في الحوارات الخاصة والعامة كثيرًا ما يحصل صدام حول مسألة ما بين طرفين، الأول يدافع عن الفكرة القديمة التقليدية التي تتعلق بهذه المسألة والثاني يدافع عن فكرة معاصرة مستحدثة تتعلق بالمسألة ذاتها. قد تكون هذه المسألة اجتماعية أو دينية أو تاريخية أو ثقافية أو مهنية. كل من الطرفين ينظر للمسألة من زاوية مختلفة. يعتبر الطرف الأول نفسه حارسًا للتراث ويحاول جاهدًا منع رياح العصر من أن تهب عليه أو تهدم بعض جدرانه، ويعتبر الطرف الثاني نفسه ابن اللحظة ووليد الواقع المعاصر ويحاول جاهدًا تجاوز الماضي بأثقاله وأعبائه كي ينطلق للمستقبل بروح جديدة ورؤية مختلفة. يتكرر هذا النقاش وأحيانًا الخلاف كثيرًا بين الآباء والأبناء وحول مسائل لا حصر لها تبدأ بنمط اللباس وتنتهي بالنظرة للكون والثقافة والقيم واستشراف المستقبل. أيهما على صواب؟
لو استثنيا الثوابت في الدين والأخلاق والقيم الإنسانية والتي ينبغي الحفاظ عليها كما هي منعًا للفوضى الاجتماعية والتحولات العميقة التي قد تفقد المجتمعات البشرية ملامحها، فإن النظرة الواقعية للمسائل والتي تقرأ جيدًا مستجدات العصر وتراعي ظروف الواقع ومتغيراته، غالبًا ما تكون الأقرب للصواب والأكثر تحقيقًا للإنجازات كونها الوليد الشرعي لتفاصيل الواقع المعاصر بمكوناته المعقدة والمتجددة بتسارع يصعب ملاحقته. تميل بعض العقول في أسلوبها للتشكيك والنقد الإيجابي وعدم التسليم بما قد يعتقده البعض بديهيات أو مسلمات لا يمكن المساس بها فتحرك بذلك رواكد الأفكار والعادات وتعيد تشكيل البنى والهياكل بما يتناسب مع تغيرات الزمان والثقافة وتمضي بها نحو التأقلم مع الواقع المتغير. هذه النقطة بحاجة إلى إدراكها من قبل الجيل القديم عندما يختلف مع الجيل الصاعد، وخاصة تلك التحديات الفكرية والثقافية والتقنية التي تحصل نتيجة الاحتكاك بين الآباء والأبناء. على الأبناء – دون ريب – الاستماع والإفادة من مخزون الحكمة والخبرة الذي راكمته الأيام والتجارب لدى الآباء، ولكن في الوقت نفسه على الآباء الاستماع والإفادة من فائض المعرفة والطموح واحترام هامش الحرية الكبير الذي أتاحه العصر لدى الأبناء.
يمكن تشبيه أصحاب العقل التقليدي الكلاسيكي بركاب القطار، وأصحاب العقل الناقد المرن التجديدي بسائق السيارة الخاصة. لا يمكن لراكب القطار أن يحرف مساره أو يصحح وجهته وربما لا يرغب بذلك، هو مستسلم تمامًا للحدود التي رسمتها له سكة الحديد، ومضطر للقبول بمساره وسرعة حركته ومنتهى هدفه دون اعتراض، الخيار الوحيد الذي يمتلكه لو تعارضت وجهته مع مسار القطار أو شعر بأنه مقيد بقضبان السكة الحديدية التي تحكم مسلكه هو النزول في إحدى المحطات والمتابعة سيرًا على الأقدام أو ربما أخذ سيارة خاصة تكمل له رحلته.
أما سائق السيارة الخاصة فهو الذي يحدد وجهة المركبة وسرعتها والطريق الأقصر للوصول إلى هدفه. إنه يمتلك من المرونة والخيارات البديلة ما يتيح له الوصول إلى هدفه بعدة مسالك يختار أنسبها له، لكنه في الوقت ذاته مضطر للتركيز الشديد خوفًا من أن يصطدم بغيره أو يضل الطريق ويبتعد عن الهدف، ومضطر لتجربة المسالك المختلفة والتعرض لتعرجاتها ومطباتها ريثما ينجح بمعرفة الطريق الأسرع والأسهل، على عكس نظيره راكب القطار الذي يمكنه أن يقضي وقته بالتأمل أو القراءة أو احتساء كوب من الشاي خلال رحلته. كما أن ركوب القطار أكثر أمانًا وأقل عرضة للضياع وأسرع وصولًا أوقات الزحام كونه يسير ضمن مسار خاص به، لكنه في المقابل ممل ورتيب لتكرار ذات المشاهد والمناظر والمحطات التي يعاينها الإنسان كل يوم.
ما أود قوله: أن لكل جيل (ولكل إنسان) ثقافة ورؤية للحياة والكون، وأن مستجدات العصر أتاحت للجيل الصاعد أدوات مكنت المهتمين منهم بامتلاك مساحة من الوعي والإدراك والمعرفة في بعض القضايا ربما يفتقر إليها الجيل السابق، ولكل فكرة ما يدعمها وما يضعفها، ولكل رؤية إيجابياتها وسلبياتها. هل هذا يعني أن يترك الآباء أبناءهم دون ضوابط أو توجيه؟ قطعًا لا. ولكنه يعني أن لا تكون صلبًا ومغرورًا إلى الحد الذي ترفض معه الاستماع إلى وجهة نظر أبنائك أو أقرانهم وأن يكون لديك الاستعداد لقبول تفوقهم عليك في بعض المجالات ورجحان رأيهم على رأيك في بعض المسائل، وأن يكون الحزم مرتبطًا بالقضايا التي لا تتغير مع الزمن، أقصد الأخلاق والقيم وثوابت الدين.
لا أريد أن أبدي انحيازًا تجاه طرف دون آخر خاصة أنني بت محسوبًا على الجيل القديم لكن المنطق يقول أن المزج بين خبرة القديم ومهارة الجديد، بين ميل القديم للأمان وميل الجديد للمغامرة، بين حكمة القديم وطموح الجديد، بين الجدار القيمي والأخلاقي الذي يستند إليه القديم والأفق الحر الجامح الذي يتطلع إليه الجديد ربما ينتج نوعًا من التوازن يساعد الجيل الصاعد على أن يعيش واقعه ويحقق أهدافه ويلبي طموحاته دون أن يغير هويته ويقتلع جذوره ويفقد توازنه.
المصدر: اشراق