لا يكتمل الحديث عن ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، دون الحديث عن العراق واهميته. سواء بالنسبة للمحتل البريطاني، المستهدف الأول من قبل الثورة، او بالنسبة لدول الغرب الرأسمالي، وخاصة الولايات المتحدة الامريكية. فالدول الاستعمارية تعتبر العراق الحلقة المركزية في منطقة الشرق الأوسط، وضياعه يعني ضياع المنطقة، التي تعوم على معظم بترول العالم. فليس غريبا ان يفيق الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور من نومه بعد منتصف الليل، ليتصل بزميله البريطاني، هارولد ما كميلان، ويقول له ان مصالحنا في خطر وعلينا التحرك فورا.
ولفداحة ما اعتبرته تهديدا لمصالحها الاستراتيجية، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية، في اليوم التالي للثورة اوامرها، بأنزال قوات الأسطول السادس، المتواجد في البحر المتوسط، في لبنان. لتتبعها بريطانيا بأنزال قواتها في الأردن بعد يومين، استعداداً للدخول إلى بغداد واعادة النظام الملكي. ولولا موقف الشعب العراقي، الذي افترش الأرض والتحف السماء من جهة، والتهديد السوفيتي لمنع التدخل من جهة أخرى، لما تراجعت قوات البلدين عن احتلال العراق. لهذا تكتسب هذه الثورة أهمية لا تخص العراق وحده، وانما تتعداها الى دول المنطقة.
ان الحديث عن هذا الثورة، دون الحديث عن مبررات تفجيرها، يفسح المجال امام أعدائها، على اختلاف اتجاهاتهم، للانتقاص منها والتشكيك بمشروعيتها في أي وقت. فالبعض وصف الثورة بانها مجرد انقلاب دبرته الدوائر الاستخباراتية البريطانية. او ان معظم قيادتها من الضباط، الذين درسوا في المعاهد العسكرية البريطانية، او خريجي كلياتها العسكرية ارتبطت بهذه الدوائر، او في أحسن الأحوال، وصفوا قادتها بالمغامرين والمتهورين. في حين وصفها اخرون، بانها أسست لمرحلة لاحقة من انقلابات وحروب، جعلت العراقيين يحنون الى النظام الملكي. ومن المؤسف انتقال هذه العدوى الى بعض المثقفين والسياسيين، لكن بلغة منمقة وملتوية، بصرف النظر عن حسن نواياهم.
ان كل الاتهامات التي سعت للنيل من ثورة تموز، لا تصمد امام التحليل السياسي والاجتماعي والطبقي. فالثورات، تقاس بمشروعيتها لا بنتائجها، التي لا تخلو من تعثر هنا او هناك. من جانب اخر فان هذه الثورة، لا تختلف عن الثورات، التي حدثت في مختلف دول العالم. فهي تدخل في خانة الحتمية التاريخية للشعوب، التي تعيش حالة صراع بين طبقاته وفئاته الاجتماعية المختلفة. حيث اجمع علماء الاجتماع والمعنيون بهذا الشأن، على ان “الثورة عبارة عن تغيير شامل وجذري وتوزيع مصادر الثروة وعمليات الإنتاج. وهذا ما حدث فعلا. حيث غيرت ثورة تموز، هيكلية الدولة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وليس اسقاط النظام الملكي وتحويله الى نظام جمهوري فحسب.
اما عالم الاجتماع والاقتصاد ذائع الصيت والشهرة كارل ماركس، فقد ذهب ابعد من ذلك حيث قال” ان تاريخ كل مجتمع إلى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ صراع بين الطبقات، فالحر والعبد، والنبيل والعامي، والاقطاعي وألقن، والمعلم والصانع. أي بالاختصار المضطهدون والمضطهدون، كانوا في تعارض دائم وحرب مستمرة، تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما، إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع باسره، وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً”.
من المهم هنا الانتباه الى ان القوة الدافعة لثورة 14 تموز، قد نمت وترعرعت في رحم العهد الملكي، الذي عاشت في ظله طبقات المجتمع في صراع دائم. بمعنى ان الثورة لم تكن وليدة مزاج هذه الشخصية او تلك هذا الحزب او ذاك. فعندما تعجز الطبقات المسحوقة والفقيرة وذو الدخل المحدود، عن انتزاع حقوقها المشروعة سلميا، تلجا الى وسائل النضال الأخرى. ومنها التظاهرات والانتفاضات والثورات. وهذه تقودنا الى مقولة، ان الثورة لا يصنعها الرجال، كما يعتقد البعض، وانما هي من تصنع الرجال، وتدفعهم للدخول في رحابها او قيادتها. سواء كان هؤلاء الرجال عسكرين او مدنيين، او اسمه فلان او علان.
لقد خضعت ثورة تموز لقوانين الصراع هذه، ولحتميتها التاريخية، او هي نتاج هذه القوانين. فالعراقيون من رجال دين وعشائر وتجار مدن وعامة الناس، قاموا بثورة سميت بثورة العشرين ضد المحتل البريطاني، الذي اغتصب حقوق العراقيين وحرمهم من العيش في بلدهم مستقلين، يديرون شؤونهم بأنفسهم كبقية البلدان المستقلة. صحيح ان الثورة فشلت عسكريا، على الرغم من الانتصارات التي حققتها، لكنها حققت مكاسب سياسية كبيرة، اجبرت بريطانيا على التخلي عن الحكم المباشر، وتشكيل حكومة من العراقيين، ثم القبول بإعلان العراق دولة ملكية دستورية.
لم يقتنع العراقيون بذلك، واعتبروه حركة التفاف على مطلب الاستقلال الكامل. حيث وضع المحتل الدولة الجديدة تحت نظام الانتداب، أي الوصاية. ثم ربطها بمعاهدات جائرة مثل معاهدة 1922 ومعاهدة 1927 ومعاهدة 1930، التي جعلت من العراق ولاية بريطانية. الامر الذي فرض على العراقيين النضال السلمي، ولكن هذه المرة، تحت قيادة اهم الاحزاب الوطنية كالحزب الشيوعي والوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي.
لقد تأثر قادة الجيش العراقي بما يحدث في بلدهم، فاندفعوا لمساندة نضال الجماهير، فكان على سبيل المثال انقلاب بكر صدقي، قائد الفرقة الثانية، ضد حكومة ياسين الهاشمي، الذي تفرد بالسلطة وأصبح الزعيم الأوحد، والاتيان بحكومة المعارضة بزعامة حكمت سليمان. اعقبها بعد عدة سنوات قيام ثورة بقيادة العقداء الأربعة، صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب وفهمي سعيد ومحمود سلمان، إضافة الى المحامي والصحفي يونس السبعاوي. هذه الثورة التي عرفت بثورة رشيد عالي الكيلاني، انتهت بتدخل عسكري بريطاني واعدام قادته.
ان عودة الاحتلال العسكري للعراق مرة ثانية، ترتبت عليه نتائج سيئة. فبدلا من امتصاص نقمة العراقيين بتقديم بعض المكاسب المتواضعة، قام المحتل بتصعيد عمليات القمع والاضطهاد والقتل، كما حدث في كاورباغي عام 1946. حيث أقدمت حكومة أرشد العمري بمذبحة ضد عمال شركة النفط في كركوك. ومن جانب اخر تعمد المحتل تجويع الشعب العراقي واذلاله. فأصدر امرا بتصدير محصول الحنطة والشعير الى بريطانيا في مطلع سنة 1947، انتهت الى حرمان العراقيين رغيف الخبز. وجاء قرار اللجنة البريطانية الأمريكية بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة القادمين من مختلف أنحاء العالم، تنفيذا لوعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ليزيد الطن بلة.
لقد كان رد الشعب العراقي، تطوير أساليب النضال التي تمثلت في القيام بانتفاضات كبيرة. بدأت بانتفاضة كانون 1948 لأسقاط معاهدة بورتسموث الجائرة، مرورا بانتفاضة عام 1955 ضد حلف بغداد وانتفاضة 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر، وانتهاء بتشكيل جبهة الاتحاد الوطني، من قبل الحزب الشيوعي بقيادة سلام عادل وحزب الاستقلال بقيادة صديق شنشل والحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي وحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة فؤاد الركابي. ولم يكن الحزب الديمقراطي الكردستاني بعيدا عن الجبهة. لتنتهي الى المشاركة في الثورة والمساهمة الفعالة في نجاحها.
باختصار شديد، فان ثورة تموز لم تأت من فراغ، ولا برغبة من ضباط عسكريين مغامرين، مثل عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وانما قامت بسبب الاحتلال وسيطرته على مقدرات البلد والهيمنة على ثرواته وحرمان المواطن العراقي من حقوقه وتجويعه واذلاله وتعاظم الفوارق الطبقية بين فئة صغيرة من المجتمع عاشت في نعيم، وبين عموم الشعب العراقي الذي عانى من الفقر والجوع والتردي الصحي. ومن المفيد ان نصف هذه الحالة، في الحديث الذي دار بين عبد الكريم قاسم والسفير البريطاني، بعد قانون النفط رقم 80. ونقله وزير المالية محمد حديد في مذكراته. حيث قال السفير لماذا فعلت يا سيادة الزعيم ذلك والعراق يعيش بخير، الا تدري ان هذه الخطوة ستغضب الغرب كله. فكانت إجابة قاسم بان صحب السفير في سيارته بجولة في بغداد، واطلعه على أوضاع الناس الذين يعيشون في اكواخ تسمى “الصرايف”، والتي تشكل حزام العاصمة بغداد. وقال له بنبرة حادة، هل هذا هو النعيم والرخاء يا سيادة السفير؟
لقد حققت الثورة إنجازات مهمة، وتحولات كبيرة في المجتمع العراقي، مازالت باقية حتى اليوم. على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تم طرد المحتل وتمزيق جميع الاتفاقيات والمعاهدات الجائرة. وإصدار قانون الإصلاح الزراعي. وتشريع قانون الأحوال الشخصية، فيما يتعلق بالمرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات والميراث. وتحرير النقد العراقي من الجنيه الإسترليني، والغاء الامتيازات البترولية في الأراضي العراقية، بالضد من سيطرة الشركات النفطية العالمية. ناهيك عن السياسات الوطنية في المجالين العربي والإقليمي والدولي. التي جعلت من العراق دولة قوية ومهابة. ولا تغير من هذه الحقيقة الصراعات على السلطة، سواء بين قادة الثورة، او بين أحزاب جبهة الاتحاد الوطني.
تحية للشعب العراقي في عيد الثورة بذكراها الخامسة والستين، والتي شكلت درسا وطنيا يستلهم منه العراقيون العبر والقيم النضالية والوطنية. بل هم احوج من أي وقت مضى الى استذكار هذه المناسبة واستحضارها، لتشد من عزيمتهم ضد المحتلين وعملائهم، وتعزز من اصرارهم على طردهم، كما طرد ابائنا الاحتلال البريطاني صبيحة الرابع عشر من تموز.
المصدر: البيت الآرامي العراقي