قراءة في رواية: تضحيات لن تموت

أحمد العربي

هاني الحلبي كاتب سوري، ينتمي للثورة السورية، والرواية تضحيات لن تموت، هي أقرب لشهادة عن واقع الثورة السورية في الغوطة الشرقية سنوات الحصار، ماذا حصل على مستوى الثورة والثوار والحصار المفروض عليهم من النظام و حلفائه الروس والإيرانيين والمرتزقة الطائفيين. وصولا الى اضطرار الناس والثوار للحفاظ على من تبقى من اهل الغوطة، من جراء الحصار والجوع والقصف والموت بالكيماوي و تحت البراميل المتفجرة الى قبول التهجير إلى الشمال السوري.

تعتمد الرواية طريقة السرد على لسان الراوي الذي يتابع واقع بعض شباب الثورة في الغوطة وعائلاتهن وبلداتهم وما حصل معهم. وفق تسلسل زمني عبر سنوات الحصار.

تبدأ الرواية من اللحظة التي حصل بها اتفاق التهجير بين الثوار واهلهم ومن تبقى منهم مع الطرف الروسي ممثلا للنظام و ضامنا للاتفاق وتنفيذه. ومجيء الباصات لنقل المهجّرين الى الشمال السوري. أحد الثوار يحمل دفتره ويدون رحلة الترحيل تلك، وكان قد دون قبلا ما حصل معهم ايام الحصار سابقا. يتحدث عن احساسهم بالغدر وخيانة كل الأطراف لأهل الغوطة ومعها غدر بالثورة السورية. لقد تُركوا تحت رحمة الحصار والتجويع والقصف والقتل، ولم يُترك لهم أي منفذ او دعم لأن يستمروا في مواجهة النظام الذي يرونه عدوا للشعب، قبل الثورة وبعدها، وفي أيام الحصار إلى الآن.

تنتقل الباصات بين البلدات، تمر من دمشق، التي عادت الحياة إليها نسبيا، ونسي الناس فيها – خوفا ونفاقا – واقع أهلهم الذين كانوا في الغوطة. ومن هناك تنتقل الباصات الى الشمال السوري، حيث يكون خط سيرها مارا من بلدات الساحل السوري، التي تحوي مؤيدي النظام، الذين يظهرون التشفي والتصرفات الطائفية والعداء لأهل الغوطة وثوارها. ومن هناك تنتقل إلى المناطق المحررة في ادلب حيث يصلون الى مخيمات بنيت لهم هناك. البعض استقر بها والبعض غادرها واخذ مسارات لحياته. منهم من استقر في الشمال السوري ومنهم من غادر الى تركيا واستقر فيها، والبعض غادر إلى أوروبا البعض غرق في البحر والبعض وصل، واختلفت المصائر. وتبعثر الشعب السوري في بلدان العالم.

الرواية تسرد واقع حال الناس والثوار تحت الحصار في الغوطة، الناس هم اهل الثوار، والثوار اولادهم. كيف استطاعوا التكيف مع واقعهم ؟ .وتفاصيل حياتهم على كل المستويات. تتابع الرواية واقع اهل الغوطة من خلال تتبع شخصيات فيها من شباب الثورة والعائلات وبعض الوجوه الدينية والاجتماعية. الشباب الذين نذروا أنفسهم لتحدي الحصار  ومواجهة النظام في مناطق التماس بين قوات النظام وبلدات الغوطة. مانعة له من التقدم مهما كان الثمن، متحلين بالشجاعة والتضحية والتصدي لمحاولات التقدم إليهم . فعلى مستوى الثوار فقد قسموا أنفسهم بين مرابطين على خطوط التماس، وآخرين يتسللون الى مناطق سيطرة النظام، ليحصلوا على ما يسد رمق عائلاتهم ومن يستطيعون مساعدته من اهلهم وناسهم في الغوطة المحاصرة. الحصار الذي عنى بالنسبة للناس فقدان اغلب الحاجات الاساسية من مواد غذائية وغيره. وغلاء أسعارها إن وجدت، لقد تآمر بعض التجار على جوع الناس وحاجاتهم و احتكروا وسرقوا ما في حوزة الناس من خلال غلاء غير معقول، تحت دعوى ندرة السلع وصعوبة الحصول عليها. لقد خانوا الناس والثورة فعلا، منهم من تم محاسبته، واغلبهم حصل على مكاسبه على حساب جوع وافقار اهلنا بالغوطة، ولم يحاسبوا أبدا؟ !!..

 لم يستسلم الثوار، عملوا على حفر نفق يصل بين مناطقهم ومناطق سيطرة النظام. واستخدموه للحصول على الحاجات الأساسية. هذا النفق الذي سيطر عليه النظام في نهاية الأمر وخنق الغوطة المحاصرة. كان هناك ازمات مختلفة تعصف في حياة الثوار والناس، كان أهمها، اختلاف الثوار مع بعضهم فصائل متناحرة وذلك حسب الداعم، وكذلك انتهازية بعض القيادات؛ حيث يعيش الشباب المرابطين شظف الحياة والحصار، بينما قياداتهم ينعمون بكل شيء. وزاد ذلك سوء حصول صراعات بين فصائل الجيش الحر وصلت الى مستوى الصراع المسلح. كما ظهر ان أجندة الداعمين كانت ترتكز على المنح والمنع وأوامر لحظية بالتحرك وعدم التحرك. وكان الإمداد اقل من ان يصنع انتصارا واكثر من ان يؤدي لهزيمة. يعني عمل لاستنزاف دائم لحياة الناس والثوار، دون أي تقدم حقيقي. هذا في الوقت الذي حصل فيه النظام على كل إمكانات الدعم. سلاح و طيران روسي من الجو يقصف ويدمر ويقتل دون أي رادع. و مرتزقة طائفيين إيرانيين وحزب الله يقاتلون على الارض ويحولون حياة الناس إلى جحيم. ومع ذلك استمر الناس والثوار صامدون وتحولت بلدات الغوطة الى مناطق محررة. لكن الثمن كان غاليا جدا. النظام اخذ ضوء اخضر في استعمال كل الاسلحة ضد الشعب السوري، ضربت الغوطة بالسلاح الكيماوي حيث اطلق عليهم غاز السارين. حيث عرفنا تفاصيل حصول ذلك؛ الاصابة والمعالجة والشهداء الذين تجاوزوا المئات، مرّ ذلك وكأن شيئا لم يكن. كان أكثر ما يعاني منه الثوار إضافة لصراع الفصائل واختلاف اجندات الداعمين لهم وانتهازية قياداتهم. كانوا ضحية عدم إدراك اغلبهم لحقيقة الثورة التي قاموا فيها. فالشباب كانوا يعيشون في دولة محكومة بنظام أمني قمعي تحت هيمنة عقلية البعث القطيعية وسلطة عائلية طائفية، لم يكن للشباب فرصة لوعي حالهم وأحوالهم. ثاروا لانهم مظلومين، أما الوعي السياسي المطلوب فقد كان نادرا. انعكس ذلك في التركيز على الانتماء الديني الإسلامي الفطري وكان ذلك وقودا ايجابيا. حيث قدم فكرة التضحية والشهادة وقول الحق والإيثار والقيام بالواجب. لكن هناك من استثمر الدين ليحقق أجندته الخاصة. لقد تحدثت الرواية عن حزب التحرير الإسلامي وكيف كان يثبّط الهمم ويدعوا لعدم القيام بالثورة وانتظار قيام الخلافة التي ستحل مشاكل المسلمين. وهذا يعني الاستسلام للنظام. كما بدأ يحضر الفكر الجهادي للقاعدة من خلال مجيء اسلاميين عرب وأجانب تحت مسمى النصرة والدولة الإسلامية داعش. وكان حضور هؤلاء ضربة قاسمة على الثوار. حيث قاموا بعملين أثرا سلبيا على حياة الناس. الأول خلقوا فتنة بين الناس. تحت دعوى الحق والباطل والشرعية الدينية وتكفير الآخرين. إلى درجة خلق صراع بين الأب وابنه. حيث قام البعض بتفجير نفسه ضد المخالف ومنهم وجوه اجتماعية وفكرية نظيفة تمثل الضمير الاجتماعي. كان البعض من المثقفين المتدينين الواعين للإسلام بدوره المجتمعي الإيجابي. الداعي للخير والعقل والحرية والحياة الأفضل. وبناء المستقبل والمتفهم للاختلاف والتنوع الطائفي والديني والمجتمعي في سورية، الذي يهتم بنصرة المظلوم والعدل والقيام بالواجب. كانت هذه النماذج تحارب التكفير والصراعات البينية التي انتشرت بفعل تشدد النصرة وداعش. لكن اعتماد داعش والنصرة على العنف وتصفية المختلف. إضافة لقوة بنيتهم التنظيمية وولاء انصارهم المطلق لهم وتبعيتهم لمسؤوليهم، بطريقة تلغي عقل المنتمي لهم، وامدادها المالي الكبير الذي جعلهم مسيطرين بحيث كان مصير كل مختلف القتل. ومن سوء حال الفصائل أن بعضها حول سلاحه لضرب مناطق سيطرة النظام في مدينة دمشق حيث اهلنا العاجزين عن مواجهة النظام، وضحايا القصف العشوائي العبثي الضار، لم يكن القصف متفق عليه بين الفصائل بل مختلف عليه. واوحت الرواية للقارئ ان البعض تصرف وفق اجندة تخدم النظام عن وعي، يعني كجواسيس وخلايا نائمة له. فلم تتوقف عمليات الاغتيال والقتل لأغلب ناشطي الثورة الاصلاء النموذجيين المعبرين عن روح الثورة وهويتها. والبعض الآخر خدم النظام بطريقة اخرى مثل النصرة وداعش. حيث غطت فعل القتل والاعتقال والتهجير والتدمير الذي قام به النظام على الشعب السوري تحت دعوى محاربة الإرهاب. التي لقيت صداها دوليا. حيث سكت العالم عن جرائم النظام وحارب الإرهاب، وترك الشعب السوري وثورته تحت آلة الحرب والقتل للنظام وحلفائه.

 كما تابعت الرواية واقع بنية الجيش والمرتزقة الطائفيين من الداخل، وأنهم لم يكونوا جيشا يدافع عن الوطن والمواطن. بل كانوا مرتزقة طائفيين، يمثلوا مصلحة النظام ومصالحهم الصغيرة الدنيئة. أظهرت الرواية انحدارهم الاخلاقي والانساني وفسادهم وضياعهم.

 كما وقفت الرواية كثيرا عند تمسك الناس عموما بالدين الإسلامي كعامل وجداني وضامن نفسي ومرتكز عقائدي يساعدهم على تحمل ما هم فيه.

كما أظهرت الرواية أن الحياة استمرت عند اهلنا في الغوطة المحاصرة. حصل الحب الشريف والزواج وإنجاب الأطفال، لقد قرروا أن يستمروا بالحياة ويتحدوا الظلم والظالمين. لم يمنع القصف والحصار والتجويع والشهداء الذين يرتقون كل وقت إلى ربهم الرحيم. من ممارسة الحياة وعيشها بالحد الادنى الإنساني.

وفي الحساب الختامي للرواية -الشهادة- يظهر انتصار النظام على أساس توازن القوى. حيث ينتزع الناس من بيوتهم وبلداتهم ويهجرهم إلى الشمال السوري المحرر. تهجير إلى حين انتصار الثورة والعودة لان الارض تنادي أهلها. والأهل يحنون الى جذورهم حيث الاهل والاحبة يوارون تحت الثرى.

 لكن حساب الصراع بواقع الميدان فقد كانت الغوطة عصية عن التسليم والاستسلام، انتصرت بثورتها وتضحياتها وصمودها. لكنها انهزمت ايضا بصراعات فصائلها. وانتهازية بعض قادتها، وخيانة داعميها، وصمت العالم كله عن حقوق أهلها وحقوق الشعب السوري كله.

اخيرا نقول:

إن الثورة السورية في كل موقع وميدان ومنها الغوطة كانت مفخرة للشعب السوري الذي قام بثورة يستحيل أن تقوم لولا استعداد الناس للتضحية والفداء وتقديم التضحيات والشهداء. ثورة على نظام يهيمن على البلاد لاكثر من اربعين عاما. وعنده جيش وأمن يصل الى الملايين قادته وبنيته من طائفة مهيمنة تتصرف وفق مصالحها، حيث كان الشعب كله والبلد ضحية، كما حصل فعلا. نظام تدعمه روسيا وإيران والمرتزقة الطائفيين حزب الله وغيره، والشعب السوري ترك لمصيره دون أي معين جدْي. قدم الشعب السوري مليون شهيد واكثر، ومثلهم مليون مصاب ومعاق واكثر، وكما لجأ ١٢ مليون انسان سوري داخل سورية وخارجها، وتم تدمير أكثر من نصف سورية، التي تحولت إلى دولة مقسمة ومحتله من روسيا وامريكا وايران، وبعضها مسيطر عليه فصيل كردي انفصالي حزب العمال الكردستاني في الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات.

ضمن كل ذلك نقرأ ما حصل في الغوطة وحصارها وصمودها وتهجير أهلها…الخ.

كل ذلك نراه نحن ابناء الثورة السورية ردا على مطالبتنا أن نسقط النظام المستبد الطائفي الظالم وأن نبني دولتنا الديمقراطية. دولة المواطنة والعدالة والكرامة والحرية والحياة الأفضل…

هل كان لا بد من كل هذه التضحيات لتحقيق هذه الحقوق. ؟ !!. بالطبع الجواب لم نكن بحاجة لكل تلك التضحيات، لكن القوى الدولية ومصالح أعداء الشعب السوري من قوى دولية واقليمية رأت أن ما حصل لسورية هكذا افضل لهم…

اما الشعب السوري فقد كبرت اجندة أهدافه. تحرير سورية من المحتلين  وإسقاط الاستبداد ومحاسبته وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية.

0
0

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى