“ثورة 23 تموز 1952” والدور المصري

محمد عمر كرداس

لم تكن ثورة مصر الناصرية في 23 تموز/ يوليو 1952 ثورة مصرية فقط، بل مدت بصرها خارج حدود مصر مستفيدة من تجارب التاريخ القريب والبعيد، فلم تُحقق مصر إنجازاتها الكبرى إلا عندما مدت بصرها خارج حدودها، فقد انتصرت على الصليبيين والمغول الذين هددوا المنطقة العربية أولاً ومصر ثانياً، بالوحدة مع سوريا الكبرى بحدودها الطبيعية، ولذلك عندما كتب عبد الناصر كتابه الأول فلسفة الثورة الذي اعتُبر الوثيقة الأولى من وثائق الثورة الثلاث (فلسفة الثورة، الميثاق وبيان 30 آذار/ مارس) حدد دور مصر بالدوائر الثلاث العربية والإسلامية والافريقية، وذلك يعبر تماماً عن وعي مطابق للواقع، وقد عملت الثورة وقائدها ضمن هذه الدوائر الثلاث، فقد كان الوزير محمد فائق وزيراً للشؤون الافريقية ثم وزيراً للإعلام، وكان الوزير فتحي الديب وزيراً للشؤون العربية، وكان الأزهر في زمانه منارة علم وتوعية للعالم الإسلامي الذي تحول إلى جامعة تضم بين جنباتها طلاب العلم لأكثر من 54 دولة إسلامية وفُتحت لها فروعاً في كثير من الدول وتخرج منها آلاف الأطباء والمهندسين وعلماء الشريعة الوسطية غير المتطرفة والكثير من التخصصات العلمية والأدبية؛ كما دعمت مصر في عهد الثورة كل حركات التحرر الافريقية حتى نالت تلك الدول استقلالها بدءاً من الجزائر فالمغرب فتونس مروراً بغانا ونيجريا وباقي المستعمرات الفرنسية والبريطانية، ثم قامت مع يوغوسلافيا تيتو وهند نهرو وأندونيسيا سوكارنو بتأسيس حركة عدم الانحياز والحياد الإيجابي للفكاك من الاستقطاب الدولي بين معسكر الغرب الاستعماري والشرق الشيوعي، كل ذلك كان هدفه أن تتواجد مصر في مكانها الطبيعي في العالم وتحمي أمنها القومي وأمن الدول العربية التي كانت في الفترة الناصرية في ذروة تقدمها وتحضرها، وكانت محاصرة الدول الرجعية ركن من أركان تلك السياسة، فقد لخص عبد الناصر مهام الثورة ضد قوى الرجعية السعودية والأردنية بجملة حين قال: “يجب أن نقاتل الاستعمار في قصور الرجعية ونقاتل الرجعية في أحضان الاستعمار”، بذلك حمى عبد الناصر الأمن القومي المصري والعربي، ويقول عالم الجغرافيا المصري “جمال حمدان” في موسوعته “مصر عبقرية المكان”: إن مصر إذا انعزلت داخل حدودها تتعرض للتهميش السياسي (كما حاصل الآن) وتستباح، وإذا خرجت إلى محيطها الطبيعي تنهض وتتقدم وتكسب صيغة الدولة الإقليمية العظمى، وهذا عين الواقع وتجارب التاريخ تقول لنا ذلك؛ وبذلك استطاعت مصر أن تتحدى الدول العظمى وتهزم ثلاث دول وتنتصر في معركة السويس الخالدة كما انتصرت في كل معاركها التنموية ومعارك استقلالها فحولت مصر من دولة مهمشة اقتصادياً تُصدر القطن لمعامل بريطانيا إلى دولة صناعية كبرى تصنع وتُصدر وتُنمي، واستطاعت مضاعفة الدخل القومي أكثر من مرة في فترة عبد الناصر، وكان الجنية المصري يساوي الجنية الإسترليني والآن كل إسترليني يساوي 45 جنيه مصري وهذا يعكس التراجع والتهميش بفعل سياسات التبعية للسعودية والغرب، وارتهان السياسة والاقتصاد لرجال أعمال نهابين استولوا على الاقتصاد والمقدرات الاقتصادية تحت سمع وبصر طبقة سياسية فاسدة تابعة ومرتهنة أسس لها السادات بتعهده للغرب والسعودية بتصفية آثار عبد الناصر وثروته النهضوية!

التقينا مجموعة من حزب الاتحاد بعد ردة السادات بالمفكر المصري العروبي الدكتور  عبد الكريم أحمد فقال: “.. إن السادات صحيح أنه يسير على خط عبد الناصر ولكن معاه أستيكا (يعني ممحاة).. ”؛ وكان هذا هو الواقع.

بعد كل ما جرى ويجري وكل هذا الضغط والحصار الرجعي والغربي على مصر هل ستبقى رهينة محبسها من كمب دافيد إلى الآن؟، طبعاً لا فمصر عصية على الحصار، وإن جردة حساب لما مر بها من حروب واحتلالات وتجويع دفعت مصر في النهاية لتنهض بشعبها وإمكاناتها وعروبتها لتتألق من جديد، ولنا تجربة قريبة مع مصر فرغم آلامها وأوجاعها ومحاصرتها كانت الدولة الوحيدة التي استقبلت السوريين ممن ذهبوا إليها بعد ثورة الشعب السوري بكلِ حبٍ وترحاب واعتبرتهم أخوة أشقاء، والنظام المصري رغم ميله وتطبيعه مع النظام المجرم إلا أنه فتح أبواب العمل والدراسة وكل مناخي الحياة، فلا كملك ولا ترحيل ولا اضطهاد ولا عنصرية كما جميع دول اللجوء العربية الأخرى، وبذلك نرى إبداعات السوريين في إقليمهم الجنوبي مع أخوتهم المصريين؛ فعندما تأمنهم من خوف ترى الإبداعات.

بارك الله بمصر وشعبها وستبقى ثورة 23 تموز/ يوليو منارة تهتدي بها الأجيال عندما تملك زمام أمرها، ويبقى عبد الناصر بوطنيته وقوميته والتحامه بجماهير الشعب المقهورة نبراساً للجميع في مستقبل واعد للأمة وشعوبها.

للذكرى فقط، أصدر حزبنا بعد ردة السادات في 15 أيار/ مايو نشرة حزبية- وكنا يومها في الجبهة الوطنية التقدمية واتحاد الجمهوريات العربية- كانت بعنوان “15 مايو/ أيار وطريق عبد الناصر”، أكد فيها الدكتور جمال الأتاسي على أن ما جرى ارتداد عن طريق عبد الناصر، وفي اجتماع ضم السادات والقذافي وحافظ أسد وكان الدكتور جمال حاضراً عاتبه السادات وقال أنا عاتب عليك يا جمال تعتبرني في هذه النشرة خرجت عن خط عبد الناصر، ورد الدكتور أن الوقائع تقول أن هناك تصفية لآثاره، وفي عام 1973 بعد حرب التحريك أكد الدكتور جمال في “سلسلة حرب تشرين والمستقبل العربي” على أن ما يجري هو تصفية لآثار عبد الناصر!

المصدر: موقع الحرية أولًا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى