الربيع العربي بين الحداثة والحداثة المتأخرة

د. أحمد سامر العش

كم هو جميل عندما نقرأ للفلاسفة وعلماء الاجتماع الغربيين، ولكن الأجملَ عندما نسقط نظرياتِهم على مجتمعاتنا، علَّنا نظفر بأداة تشخيصية أو جرعةٍ علاجية تخرجنا من مستنقع الواقع الذي يعيشه العالم عامة وعناقيدنا الاجتماعية خاصة.

في أحدث إصدارات الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) حول ماهيةِ الحياة الجيدة، يقدم  هارتموت إجابته من خلال كتابه Résonance ومعناه «التخاطر»، الذي يأتي بعد كتابه السابق «acceleration- التسريع»، الذي قدم من خلاله تحليلاً نقدياً للحداثة. يقول هارتموت في كتابه الجديد :”المجتمعات الحديثة لا تستطيع الاستمرار إلا بتسريع الحركات التي تُميزها وعلى الأخص التجديد والنمو. وهذه المرحلة كانت قد بدأت وما زالت منذ عام 1980″.

وبخصوص المفكرين الذين بادروا إلى تأسيس حركة «SLOW» التي دعت إلى التمهل والتباطؤ في أنماط حياتنا من خلال معارضة التسريع، يجيب روزا بأنه لا يريد أن يظهر على النحو المدافع عن الحركة  لسببين: أولاً، لأن هذا التيار يجذب الكثير من السياسيين المحافظين (اليمنيين الصاعدين بقوة هذه الأيام في الغرب) الذين يريدون منح الناس وقتاً أطول، ولكنهم في الوقت نفسه يدعمون المنافسة والنمو. وهو يجد هذا الموقف غيرَ مقنع وغير منطقي، إذ لا يمكننا منحُ الناس وقتاً أطول في حين نطلب منهم المنافسةَ والنمو السريع في الوقت نفسِه. وثانياً، إن التباطؤ غير مقبول وإن الناس لا يطلبون التباطؤ بل يطلبون علاقة أخرى مع العالم تعطيهم السكينة التي يفتقدونها.

في مجتمعاتنا العربية نجد حركة التسريع موجودة بقوة في مختلف زوايا حياتنا؛ فصناعة المتعة (مثل Netflix والمنافسات الرياضة، والسفر…)، والنمط الغذائي العابر للثقافات، و انعكاسات التضخم العالمي، وتغيرات السلوك والأنماط الاجتماعية التي جاءت مع تسونامي وسائل التواصل الاجتماعي، هي تعبير جليٌّ عن مفهوم التسريع الذي جاء مع عالم ما بعد الحداثة! لكن المشكلة لدينا تكمن في أن هذا التسارعَ الذي يماثل نظيراته في المجتمعات الغربية لا يوجد له نظيرٌ في الجوانب الاقتصادية وبرامج الرعاية الاجتماعية والتطوير في الحياة والبنى السياسية ومستوى الحريات كما في الغرب، وهنا يقع الفرد العربي أمام حالة تناقضٍ تقتضي منه اتباع إحدى مسارين إلزاميين: إما الانضمام الإلزامي إلى حركة التباطؤ التي لا تعبر عن خيار شخصي بقدر ما تكون بمثابة اعتراض علني على الخيار الثاني، حيث نجد في هذا المسار الحركات الأصولية التي تتمسك بالقشور ولا تتبنى فلسفة عميقة ومتجددة للدين، ولاتتبنى أيضاً حلولاً إبداعية أصيلة وليست مستوردة أو معدلة، أو نجد آخرين متشبثين بالمسار الثاني الذي يجعل متبنيه متماهين مع التناقضات التي تعكس حالة اختلال التوازن بين المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية التي تكاد تكون معولمةً ومتقاربة من جهة، وبين الانهيار المتسارع في مستوى الدخل الفردي والحريات والحياة السياسية من جهة أخرى. وفي كلا المسارين فإن الفرد العربي والمسلم يصيبه نوعٌ من تشظي الشخصية الذي لا نكاد نجده في المجتمعات الغربية إلا لدى المهاجرين والأقليات المضطهدة والتي تنعكس في انفجارات غير متوقعة البداية والنهاية كما حدث مع حركة حياة السود مهمة 2011 ويحدث الآن في أحداث فرنسا الأخيرة 2023!

في ثورات الربيع العربي تبنت تلك الثوراتُ من حيث لا تدري نظرية كارل ماركس التي تجعل من الصراع الطبقي منطلقاً  ودافعاً للتغيير، والصراع هنا ليس بين طبقات اجتماعية ولكن بين الدولة الفاسدة ومن يدورون في فلكها من المستفيدين وبين عامة الشعب المحروم من الجانبين الاقتصادي تحت بند الفقر والجانب السياسي تحت عنوان القهر والاستبداد: فكانت الشعارات تبدو مشتركة ومتقاربة بين تلك الثورات: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. لكن لم يُعر الثوارُ اهتماماً  يذكر للصراع بين نمطي التسريع والتباطؤ الذي أشار إليه هارتموت، والذي استغله أعداءُ الثورات لشق صفوف المجتمع والثوار، من خلال أسلمة الثورات وتحويل الصراع إلى تلك الساحة، لأن أعداءنا أدركوا نقطة ضعف الثوار وتناقضات مجتمعاتنا!

هارتموت روزا يعارض كارل ماركس في تلك النقطة، ويعتقد أن كارل ماركس اهتم بالبنى الاجتماعية وأهمل الأفراد و الجانب الذاتي والثقافي في التغيير الاجتماعي، وتناسى الدوافع والمشاعر التي تدفعنا إلى الفعل. فإذا أردنا فهم كيف يعمل النظام يجب علينا الأخذ بعين الاعتبار الرغبات والمشاعر والوعود التي تدفع الناس إلى الدخول في لعبة التغيير. ويعتبر روزا أن ماركس في مخطوطات عام 1844 كان أقرب إلى هذه الاعتبارات ثم انحرف عنها لاحقاً. ويقول روزا: إنه على خلاف آخر مع ماركس، حيث إنه لا يعتقد أن الصراع الطبقي يستطيع تغيير النظام، وذلك لأن هذا الصراع هو جزء من النظام. إذن هو لا يؤيد تأملات ماركس حول البنى الاجتماعية وحول الصراع الطبقي.

على جانب آخر ، نجد بيتر تورشين Peter Turchin في كتابه الأحدث :نهاية الأزمنة: النخب والنخب المضادة ومسار التفكك السياسي–الصادر عام 2023، والذي جادل فيه بأن الرياضيات المعقدة لا يمكنها أن تمدنا بأدوات تفسّر الانعطافات التاريخية فحسب؛ بل قد تساعدنا كذلك على تأجيلها أو تجنبها. في هذا الكتاب يزعم بيتر تورشين  بأن اجتماع أربعة عوامل -يمكن نمذجتها رياضيّاً- يجعل من احتمال حدوث انهيار اجتماعي كبير أمراً مرجحاً وهي: التفاوت المتزايد بسرعة في الثروة والأجور، والإفراط في إنتاج النخب من أبناء الأسر الحاكمة الغنية، والخريجين الحاصلين على شهادات عليا، ووفرة المعلقين الاجتماعيين المحبطين، و النمو غير المنضبط في الدّين العام. حيث تبدو العوامل الأربعة الأكثر نضجًا في بلادنا العربية مقارنة مع باقي دول العالم !

بحوث بيتر تورشين  Peter Turchin تشير أيضاً إلى انقسام النخب مع صعود المجتمعات إلى مكونات أربعة: عسكريّة، وماليّة، وبيروقراطيّة، وآيديولوجيّة (من ضمنها الدينية)، تتنافس فيما بينها على حجم محدود من الامتيازات والمكانة وبشكل دائم. ومع تصاعد عوامل عدم الاستقرار الأخرى يهتز التوازن الهش لهذه المكونات النخبويّة، وتنشأ بينها سلسلة صراعات على شكل حروب أهليّة أو ثقافيّة، تقود المجتمع للانهيار. أي أن قصر نظر مكونات النخب قد يمنعها من التفاهم على صيغ تعيد التوازن الاجتماعي إلى حد أدنى.

بيتر تورشين  يرى أن المجتمعات البشرية المعقدة بحاجة إلى النخب -الحكام والإداريين وقادة الفكر ورجال الأعمال– كي تتمكن من الازدهار والتقدّم، ولذلك فالتخلّص منهم لا يحقق «اليوتوبيا» الموعودة، والحل الأنجع -بحسب رأيه-ربما يكون في تقييدها للعمل لصالح المجتمع كله. أما كيف يمكن تحقيق ذلك، فإن (سيشات-قاعدة البيانات التي يعمل على تأسيسها) لا تتوفر حتى الآن على معلومات كافية لتعطينا أي استنتاجات محددة، ما يجنّب تورشين -ولو مؤقتاً-غضب المنتقدين له.

