عام 1978 كتب فاكلاف هافل مقالة شهيرة من 80 صفحةً حول الوضع السياسيِّ في تشيكوسلوفاكيا أساساً، لكنْها تنطبق أيضاً على بلدان أخرى قاسمها المشترك الاستبداد والقهر. مقالته المُعنْوَنة «قوّة الذين لا قوّة لهم» تسبّبت بسوقه إلى السجن، لكنّها بعد عشرِ سنواتٍ أخرى كانت أحدَ أسباب تولّيه رئاسة الجمهوريّة في دولة التشيك بين عام 1989 إلى عام 2003.
لقد انطلق هافل من سؤاله حول مدى ما يمكن للمجتمع أن يحرزَه من سلطة وقوّة في ظلّ نظام توليتاري كالنظام القائم آنذاك في التشيك. وكشعب محروم من الدفاع عن حقوقه، سأل هافل عن مفهوم القوّة لدى هؤلاء المسحوقين تحت نظام دعاه بمصطلح “ما بعد -التوليتارية”: فما الذي تعنيه بالضبط المعارضة لنظام كهذا؟ ماذا تفعل؟ أيُّ دور تلعبه في المجتمع؟ وعلى ماذا تستند؟ ولا تلبث أسئلته أن تقوده إلى استنتاج مفادُه ضرورة قيام مَن لا قوّة لهم بفحص طبيعة السلطة التي يعملون في ظلّها.
تؤدّي الديكتاتورية بحسب هافل إلى القمع والخوف، ولكنْها تؤدي أيضاً إلى أخطر من ذلك وهو الرقابة الذاتيّة لكل مسحوق على تصرفاته. هكذا، وفي الحدّ الأدنى، يُفرَضُ الصمتُ على السكّان، إلّا أنّ أموراً أخرى قد تُفرَضُ أيضاً ليس من السلطة ولكن من الشعب على ذاته. ولإيضاح قصدِه استخدم الكاتب مَثَل بقّال يثبّت في واجهة دكّانه شعار «يا عمّال العالم اتّحدوا». فما الذي يريده البقّال من ذلك؟ هل هو فعلاً متحمّسٌ لوحدة عمّال العالم؟ يجيب هافل بأنّ أغلبيّةَ أصحابِ دكاكين البقالة لا يستخدمون الشعارات التي يُلصقونها بواجهاتهم للتعبير عن آرائهم، بل هم لا يفكّرون في معناها أصلاً. إنّهم يفعلون ذلك لمجرّد أنهم يفعلونه، ولأنّ كلَّ شخص يفعله منذ سنوات، إذ هذه هي الطريقة التي تسير الأمور بموجبها فتُستأنَف الحياةُ الآمنة من دون متاعب واتّهامات.
فإذا كان النظامُ يعيش في كذبة، فارضاً على المواطنين العيش فيها، فإنّ العيش في الحقيقة هو ما يهدِّدُه، إذ يُعَدّ أقوى معارضة لنظام يمنع السياسة.
»العيش في الحقيقة»، في ظلّ نظام من الكذب، يعني أن يكون الإنسان جيّداً، محترماً ولطيفاً ومهتمّاً بالآخرين. وأمرٌ كهذا قد يبدو تبشيراً مسيحيّاً، أو ربّما عديم التأثير، إلاّ أنّ أهميّتَه تنبع من أهميّة بناءِ نُوى جديدةٍ لمجتمع جديد في صلب العلاقات القائمة. مما يجعل حلقات الكذب التي هي أساس استمرار الأنظمة التوليتارية تتحطم كما حصل في حكاية الكاتب الدنماركي كريستيان أندرسون، حيث يحكى أن أحد الملوك خدعه خياطٌ محتال، وأقنعه بأنه سيصنع له ثوباً سحرياً عظيماً لا يراه إلا الحكماء. اقتنع الملك بمهارة الخياط المحتال وخرج على وزرائه عارياً تماماً، وقال لهم:
ــ انظروا…ما رأيكم في هذا الثوب السحري الذي لا يراه إلا الحكماء؟!
بعض الوزراء خافوا من غضب الملك فقالوا:
ــ هذا ثوب عظيم يا مولاي.
وبعض الوزراء كانوا طامعين في عطايا الملك فقالوا:
ــ يا مولانا لم نرَ في حياتنا أجملَ ولا أروع من هذا الثوب…
كان هناك طفل صغير في القاعة، قال ببراءة:
ــ أين هو الثوب الذي تتحدثون عنه؟! إني أرى الملك عارياً.
حاول الوزراء إسكات الطفل بأي طريقة. لكزوه ووبخوه وهددوه لكنه ظلَّ يصيح:
ــ إني أرى الملك عارياً.
عندئذ ضربوه وأخرجوه من القاعة حتى يخلوا لهم الجوُّ مع الملك.
هذه الحكاية التي تناقلتها كتب التراث تحمل معانيَ كثيرة، فالوزراء الذين يخافون من بطش الملك أو يطمعون في عطاياه يتظاهرون بأنهم يرون ثوباً وهمياً ويتجاهلون الحقيقة الساطعة: أن الملك عار. أما الطفلُ البريءُ، فهو لا يريد شيئاً، ولا يخاف من شيء؛ لذلك يقول الحقيقة ويظل مخلصاً لها حتى النهاية مهما يكن الثمن… عندما خرج نيكولاي تشاوتشيسكو على الجمهور من شرفة قصره، كانت تكفي صيحةٌ واحدة تصدح بالحق -كصيحة الطفل – لتنتشرَ كالنار في الهشيم؛ فيُرمى تشاوشيسكو بالأحذية، وهو في حالة ذهول كيف تكسرت حلقات الكذب التي بناها لسنوات ودفع في سبيلها مقدرات الدولة الرومانية على حساب افقار الشعب!
لكنّ اختيارَ العيشِ في الحقيقة لا يمرُّ من دون مصاعب. وأوّلُ المصاعب تلك أنّ ما يبدأ أداءً جيّداً للعمل واحتراماً لأخلاقيّة المهنة قد ينتهي اتّهاماً بالعداء للنظام وللمجتمع. لكنْ يبقى للمواطن أن يختار: هل يبقى مقيماً في الأكاذيب أم يعيش في الحقيقة مع ما يرافق ذلك من تضحيات؟ وتفضيل الخيار الثاني هو ما يعلن عن وجود سلطة ذاك المواطن المحروم من السلطة والقوّة!
مما سبق ندرك أن أهمَّ سلاح للثائرين في أي زمان ومكان هو الحقيقة التي تحطم حلقات الكذب والالتفاف فوق الحقيقة التي يكون الشعب ناشرها الأقوى أكثر من النظام التوليتاري أو ما بعد التوليتاري كما شخصه هافل، وعليه نقول: إن مقياس الصدق أهمُّ مقياس في تحليل وقياس ثورية أيِّ مؤسسة أو شخص. وبناءً عليه يبدو واقع ثورات الربيع العربي ومن يتصدرون المشهد أبعد ما يكون ويكونون عن الصدق وتعرية الحقيقة، لذلك علينا أن ندرك الخط الذي يفصل الثائر عن المتسلق وطالب السلطة، ألا وهو قدرته على الصدح بالحق والحقيقة كما هي دون أقنعة تجميلية، أما البراغماتية وسياسة خطوة بخطوة التي كانت فيروساً أصاب معظم الثائرين وقبلهم الأجسام والمؤسسات الدينية ورجالاتها منذ زمن بعيد إلا من رحم ربي، فيمكن أن يدعي صاحبُها العبقرية والحنكة والدهاء السياسي، ولكن حذاري أن يدعيَ الثورية أو الالتزام بتعاليم الإسلام أو نصرة المظلوم !
في رواية “اللعبة القاتلة” للمسرحي والروائي والناقد السويسري فردريش دورنمات يقول الكاتب: “جمال الجريمة أمرٌ ضروريٌّ جدًّا لجمال العدالة…(فـ) ليس ثمة عدالةٌ بلا جريمة”، قد نختلف مع الكاتب أنه ليس هنالك شيءٌ اسمُه جريمة جميلة، لكن الحقيقة أن الكذب والنفاق الذي أصبح الديدن في ثورات الربيع العربي هو أقبحُ جريمة، وتعرية الكذابين والمنافقين هو أجملُ عدالة وهو الخطوة الأولى لدحر القهر ونيل الحرية لتلك الشعوب.