مقتل رجل أسود يشعل انتفاضة أميركية نادرة ويعري ديكتاتورا فاشلا حول بلاده إلى “جمهورية موز”

إبراهيم درويش

كشفت الأحداث التي تشهدها الولايات المتحدة منذ نهاية الشهر الماضي عن تحولات مهمة في الداخل والخارج وكلها تثير مخاوف على التماسك الاجتماعي وعلاقة النظام السياسي بالقانون ودور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم. فقد راقب العالم بخوف وأمل ما جرى من تظاهرات في معظم المدن الأمريكية احتجاجا على قتل الرجل الأسود جورج فلويد على يد الشرطة في 25 أيار/مايو بمدينة مينيابوليس بعدما جثا رجل شرطة لمدة 8 دقائق و46 ثانية على رقبة الرجل المقيد والذي كان يصرخ “لا أستطيع التنفس” مناشدا الشرطي القاسي ألا يقتله. وأصبحت صورة فلويد أيقونة عن ظلم السود وتجسيدا لقصتهم في الولايات المتحدة كما قال داعية الحقوق المدنية أل شاربتون، وكما بدت في الرسومات الجدارية له في كل مدن العالم من بقايا جدار برلين المتداعي إلى أنقاض مدينة إدلب لتي دمرها قصف النظام السوري والطيران الروسي.

رئيس ضد الشعب

وتركز الحديث في الأيام الأخيرة، على الأقل في داخل الولايات المتحدة حول طريقة معاملة الرئيس دونالد ترامب للمتظاهرين السلميين وتهديده بنشر القوات المسلحة لقمع من وصفهم بالإرهابيين الداخليين والمعادين للفاشية ووقف عمليات النهب وتدمير المصالح العامة، مستحضرا في هذا السياق قانونا يعود إلى عام 1807 وهو قانون التمرد. وأدت صورته حاملا الإنجيل أمام كنيسة سانت جونز التي تضررت بعض الشيء إلى انتقاد كبير بشأن استخدام الدين في مجال السياسة ودور القادة العسكريين في مساعدة الرئيس على التقاط صورة استخدمها أنصاره في الحملات الانتخابية التي يخوضها من أجل إعادة انتخابه في تشرين الثاني/نوفمبر. وشاهدنا كيف رد المسؤولون العسكريون السابقون على دعوات الرئيس ترامب بأنه سيرسل آلافا من الجنود الأمريكيين المدججين بالسلاح إلى الشوارع لكي يقمع المتظاهرين، بشكل جعل وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس يخرج عن صمته وينشر مقالة في مجلة “ذي أتلانتك” (4/6/2020) اتهم فيها ترامب بكونه مقسم أمريكا وليس موحدها، وأنه الرئيس الأول الذي يراه الجنرال السابق في حياته يعمل على تمزيق شتات الأمة الأمريكية. وتبع ذلك رفض المؤسسة العسكرية من وزارة الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة إدخال الجيش الأمريكي في السياسة المحلية. لأن الجيش مهمته حماية التراب الأمريكي من المخاطر الخارجية لا قتل شعبه. وأعادت تصرفات ترامب المعروفة من إثارته المشاعر العنصرية وتهديده المتظاهرين بالكلاب الشرسة واستحضاره كلمات من سنوات الكفاح من أجل الحقوق المدنية مثل تهديد رئيس شرطة ميامي في عام 1968 “عندما يبدأ النهب يبدأ القتل” إلى الأذهان المدى الذي انتهت فيه أمريكا، حيث أدى غرام ترامب بالرجال الأقوياء إلى تحويل أمريكا إلى مركز انتباه العالم ودعا المعلقين مثل يوجين روبنسون بصحيفة “واشنطن بوست” (5/6/2020) لمقارنة قمع المتظاهرين السلميين بما حدث في دول مثل التشيلي وأن مصير الطغاة في العالم واحد واستشف روبنسون شيئا واحدا من هجوم ماتيس وهو أن ساكن البيت الأبيض لم ينجح إلا في توحيد الأمة ضده. وقال نيكولاس كريستوف في مقالة له بصحيفة “نيويورك تايمز” (3/6/2020) إن ترامب الذي تهرب من الخدمة العسكرية في فيتنام يريد إثبات رجولته المنقوصة ولهذا حاول الظهور بمظهره العسكري أمام الكنيسة.

تفكك الديمقراطية

وأعطت الأحداث الأخيرة صورة عن ربيع أمريكي متأخر، وفي اتجاه آخر عن أمريكا التي لا تختلف عن أية دولة أخرى. وهو ما دعا المعلقة روبن رايت للتساؤل في مجلة “نيويوركر” (4/6/2020) حول أمريكا وإن أصبحت جمهورية موز؟ مشيرة إلى أن المصطلح أصبح عملة سياسية تستخدمها النخب لتصفية الحسابات السياسية بينها. إلا أن تصرفات ترامب الأسبوع الماضي كشفت عن أن أمريكا لا تختلف عن توصيف “جمهورية الموز” وهو مصطلح نحته الكاتب الأمريكي أوهنري الشهير في بداية القرن العشرين من خلال سلسلة من القصص القصيرة خطها بناء على تجربة له في هندوراس التي هرب إليها عندما اتهم باختلاس مالي من البنك الذي كان يعمل فيه. وأراد به وصف الدولة غير المستقرة الفاسدة التي تعتمد على الطغمة العسكرية التي تدمر مؤسسات الدولة. وأعادت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب وثالث أقوى شخصية في أمريكا الحديث عن “جمهورية الموز” عندما قالت على برنامج “صباح الخير جوي” على شبكة “أم أس ان بي سي”: “ما هذا، هل هذه جمهورية موز؟” وذلك بعد أن تعرضت ابنتها الصحافية وزملاءها المتظاهرين أمام كنيسة سانت جونز لقمع الشرطة من أجل فتح الطريق أمام صورة ترامب ورجاله. وعبر ماتيس بصراحة عن هذا الشعور في مقالته “عندما دخلت الجيش قبل خمسين عاما أقسمت للدفاع ودعم الدستور. ولم أحلم أن تقوم القوات التي أقسمت الولاء وتحت أي ظرف من الظروف بخرق الحقوق الدستورية لمواطنيهم”. ويقول الباحثون وصناع السياسة السابقون والحاليون أن إرث ترامب سيكون تفكيك الديمقراطية الأمريكية. وقال روبرت كيغان، المؤرخ “نحن متواطئون في نظرتنا إلى ديمومة نظامنا” وأثبت ترامب أن “نظامنا يحمل في داخله القدرة على التخريب”. ومن أجل هذا أكد الآباء المؤسسون على أهمية المؤسسات الرقابية ومهمة الرئيس في خدمة الدستور وتحديد سلطات الرئيس. ولكن في عهد ترامب تراجعت المؤسسات الأساسية التي تؤكد عمل الدول والتحول السلمي للقيادة. فقد جعل ترامب من وزرائه خدما لمصالحه، وهو ما يعبر عنه دور وزير العدل ويليام بار الذي لديه الاستعداد لصياغة ما يريده الرئيس من أوامر رئاسية مع التبريرات القانونية اللازمة. وواضح في وزير الخارجية مايك بومبيو الذي يهمس في أذن الرئيس ما يحب سماعه. وطلب عزل مراقب عام في وزارته حقق في صفقات أسلحة للسعودية وتصرفات شخصية للوزير وزوجته. وفعل ترامب نفس الأمر مع مراقب وكالات الاستخبارات لأنه تجرأ على إبلاغ الكونغرس عما تلقاه من معلومات حول إساءة الرئيس استخدام سلطاته في فضيحة أوكرانيا. ومن هنا فمحاولة ترامب عسكرة السياسة المحلية في مواجهة الانتفاضة الأخيرة ضد عنف الشرطة مع السود والأقليات هي آخر تحول أثار قلق المعلقين والجنرالات الأمريكيين. فدعوات الرئيس الأخيرة للقمع وتحويل الجيش ضد شعبه أدت إلى خوف الجنرالات والأمريكيين بشكل عام. فالمؤسسة العسكرية ظلت كما قالت “الغارديان” (5/6/2020) مصدر فخر للأمريكيين، حيث كانت في مرات مساعدا على الاستقرار كما في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية وأسهمت في التخلص من ديكتاتوريين وارتكبت في بعض الأحيان كوارث كما في فيتنام والعراق. ولكنها لم تنشر إلا في استثناءات قليلة وبناء على طلب حكام ولايات لمواجهة تحديات داخلية إلا في عهد ترامب الذي ظن أنه يستطيع فعل ما يريده أمام تواطؤ الحزب الجمهوري الذي بدا عاجزا عن وقف إفراط رئيسه في تحدي السلطة والشعب وشعوره أنه فوق القانون فقط لأنه القائد العسكري.

رجل النظام والقانون

وظن ترامب أنه من خلال “رئيس النظام والقانون” يستطيع أن يكرر ما فعله ريتشارد نيكسون في عام 1968 أثناء تظاهرات المطالبين بالحقوق المدنية. لكن ترامب ليس نيكسون، فذلك لم يكن في مركز السلطة التنفيذية بعد. والظروف في أمريكا تغيرت، فالمحتجون ضد عنف الشرطة ليسوا سودا بل كل الطيف الأمريكي، من سود ولاتين وعرب وبيض. ومن المفارقة أن ترامب كان الأمريكي الوحيد الذي مدح قوة الصين في تعاملها مع الطلاب الداعين للديمقراطية في ساحة تيانانمين، 1989 والتي سحقتها دبابات الحزب الشيوعي الحاكم. وأثار تبختر الرئيس محاطا برجاله وعائلته في ساحة لافاييت القريبة من البيت الأبيض إلى مقارنة مع ساحة تيانانمين التي مرت وللمصادفة ذكراها الحادية والثلاثين قبل أيام.

زي عسكري في البيت الأبيض

وكان مشهد مارك ميلي في زيه العسكري لافتا لانتباه دوغ لوت، نائب مستشار الأمن القومي في إدارة كل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما. حيث قال إن الجنرالات عندما يزورون البيت الأبيض يخلعون زيهم العسكري. وحتى عندما راقبوا عملية اغتيال زعيم القاعدة عام 2011 من غرفة الوضع كان القادة العسكريون بدون زيهم الرسمي. وبعمله هذا “أظهر ميلي عن قصد أو بدون قصد دعمه لاستخدام القمع ضد المتظاهرين السلميين في غالبيتهم وأنه سيكون المسؤول” عنه.  كل هذا يجعل الديمقراطية الأمريكية في خطر ووصف جمهورية الموز صحيحا بشكل عام. وحسب ديفيد بلايت من جامعة ييل، الذي تحدثت إليه روبن رايت من “نيويوركر” فالاضطرابات هي أكثر من هذا “إنها ثورة، مدهشة” فعلى مدى تسعة أيام خرج المتظاهرون إلى الشوارع في 380 مدينة احتجاجا على مقتل فلويد. وقارن بلايت حال أمريكا في 2020 بوضعها في منتصف القرن التاسع عشر، فلم يكن هنا يسار-وسط وانهارت المؤسسات السياسية واتجهت البلاد نحو التفكك.

العنصرية

وبالمحصلة فقد أثبتت الأحداث أن آفة العنصرية التي تعاني منها أمريكا قد تفاقمت وأن ترامب المحرض والمؤجج للعنصرية هو من وقف أمام إصلاح مؤسسات الشرطة التي قالت صحيفة “نيويورك تايمز”(1/6/2020) تعتبر نفسها محمية ومحصنة من العقاب، عبر القوانين المحلية والقواعد وحماية النقابات التي تؤكد أن أي رجل شرطة يرتكب جريمة يفلت منها. فمقتل فلويد ليس الحادث الأول والأخير، فقد قتل شاب آخر كانت جريمته أنه مارس العدو في شارع يسكنه البيض في ولاية جورجيا. والعنصرية متأصلة جدا في المجتمع الأمريكي ومشكلة أمريكا أنها تفتقد شخصية مثل أبراهام لينكولن الذي كان قادرا في وقت الأزمة على التفكير عميقا والدعوة إلى العمل معا وإنجاز المهمة دونما تفرقة في اللون والعرق. وترامب في وضعيته ونرجسيته وحساسيته للنقد لا يستطيع أن يجمع بل ويحكم مثل بقية الديكتاتوريين عبر التفرقة ونشر الكراهية. والمشكلة في ترامب أنه منح أعداء بلاده اليد العليا، من الناحية الاخلاقية، فمرشد إيران عبر عن قلقه على المتظاهرين الأمريكيين خاصة السود، فالرجل الأسود الذي يمشي في الشارع لا يعرف إن كان سيظل على قيد الحياة بعد عشر دقائق، حسب تغريدة المرشد آية الله علي خامنئي. أما الصين التي قمعت المتظاهرين في هونغ كونغ فقد وجدت أنه من المناسب تذكير أمريكا التوقف عن تقديم المحاضرات لها حول حقوق الإنسان ومعاملة المحتجين. وبالنسبة لحلفاء أمريكا فقد راقبوا الوضع بدهشة عقدت ألسنتهم كما بدا في رد رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو على أسئلة الصحافيين حول الأحداث الأمريكية، فقد التزم الصمت لعدة ثوان قبل الإجابة.

محاصر

وبالمحصلة فقد كشفت أحداث الأيام الأخيرة في أمريكا أن ترامب محاصر في الداخل والخارج، وديكتاتور فاشل، يهدد ويتوعد لكنه لا ينفذ تهديداته. وحتى المؤسسة العسكرية التي استند عليها في وعيده تخلت عنه. وكما يعرف أي دكتاتوري، فعلى كل رجل قوي أن يحكم إما من خلال الحب أو الخوف، ولم يفعل ترامب أيا منهما. ونجح رده المراوغ والوحشي في جعله ديكتاتوريا وضعيفا في نفس الوقت-وهو خليط قاتل لأي زعيم. ويضاف إلى هذا الخليط السام في عام انتخابي التحديات التي يواجهها الرئيس الأمريكي، فهناك فشل في مواجهة تداعيات كوفيد-19 وبطالة عالية رغم تغنيه بأن معدلاتها قد انخفضت واستحضر اسم فلويد الذي قال إنه فرح في العالم الآخر لما أنجزته وفاته. وبخلاف ذلك فالتحديات الثلاثة التي تواجهها أمريكا ترامب تؤثر كما يرى رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس بمقال نشره موقع الدورية “فورين أفيرز” (5/6/2020) وقال فيه إن العالم يراقب ما يحدث في أمريكا، وبالتأكيد ستترك الأزمات الثلاث أثرها على السياسة الخارجية الأمريكية التي جعلت من أمريكا خلال العقود الماضية القوة التي لا تضاهى في العالم. وبالتأكيد ستترك الأزمات الثلاث أثرها العميق على سيادة أمريكا في العالم. وحتى تتوصل الولايات المتحدة إلى مصالحة داخلية مع نفسها وترأب الانقسام المجتمعي وتردم الخلافات السياسية، فمنظور الديمقراطية في العالم سيتراجع، فيما سيعيد الأصدقاء والحلفاء التفكير حول وضع أمنهم بيد أمريكا وربما استغل المنافسون والأعداء الضعف الأمريكي وتخلوا عن حذرهم. ويقول هاس إن المشاكل هذه لن تختفي بنفسها، كما ولن تحمي أمريكا نفسها من تداعياتها، فالتاريخ ليس لديه زر للتوقف ولن ينتظر العالم أمريكا حتى تحل مشاكلها الاقتصادية والعنصرية والخلافات السياسية. وفي النهاية من السهل التكهن بما سيحدث لاحقا في ظل رئيس يرتع على الكراهية في مجتمع لوثت العنصرية روحه حتى الصميم كما قال مارتن لوثر كينغ في أيلول/سبتمبر 1967 أي قبل سبعة أشهر من اغتياله. وفي اللحظة الحالية فقد بدا ترامب عاريا أمام الناس بعدما بنى لنفسه صورة الرجل القوي عبر تويتر وعندما حاصره المتظاهرون في البيت الأبيض هرب للملجأ ليقول لاحقا إنه كان في رحلة تفقدية له.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى