تحرص المعارضة السورية بكل أطرافها على اظهار العقلانية والتحضر في مواقفها وعلاقاتها مع العالم الخارجي , وتتحاشى ردود الافعال الاعتباطية , والدليل الأوضح على هذا السلوك اجماعها تقريبا على التجاوب مع مبادرات روسيا السياسية رغم أنها تحولت دولة غازية ومحتلة , ارتكبت جرائم حرب وابادة بالجملة ,وحرصها على المشاركة في مباجثات ومفاوضات عقيمة كجنيف وآستانا. وينسحب الموقف على علاقات ومواقف المعارضة ازاء الدول والمكونات العربية . ولعل ايران هي الطرف الوحيد الذي اتخذت المعارضة موقفا حاسما منه ردا على سلوكه العدواني غير المحدود تجاه الشعب السوري , وهي محقة في موقفها الذي جاء بعد تجارب عديدة خاضتها بعض الاطراف في بداية الثورة , وخاصة (هيئة التنسيق الوطني) التي استمرت ثلاث سنوات تحاول دفع طهران لاتخاذ موقف أكثر اخلاقية واقل عدائية تجاه الشعب السوري .
هذه العقلانية أحد اسلحتنا الفعالة في صراعنا مع محور الاسد – ايران , ويجب المحافظة عليها وتطويرها لتشمل كل شؤوننا, بما فيها الملفات والعلاقات الداخلية والبينية , مع المكونات السورية الوطنية مهما تفاقمت الاختلافات , وفي مقدمتها المكون الكوردي السوري .
ما يجري الآن في مدينة منبج وبقية مناطق شمال سورية من عفرين الى عامودا , يستدعي تدارك الأسوأ وتجنب الصراع الدموي بين طرفين سوريين يجمعهما أكثر مما يفرقهما , ويقتسمان التاريخ والجغرافية والماء والهواء , واذا استثنينا النزاعات القومية التي ظهرت أخيرا فإن أقرب طرفين اقليميين الى بعضهما عبر الف سنة ونيف هما العرب والكورد , وقد سميتهما مرارا التوأمين الملتصقين , وأي عملية لفصلهما قد تقتلهما أو تضرهما كليهما , بينما تحفظ التفاهمات العقلانية القائمة على وحدة الارث والمصير والمصالح سلامة الطرفين ومصالحهما المشروعة .
لقد تدهورت العلاقات العربية – الكوردية في سورية بعد الثورة , وباتت مهددة بمزيد من التدهور والصراع , ويتحمل حزب الاتحاد الديمقراطي المسؤولية الكبرى عن هذا الصراع نتيجة نزعته الشوفينية العدوانية ومحاولته فرض مشروع قومي أقرب ما يكون الى اليوتوبيا منه الى الواقعي بسبب التداخل السكاني الديمغرافي بين المكونات الثلاثة العرب والكورد والسريان . وأفدح خطأ يمكن أن يقع العرب فيه هو النظر الى الشعب الكوردي باعتباره شعب صالح مسلم الذي بنى شعبيته منذ 2012 على الدعاية التحريضية والعرقية المعادية للعرب , وتأجيج الخلافات والمشاعر الغوغائية . الشعب الكوردي بمكوناته السياسية أكبر وأوسع من أن يحصر بحزب مسلم وميليشياته ومجلس سورية الديمقراطية وحكومته الادارية في القامشلي . والكل يعلم أن غالبية الاحزاب الكوردية تناهض ثقافة وتوجهات الحزب المذكور , وتقترب بدرجات مختلفة من رؤية الأطراف السورية الوطنية , وهي تتعرض لانتهاكات منتظمة من الحزب وقواته منذ اغتيال شهيدنا الخالد مشعل تمو رحمه الله .
إن هذا الخطأ الفادح لا يقل فداحة عن خطأ فئات كوردية تحاسب العرب على سلوكيات داعش والقاعدة , أو تحميلهم المسؤولية عن مظالم نظام البعث طوال خمسين سنة من الحكم الاستبدادي الشمولي . لأن هذه الاطراف نكلت بالعرب قبل أن تنكل الكورد . بل إن حزب مسلم كان دائما وما زال قريبا من نظام الاسد لا على اساس المصالح الانتهازية المؤقتة فقط , بل يتعداها الى تماهي اديولوجي دفع مثقفين كوردا كثيرين لوصف حزب الاتحاد الديمقراطي بحزب البعث الكوردي !
في هذا الوقت بالذات , وأكثر من أي وقت مضى يحتاج السوريون لتفعيل اداة الحوار العقلاني الوطني المعبر على الحرص من الجانبين تجاه بعضهما . وأعتقد أنه لا شيء يمنع من الحوار مع كافة الاطراف الكوردية بل يجب أن يشملها جميعا ليكون مثمرا, بما فيها حزب الاتحاد الديمقراطي ومجلس سورية الديمقراطية بعد وضع ضوابط وطنية , وشروط مسبقة للالتزام بمخرجات الحوار لكيلا يكون مجرد ثرثرة على ضفاف الفرات , ولا بأس أن تتوفر له مظلة وطنية أو عربية أو دولية تأكيدا لجديته , ويمكن أن تشارك فيه قيادة اربيل , انطلاقا من الايمان العميق والالتزام القاطع بأن العلاقات الوطنية بين العرب والكورد دعامة وطنية لحماية سورية وشعبها وأرضها ومستقبلها من صراعات دموية شبه عدمية على الطريقة البوسنية تدمر الطرفين الشقيقين . ولا يفيد الاستقواء بالقوى الاجنبية مهما كانت وعود وعواطف هذه القوى التي سببت أصلا مأساة ومظلومية الامة الكوردية تاريخيا , وما زالت – هذه القوى – لا تفكر إلا بمصالحها الامبريالية, وتبحث عن حلفاء وجنود يحاربون بالوكالة عنها في هذه المنطقة . وإذا كان بعض الكورد يراهن ويبني مشاريعه على وعود روسيا أو أميركا فهم بلا شك واهمون ولا يقرؤون التاريخ جيدا , وعليهم أن يتأكدوا أنه لا روسيا ولا أميركا ستضحي بمصالحها مع تركيا من أجلهم, وأن الدولتين تسعيان لاستعمالهم لحروبهما ومشاريعهما في سورية والمنطقة ثم تتخليان عنهم كما تخلت بريطانيا وفرنسا عنهم قبل قرن . وأما أسوأ أنواع التحالفات اللامبدئية فهي تحالف حزب مسلم وايران ضد الاتراك والسوريين لأنه كتحالف الثور الأبيض مع الاسد . ونفس الأمر ينطبق على التحالف الانتهازي المستمر للأسف بين مسلم ونظام الأسد الذي تأكد مؤخرا بعد تكرار نفيه كذبا ! .
إن الكورد محكومون بالجغرافية , ومجبرون دائما على التعايش مع اشقائهم وجيرانهم العرب والاتراك , ولن ينفعهم العالم كله إذا خسروا أشقاءهم وجيرانهم فهؤلاء أولى بالمعروف .
منذ سنوات وأنا أدعو لانشاء (مجلس للعلاقات العربية – الكوردية – السريانية ) يحصن العلاقات العضوية بين الاشقاء الثلاثة ويكرس الحوار العقلاني ويعمل لمعالجة المشاكل والنزاعات وتوطيد التفاهم الاستراتيجي على اساس الوحدة الوطنية , ويؤسس لتجديد العلاقة الازلية على اسس عصرية وديمقراطية قائمة على تبادل الاحترام والاعتراف بالحقوق وصياغة شراكة ديمقراطية وعلاقة مواطنة .
الوقت تأخر ولكنه لم يفت على إنشاء مثل هذا (المجلس) , والعودة للحوار الوطني بين المكونات الثلاثة .
======================
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية , العدد 365 الصادر في 10 – 3 – 2017 .. ولذا اقتضى التنويه .