وعلى ما سلف من حديث بيتر تورشين نستنتج أن الحلول قد تأتي من وعي النخب الأربعة في بلادنا لضرورة الاستفادة من فرص البناء أكثر من فرص الهدم والتدمير الممنهج للمجتمعات وهذا ما لا نجده حالياً لدى النخب الأربع في كافة دول الربيع العربي؛ لأن الجميع بنو رصيدهم ومجدهم على استراتيجية الهدم والتوسع الداخلي وليس استراتيجية البناء والتوسع الخارجي، بمعنى آخر أن كلّ فئة بنت مجدها ومساحتها على قاعدة تقليص مساحة الآخرين حتى في حالات زواج المتعة المؤقت بينهم، فعلى سبيل المثال: ليس هناك مالٌ أو ثروة في بلداننا العربية لا يرتبط بالسياسة بشكل مباشر أو غير مباشر، كذلك الأجسام الدينية بنيت على التنافس فيما بينها في المدارس والحلقات المختلفة داخل المسجد الواحد، ومن هنا لابد لنا من إعادة حساباتنا في هذه الزاوية.

إذن النظم الغربية بحسب هارتموت روزا، لا يمكن تسميتها ما بعد – الحداثة؛ وذلك لأن خصائص الحداثة تبقى وتتجذّر. لذلك هو يسمي هذه المرحلة «الحداثة المتأخرة» المتميزة عن الحداثة التقليدية. ولكن كيف تظهر هذه «الحداثة المتأخرة»؟ يمكننا ملاحظة الحداثة المتأخرة بالغرب في الحياة  اليومية مع الإصلاحات السياسية، على سبيل المثال كما في تعديل قانون سن التقاعد في فرنسا، والتعديلات القضائية في إسرائيل، وسياسات التقشف في بريطانيا وقريبا في ألمانيا وسابقا في اليونان. ولكن الإصلاحات الجارية لم تعد مبررة بإرادة الحصول على عالم أفضل بل خوفاً من التهديد بعدم القدرة على حماية النظام الاقتصادي القائم. إذن، اليوم، أصبحت الحاجة إلى التسريع ملزمة وليست وعداً بمستقبل أفضل. ويمكننا الانتباه إلى هذا التغيير على المستوى الفردي. ففي الحداثة التقليدية تتغير شروط الحياة من جيل إلى آخر، ولكن في الحداثة المتقدمة فإن حالات التغيير تصبح عابرة للأجيال. بالنسبة إلى الفرد ذاته فإن العالم الذي كان يعرفه بالأمس يمكن أن يصبح مختلفاً في اليوم التالي. ومن مخاطرات الحداثة المتأخرة، يضيف روزا، ظاهرة الاستلاب التي تساهم في فقدان القدرة على امتلاك الأشياء، حيث نكون متصلين مع العالم بطريقة خاصة بحيث تبدو علاقة غير حقيقية. على سبيل المثال، أنا أعمل ولكن عملي لا يعني لي شيئاً؛ فإذا كنت على علاقة مع أي شخص أو مع أي شيء آخر، فإن ذلك لا يعني لي شيئاً ولا أحصل من ذلك على أي لذة أو متعة شخصية. وهذا لا يسمح لي بالاكتمال أو الوصول إلى تحقيق الذات. وهذا ما يسميه ماركس بالاستلاب، وماكس فيبر يسميه علاقة خائبة، وألبير كامو يسميه بالغربة عندما يظهر لنا العالم عدائياً أو لامبالياً. وهذا هو تعريف الاستلاب.

اللامبالاة أو شعور الاستلاب التي بدأت تتملك إنسان الحداثة المتأخرة الغربي، هي حالة الإنسان العربي في عصري الحداثة التقليدية والحداثة المتأخرة، والتعديلات التي سوف تشهدها قريباً نظم الحكم في دولنا لن تكون مبررة بإرادة الحصول على دول أفضل أو إنسان عربي أكثر حرية بل خوفاً من التهديد بعدم القدرة على حماية النظام السياسي المدعوم غربياً، وهذا لن يتأتى إلا بتحطيم وتشريد أكبر للمجتمعات، وهذا بالفعل ما تفعله العقوبات على النظام السوري وتفعله هيئة الترفيه السعودية و سياسة الإغراق بالديون في مصر والحرب الأهلية في السودان وليبيا، وسياسات قيس سعيد وتبون الإقصائية! وسياسات هدر الثروة في دول الخليج تحت عناوين مختلفة!

الغرب سيشهد مزيداً من العزلة الفردية والشرق سيشهد مزيداً من الاضطهاد الجماعي، ولن تستعيد البشرية رشدها إلا بهزات أعنف من التي سبقتها! والله المستعان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى