذي تقع فيه، علما أن المنطقة المسبّبة للزحام البسيط مساحة قليلة جدا لا تتعدّى بضعة أمتار. والتقت قناة المربد بأتباع له يشيدون “بعمله هذا وبمشاريعه” للمدينة، على عكس مواطني البصرة الذين يتظاهرون منذ أكثر من عقد، ويتكلمون عن تجاوزات كثيرة وعقبات في أماكن أخرى، يغضّ عنها المحافظ الطرف، بسبب علاقاته مع أصحابها، ناهيك عن سوء الخدمات في المدينة، وخصوصا تحوّل المدينة إلى مزبلة كما في بغداد، ويشتكون من شح الماء وتلوثها، وانقطاع الكهرباء الأزلي، والبطالة الواسعة وتشغيل العمالة الأجنبية بدل العراقيين وكفاءاتهم، وانتشار المخدّرات وغرق المدينة، ميناء العراق الوحيد، بالفساد المستشري على أرض العراق!

يأتي هدم مئذنة السراجي في سلسلة من إزالة مآذن تاريخية وتماثيل ونصب، مثل مئذنة المأمون التي بنيت عام 1957، وهي ليست بقدم السراجي، لكنها هدمت وبنيت قبل سنوات بحجّة توسعة الجامع، وشيدت مكانها أربع منارات من الإسمنت بطراز غريب، لا علاقة له بالطراز البغدادي، ولا بجمالية المئذنة السابقة. ولا تزال ملوية سامراء التي دمرت منها أجزاؤها العليا مهملة تنتظر الترميم من دون نتيجة. وبين حين وآخر، تخرج دعوات إلى هدمها وإزالتها بحجّة أن من بناها يكره آل البيت “الذي يحبّه كثيرا أصحاب العملية السياسية”. ويتأسى العراقيون على إهمال جامع مرجان، أحد أجمل جوامع بغداد القديمة الذي أصبح مكبّا للقمامة، ترتع باحاته بالماء الآسن والنفايات، مثل تماثيل كثيرة، كتمثالي معروف الرصافي والسياب في البصرة. أما تمثال المتنبي للفنان محمد غني حكمت، فقد أزيل، وفُجّر تمثال أبو جعفر المنصور، وجرى تخريب نصب وتماثيل أخرى وتركها من دون اهتمام ولا ترميم، مثل تمثال كهرمانة ومتحف القوة الجوية ونصب الجندي المجهول ونصب الحرية وتمثال الواثق ونصب ثورة العشرين وتمثال الأم والعقداء الأربعة في ساحة الطيران ونصب اللقاء في المنصور وتمثال محسن السعدون في شارع السعدون.
ربما يكون مفهوما أن يزيل حكم جديد، نصبه الاحتلال الأميركي، بعض معالم نظام يعاديه سابقا، لكن ما يحصل في العراق ليس مجرّد إزالة معالم نظام سابق، بل تجريف منظم لتاريخ العراق وإرثه الحضاري وذاكرة أهله الجماعية وسكانه. وما التهجير الذي أعقب الغزو ومنع عودة المهجّرين إلى مناطقهم ورفض تشريع قانون العفو العام من الأحزاب الولائية وإخلاء مدن وقرى كثيرة من أهلها وإحلال آلاف المجنّسين من إيران وباكستان وأفغانستان يدينون بالولائية، لتثبيت ديمغرافية في مدن معينة أصبحت أشبه بالقواعد العسكرية للحرس الإيراني يجد فيها العراقي نفسه غريبا، إلا أكبر دليل على ما يحصل. وبينما يُشغل الناس بما يسمّى أزمة ارتفاع سعر الدولار وأخباره اليومية، يمضي الاحتلال الإيراني في مشروعه بالسيطرة على ما فوق الأرض العراقية التي يعتبرها منطقة نفوذه بالكامل (حصل عليها من المحتلّ الأميركي لقاء خدماته في غزو العراق)، وتعزيز وجوده في كل مكان، وتكوين كوادر جامعية تابعة له عبر آلاف المنح الدراسية من الخضراء التي، وبحسب تغريدة لشخصية اسمها “وزير عراقي” نقلا عن المستشار الثقافي الإيراني، فإن حكومة محمد شيّاع السوداني أرسلت سبعة عشر ألف طالب عراقي ليدرسوا الفارسية في جامعات إيران ومعاهدها، وأرسلت أربعة الآف طالب ليدرسوا الأدب الفارسي وثلاثة آلآف ليدرسوا التاريخ الفارسي، وأن مجموع من يدرس من الطلاب العراقيين في إيران يصل إلى سبع وخمسين ألف طالب.

ليس العراق ملك شخص ولا حزب ولا طريقة أو أتباع رأي ليحدّدوا ويفرضوا كيف يكون العراق، وإلى من يتبع ويغير جلده ليلبس جلد غيره. لقد نهض من قلب الأماكن الدينية التي تهيمن عليها الولائية شبابٌ عازمٌ على انتزاع وطنه من براثن الاحتلالين، الأميركي الإيراني، وإعادته لشعبه، واغتيل عشرات منهم، لأنهم واجهوا قناصي المليشيات الولائية ونظيرتها في الحرس الإيراني بصدور مفتوحة، رافعين راية العراق وهم يصرُخون بأعلى أصواتهم “نريد وطناً”. لم يكن هؤلاء الشباب جوكرية، ولا أبناء للسفارات كما صرح السفير الإيراني قبل أيام، بل أعداء العراق من رموهم بهذه النعوت. هم من أتت بهم دول بعض السفارات، ومن يعمل اليوم وبحماس من أجل تسييد الاحتلال الإيراني، ويسير بوصايا سفيرة الولايات المتحدة إيلينا رومانسكي لمحو العراق العربي الذي نظٌر له المحافظون الجدد، مهندسو غزو العراق، بالتعاون مع إدارة بوش والمجمع الصناعي العسكري وبنوك الفيدرالي الأميركي.
التجريف حرب وغزو، ولم يذكر التاريخ أن شعبا خضع لاحتلال وظلم من دون أن يقاوم وينهض من أجل تحرّره وحريته. صفحات التاريخ مليئة بأحداث محاربة الغزاة والمحتلين، سواء في العراق أو فلسطين أو الجزائر ومصر أو ليبيا. وفي أوروبا، نهضت الشعوب تقاوم وتحارب الاحتلال النازي والعنصرية إلى حين دحره وتخليص أوروبا منه. أعطى شباب تشرين عام 2019 للعالم ولكل واحد فينا درسا إنسانيا كبيرا، أننا نريد استرجاع وطننا، وهو مطلب كل الشعب العراقي مهما توسّعت وتجذّرت وكبرت خطط المحتل، فهو مرفوض ويسير ضد قانون الحياة والطبيعة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى