يعود عنوان “اللامركزية” ليتصدّر نقاط الخلاف بين مجموعات السوريين العاملة في الشأن السياسي، ليس فقط بين المحسوبين على النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، إذ يمكن تعميم الأمر على مختلف مجموعات المعارضة، أيضاً، في مواجهة مطالب “قسد” خصوصاً، والمجموعات الكردية عموماً، حيث يتّسع المفهوم لدى بعض مؤيديها من اللامركزية الإدارية إلى اللامركزية السياسية، بما يتضمّنه ذلك من مخاوف تقع ضمن المحظورات التي تشكّل حدود التعامل مع المصطلح لمختلف منصّات المعارضة التقليدية، والمحدثة، وتلك المحسوبة على المعارضة الرسمية، أو خارجها.
يتمسّك النظام السوري الحاكم بقوة الإبقاء على مركزية الدولة مع هوامش إدارية عبّر عنها بقانون الإدارة المحلية 107، وأعطى إشارات لإمكانية تعديله، بما يضمن له السيطرة الكاملة على مقدّرات الدولة ومواردها في مختلف المحافظات، وهذا ضمن ما يعتقد أنه البديل الذي يناور به ضد ما تطرحه بعض المجموعات المعارضة، ومنهم “قسد”، عن اللامركزية. وفي وقتٍ يشكّل المصطلح نقطة خلاف رئيسية مع النظام، فإنه أيضاً لم يستطع أن يقنع كل أطياف المعارضة السورية، حتى التي تتمسّك ببند المرحلة الانتقالية الذي يقرّه قرار مجلس الأمن 2254، كذلك فإنه بقي موضع خلافٍ حتى بين الأطراف المتحالفة، أو المتقاربة، في المعارضة، ومنه ما خرج إلى العلن عن خلاف بين مجلس سوريا الديمقراطية التابع لـ “قسد” وهيئة التنسيق الوطنية المعارضة، ومقرّها دمشق، بشأن تفسيرهما المختلف لمبدأ اللامركزية، وتحميله مسبقاً شبهة أو تهمة أنه بمثابة خطوة متقدّمة لتحقيق انفصالٍ بعض المناطق، ومنها التي قد تحكمها كيانات كردية أو غالبيتها منهم، عن الوطن الأم سورية على المدى القريب أو البعيد.
وكان النظام السوري قد دأب في العقود السبعة الماضية على تعميق (وترسيخ) هيمنته المركزية على الأصعدة كافة، ولا سيما الإدارية والاقتصادية والمالية والأمنية والإعلامية والتمثيلية، وربط منافذ الحياة في الجغرافيا السورية ببوابة العاصمة دمشق، التي يحكمها تعبيراً عن قوّة وجوده، معتبراً أي رغبةٍ بالتحرّر من تبعية الوزارات المركزية محاولة لفكّ عرى وحدة سورية الجغرافية والديمغرافية، رغم ما نتج من تلك المركزية الشديدة من تفاوتٍ في التنمية المناطقية، ونهب لثروات المحافظات وتعميق سبل الفساد، وترسيخ البيروقراطية السلطوية، وإعاقة الاستثمارات الوطنية والأجنبية، ما ضيّع على الناس فرص العمل، وزاد في نسب الفقر في المحافظات الشرقية والشمالية التي أطلق عليها المحافظات المنسية.
الجدير ذكره أن محاولة استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017 عن حكومة العراق عبر الاستفتاء في الإقليم، عزّزت المخاوف لدى أطراف معارضة عديدة من اللامركزية، أو، حسب المصطلح الأدق، “الفيدرالية”، على الرغم من فشل الإقليم في انتزاع أي اعترافٍ دولي بهذا الاستقلال، وحكم المحكمة الاتحادية العليا التي لجأ إليها الحكم المركزي في العاصمة بغداد، القاضي بإلغاء نتائج الاستفتاء، وفقاً لنصوص قانونية ودستورية.
ومع ذلك، يجري الاستناد إلى تلك المحاولة، أو إشهارها، لوضع عراقيل إضافية بوجه أي مشروع للتحرّر، أو التخفّف من المركزية في سورية، رغم مشروعيته أو “أحقّيته” وتنامي الحاجة له، لوضع حدّ للواقع الذي يعيد إنتاج الهيمنة، وتالياً الاستبداد.
وفي الواقع، كان يفترض من درس إلغاء المحكمة الدستورية في العراق إلغاء نتائج الاستفتاء أن يعزّز الثقة بأن المواد الدستورية المانعة، أو كما يحلو لبعضهم تسميتها “مواد فوق دستورية”، تكون كفيلة بالحؤول دون انفصال أيّ منطقة، أو يربط ذلك بأغلبيةٍ برلمانيةٍ تحدّد نسبتها حسب الاتفاق، وهذا يمهّد لمناخ آمن لشكل سورية غير المركزي، الذي يعوّل عليه لإنتاج فرص متكافئة لكل المناطق السورية، تنموية وإدارية واقتصادية وثقافية وحريات فردية وجماعية.
هذه المخاوف وتصاعدها، مع حملة تشويه المقاصد من خلفها، جعلت تداول مصطلح “اللامركزية” يطفو على الوجه من جديد، في خضم الجدالات السياسية بشأن شكل سورية الدولة، بديلاً لمصطلح الفيدرالية للتخفيف من حدّة وقعها على السوريين المتحاورين حول مستقبل سورية، لكن ذلك لم يحل دون تجدّد الخلاف الحادّ بشأن طابع اللامركزية، بين ثنائية اللامركزية السياسية أو الإدارية، معتبرين أن اللامركزية بشقّيها تمثل حالة جامدة لا يمكن تفصيلها وفق مصلحة كل بلد واحتياجاته.
هذا الجمود في التعامل مع المصطلح كصورة ثابتة تنفيه تجارب الدول الفيدرالية، كبيرها وصغيرها، ففيدرالية الولايات المتحدة ليست كفيدرالية ألمانيا أو النمسا أو سويسرا أو بلجيكا أو حتى روسيا الاتحادية التي يُفترض أن تشجّع النظام عليها، وهذا الشكل الذي يمثل قوّة الدولة، وليس نقطة ضعفها، ما يتيح لنا، نحن السوريين، مثلاً، وعبر الحوار المجتمعي والسياسي، أن نعزّز وجود نموذج سوري يكفل ابتعادنا عن المركزية، ويضمن فرصاً تنموية لكل المساحات السورية من مبدأ اللامركزية التي تقرّرها الأطراف المحلية، وهو أيضاً الشكل السياسي الذي يدعمه المجتمع الدولي، وعبر عن ذلك الاتحاد الأوروبي، والمجموعة المصغرة المشكلة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية في “اللاورقة”، وهي وثيقة قدّمتها الدول للمعارضة في (24 يناير/ كانون الثاني 2018) قبيل مؤتمر سوتشي للحوار الوطني في روسيا، لمنع التلاعب بالقضية السورية. والمشكلة أن المعارضة الرسمية آنذاك، المتمثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التفاوض، رفضتها، رغم أنها كانت تمثل مشروع تأسيس الجمهورية الثالثة لسورية ما بعد الحرب، علماً أن الإدارة الأميركية أصدرت عام 2022 قراراً بإعفاء مناطق “قسد” من العقوبات الاقتصادية في 12 مطرحاً استثمارياً، ما يعني أنها ماضية في رؤيتها للحل في سورية ووفق اللامركزية، كتفصيل من تفاصيل التسوية القادمة المقبولة دولياً.
المصدر: العربي الجديد