بعد عدة سنوات من حكم نظام البعث ووصول آل أسد لدفة الحكم ولتاريخ اليوم الكل يتحدث عن الفساد الذي دفع الشعب السوري الى حراكه مطالباً بحقوقه البسيطة وهي قمع هذه الظاهرة التي باتت المرض الذي سيقضي على سورية اليوم وسورية الغد، بعد أن دمر ما دمر من تاريخها وقيمها الخلقية، والشيء الذي يستحق الحديث عنه هو كيف استطاع هذا النظام بث سمه بكل طبقات المجتمع السوري مستعيناً بذلك تارة على المال وتارة على الحاجة للوساطات وما الى ذلك، منها ضعف النفوس.
لكي نستطيع الاقتراب من هذا المرض يتوجب علينا كخطوة أولى تقسيم مرافق الدولة لعدة أقسام ونتابع على اساسها كيف تغلل الفساد في شبكاتها العنكبوتية كالفيروس بجهاز الحاسوب المربوط بشبكة متكاملة بشركة ما , ولنبدأ في هذه الحالة في قسم الجيش الذي من خلاله استطاع النظام استلام دفة الحكم , ولتفادي طول الكلام الكل يعرف جيداً كيف استطاع حافظ الوصول والترقي بالجيش حتى تمكن بانقلابه الهيمنة الكاملة على قيادة جميع مرافق الجيش بعد أن زرع اعوانه بقيادات الفرق والمراكز القيادية التي تعتبر ذات حساسية خاصة ومقدرة خاصة على التحكم بالقرار وقمع اي تحرك معادي من اي جهة كانت , ولكي نكون متفهمين اكثر يجب ان لا ننسى أننا وراء اعطائه تلك الفرصة ، حيث بإبعادنا اولادنا عن الجيش وعمل المستحيل كي لا يؤدون حتى الخدمة الإلزامية , فما بالكم بالتطوع الذي فتحت أبوابه للجماعات الموالية لحزب البعث او الطائفة التي حازت على المحفزات للتطوع بكل مرافق الجيش من الأجهزة الأمنية إلى الكليات الحربية ومدارس الشرطة أي كل ما يمس بقيادة عسكرية أمنية يستطيع من خلالها الضرب بيد من حديد على كل من يفكر كتفكير فقط عكس ما يخطط له هذا النظام .
تشعبت قوى الجيش حتى أصبحت تتدخل مع أجهزتها الأمنية بكل شاردة وواردة بحياة الفرد , أمن عسكري , أمن جوي , فرع فلسطين , المخابرات الخارجية , ولم يكتفي بذلك بل أعطى الصلاحيات لتلك الأجهزة حتى بات المواطن يعتبر أن إدارة البلاد تعود لأجهزة الأمن والتي بدورها تابعة للجيش وقياداته وكلنا يعلم أن قيادة الجيش مرتبطة بنظام القصر الذي حمى نفسه بفرق خاصة استلم قياداتها أقرب الناس اليه , أو أبرز الشخصيات من طائفته لكي يستطيع اكتساب ولائهم بالوقت ذاته وبلا شك امتدت يده للعشائر والقبائل على مستوى سورية وأدخل منهم ضباط برتب عالية ولكن بسلطات محدودة حيث حجم تلك السلطة فقط بمن يلوز به ومن طائفته واسرته .
المهم من كل ذلك هو الوصول لنقطة أساسية وهي بسط يد السلطة على الدولة من خلال الجيش وبالمرحلة التي تليها التمدد لباقي مكونات الدولة ومؤسساتها كالوزارات ودوائر الدولة ومراكز الاقتصاد والثروة الوطنية , وكبداية راحت وزارة الدفاع تقوم بمعاهدات وعقود وتسليح منذ استلامهم زمام الأمور حتى بات كبار ضباط الجيش سماسرة تجارة السلاح بمنطقة الشرق الاوسط ككل , عبر شعاراتها الرنانة , دولة المقاومة ودولة الممانعة , فلم يعد هناك سلاح واحد يدخل الى المنطقة إلا عبر عملاء سورين لتجار السلاح العالمين , وباتت سفاراتنا تعمل وبكل صراحة مكتب تصدير وثيقة ما يسمى المستفيد الأخير END USER التي يصدرها الملحق العسكري لتتم عملية الالتفاف على الانظمة والقوانين الدولية لصفقات لبعض الدول الممنوع بيعها سلاح , حيث يتم تصدير وثيقة المستفيد الأخير باسم الحكومة السورية وتخرج البضائع مهما كان نوعها على اساس متجه لسورية ولكن بالحقيقة تهبط بسورية لتغادر من جديد باتجاه تلك الدول تحت صيغة وثائق جديدة نظيفة لبضائع بمواصفات أخرى , كقمح أو بصل أو غيره كمثال , وبلا شك هذا لم يكن فقط من أجل المرابح المالية بينما أعطى للنظام قوة بين بعض الدول العربية منها والاجنبية , ويذكر البعض قصة عقد الذي تدخلت بصفقته شخصية سورية من أسرة خدام كوسيط بين المشتري والبائع ( وزارة الدفاع الأكورانية ) وتوجه الوفد الى ( كيف) للتشاور واتمام الصفقة برئاسة ( عماد خدام ابن أخيه لعبد الحليم خدام ) ولسوء الحظ في اليوم التالي ولسبب مجهول تغير وزير الدفاع الأوكراني وفشلت الصفقة التي كان من المفروض انهائها بهذه الرحلة لصالح دولة عربية بواسطه سورية بإمتياز عبر وثائق ومستندات مصدرة باسم الحكومة السورية , وهكذ تنوعت نشاطات تلك الشبكة عبر وزارة الدفاع والسفارات والملحقين العسكرين , وأريد أن أعفي القارئ من موضوع الرشاوي التي كان يتقاضها الضباط لإعفاء عساكرهم من التواجد بالقطعات , أو كيف يتم تكليفهم بمهمات بمزارعهم لعمليات الحصاد والفلاحة والعمل بالأرض مجاناً وحتى تحويلهم لخدمة الأسرة والأقارب وبالحقيقة كم تكلف شهريا كل عسكري خدمته الإلزامية للوطن , وكيف أن أكثر سماسرة تلك العمليات هم زوجات وأمهات هؤلاء الضباط , مما خلق جرثومة فساد بالمؤسسة العسكرية لا مثيل لها , أما القصة التي يتوجب سردها هي قصة صداري ضد الرصاص , سعت المؤسسة العسكرية للحصول عليها ( 18 الف قطعة ) لتزويد قوتها العسكرية وفي تلك الفترة كانت اشهرها الصناعة الفرنسية , وعبر مندوب معتمد من قبلهم وصل باريس .
تم التوصل الى الشركة الفرنسية وبعد التجارب والتأكد من جودة (الكفلار) قام صاحب الشركة الفرنسية بزيارة دمشق عدة مرات للقيام بالتجارب المباشرة على الصدرية والاتفاق على الصفقة ليأتي خبر من دمشق أن الصفقة فشلت ورست في الأخير على شركة إنكليزية يملك رفعت الاسد 30% من أسهمها، مما يثبت أن المؤسسة العسكرية كانت مكتب تجاري يملكه المقربون من آل أسد وكبار ضباط هذه المؤسسة وأن الاستثناءات هي سيدة القرار، وكلنا يعلم أن أكبر عدو القوانين الادارية هي الاستثناءات.
لم أتحدث بعد عن الفساد ضمن المنظومة العسكرية داخل البلد والسبب أنه أردت أن أوضح كيف تمكنت المؤسسة العسكرية فرض وجودها خارجياً قبل فرضه داخلياً , أما بالداخل فالموضوع لا يبعد مطلقا عما هو بالخارج , تشعبت قوة المؤسسة من قوى عسكرية مهامها حماية الوطن إلى مؤسسة تجارية صناعية خدمية , وراح النظام يدعم فكرة الهيمنة عبرها على المرافق كتصنيع الحديد وتصنيع مستلزمات منزلية يومية وانشاء وإعمار وبناء الجسور والسدود عبر مؤسسة الاسكان العسكري التي باتت المؤسسة الأولى الانتاجية بالوطن حتى صارت قوى الجيش تهتم بصناعة الخزن والمدافئ والتجهيزات المكتبية , وبذلك استطاع امتصاص اليد العاملة ومودة وولاء اغلبية الطبقات , الجامعية المهنية وحتى الطبية , كونه راح يدفع أضعاف الرواتب المتعامل بها بالوطن , ولكن هنا يأتي دور الأمن العسكري , وهنا يأتي دور الفساد , فكان الموظف البسيط بطريقة أو أخرى يتم تشجيعه على الرشوة وحثه على التعامل بها من جراء الحاجة والرغبة , وحتى الضغط عليه أو التخلص منه بهذا المركز , وتم تشكيل اضبارة لكل موظف ويستطيع الامن العسكري إخراجها ساعة الحاجة لشد إذن هذا الموظف أو التخلص منه بتلبيسه تهمة أكبر منه وإحالته للجهات المختصة التي تم انشائها لهذا الغرض وتعرف من البداية ماذا يجب أن يصدر بحقه كحكم , علماً أن الأمر لا يخلو من التنافس فيما بينهم , فقصة محمد دوبا مدير مصفاة بانياس , الأخ اللزم لعلي دوبا رئيس المخابرات العامة ووليد خدام الأخ الصغير لعبد الحليم خدام الذي كان يسعى لاستلام إدارة مصفاة بانياس كونه الموظف الأقدر والأقدم بها ولوضع حد لهذا النزاع قرر عبد الحليم خدام اختلاق مركز لأخيه بسفارة سورية بباريس كمندوب عمالي مع راتب شهري لا يحلم به ولا أفضل موظف بالسفارة إضافة إلى ميزانية 500 الف فرنك فرنسي سنوي بذاك الوقت كمصاريف ونثريات لاجتماعاته مع النقابات العمالية بباريس , علماً أن وليد خدام لم يكن ينطق ولا كلمة واحدة فرنسي , من ثم تم تسليمه إدارة مكتب شركة الطيران العربية السورية بباريس .
أما عن دور فروع الأمن ونشاطها بالمجتمع ككل , وأعتقد لا يخفى على أصغر مواطن ماذا يعني عنصر أمن وما هو دوره بالمجتمع , فإذا بحثنا عن التفسير المنطقي لهذا العنصر لوجدنا أن دوره هو حماية أمن الوطن والمواطنين , لكن بواقع الأمر أصبح الخوف من هؤلاء العناصر أكبر من الخوف من أي عدو خارجي , حيث وصلت سلطتهم لدرجة أنهم قادرين على اخفاء انسان نهائيا من الحياة , وبلا شك هذا الموضوع ليس بتصرف خاص منهم بل بتوجيه من قياداتهم حتى يعم الرعب وتصبح الآلة الأمنية هي القائدة وصاحبة القرار بالوطن , وهذا الشيء لا يمكن أن يسير من تلقاء ذاته إذا لم يتغلغل عبر المناطق والأسر والنقاط الحساسة بالمجتمع ولكي يصلوا الى تلك النقاط كان الفساد والرشوة وخلق الحاجة لدعمهم ووساطاتهم هي الطريق الوحيد لذلك , فبات الفساد ضرورة لأغلبية الطبقات الاجتماعية ووسيلة لتكملة مسيرة الحياة , مما خلق شبكة مافيا محلية للوساطات وتسير الأمور منها بالدفع ومنها عبر الخدمات ومنها عبر التجسس على رؤسائهم وأرباب عملهم حتى باتت أي وظيفة أو معاملة بدوائر الدولة تعبر عن طريقهم ووصلت مواصيلهم مشاركة التاجر والصناعي والحرفي بعمله , والأساليب كثيرة لتوقيف أي معاملة إدارية واللجوء اليهم لحلها أو تسيرها , وأذكر تماما جملة قالها لي صديق أول وصولي لحلب ورغبتي بالعمل وأفهمني اياها بكل بساطه ( أخي بدك شغلك يمشي , تحتاج الى واحدة من الثلاثة , أما جيوب تدفع , نجوم تلمع , أو سيقان ترفع ) مع اعتذاري على الاصطلاح ولكن فعلا يعبر عن واقع مخزي , أما هيمنة الفروع بأنواعها وأشكالها , صارت صاحبة القرار الصناعي التجاري والإداري بالبلد وباتت الآمر الناهي , حتى تراخيص الزواج كانت تعبر بفروع الأمن , وقادرين على معرفة ما نأكله قبل أن نبدأ بأكله , ولكن غفل عليهم كيف دخل الارهاب إلى سورية وكيف عبر الحدود , ويمكنني أن أفهم ذلك كون الضباط والأمنيون كانوا منشغلين بمشاركة التاجر بتجارته والصناعي بصناعته والعشيق بآخر أخبار عشيقته , أما الأمن الوطني فهذا لا يعنيهم مطلقا بل يعملون على إفساده ليتمكنوا من بسط السلطة والحفاظ على مقدراتهم , ويتبين لنا من كل ذلك أن الفساد في المجتمع السوري كان مخطط مرسوم حتى كما قلت يصبح ضرورة وليس فقط وسيلة وبموجبه يتحكم النظام بكافة طبقات المجتمع وبجميع موارده عبر المنظومة التي سأطلق عليها اسم منظومة الفساد لإدارة البلاد .