لا يتردّد نظام الأسد في الرضوخ والتنازل عن أي شيء، ولأيّ جهة أو طرف كان، إن كان ذلك يخدم بقاءه واستمراره في السلطة، وبالمقابل فإن لديه كامل القناعة والاستعداد للوقوف أمام العالم أجمع ومحاربة الجميع حتى آخر رمق في كيانه إن كانت هذه المواجهة من أجل البقاء في السلطة.
لا يجري هذا الكلام في سياق التأويل أو التكهّن أو الاستنباطات، بل هذه حقائق وإن لم تكن تحمل السمات العامة للحقائق العلمية، إلّا أن شدّة نصوعها الواقعي وحسّية التجربة كفيلة أن تجعل منها حقيقة لا تقل مصداقية عن الحقائق العلمية الأخرى. ولعل الناظر لما جرى ويجري في سوريا منذ عام 2011 وحتى الآن يدرك أن روسيا أصبحت هي الممسك الأقوى بمقدرات البلاد الاقتصادية وكذلك هي المتحكم الفعلي بالثروات السورية عامة، ولن يكون هذا الاستملاك الروسي لسورية حالة مؤقتة فرضتها حاجة النظام وسوف تنتهي بانقضاء هذه الحاجة فحسب، بل ستمتد إلى عقود زمنية مقبلة، ذلك أن معظم العقود التي أبرمها نظام الأسد مع روسيا، كمنح الروس امتياز التنقيب عن الفوسفات أو منح الروس حق استثمار الموانئ، هي تفاهمات تمتد إلى خمسين سنة مقبلة وفقاً لما هو مثبت في الوثائق التي وقعها الطرفان.
ولا شكّ في أن هذا السخاء الأسدي يقابله تعهّد روسي بالحفاظ على رأس بشار الأسد واستمراره حاكماً على البلاد السورية، وبالفعل فقد أخلص بوتين لمصالحه حين أخلص بالدفاع عن الأسد والوقوف أمام المجتمع الدولي بكل صلف ووقاحة للدفاع عن حاكم قاتل، سواء كان هذا الإخلاص في الجانب العسكري الميداني أو الجانب السياسي أو في الاستبسال بالدفاع عن النظام في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
بالطبع كان يمكن لبشار الأسد أن يبقى حاكماً من دون أن يُرهن البلاد السورية لروسيا أو لسواها، ومن دون أن يقدم على تقديم تنازلات بهذه الفداحة، لو أنه فقط قبل بتقديم بعض التنازلات اليسيرة للشعب السوري، وهي بالأحرى ليست تنازلات بل حقوق مشروعة للمواطنين السوريين، ولكن لم يفعل، ولم يكن بمقدوره أن يفعل بحكم ماهية النهج الذي يحكم به البلاد، وتلك إحدى المفارقات الكارثية التي فتكت تداعياتها بالشعب السوري وأورثته هذا الخراب الهائل. وما قيل عن ارتهان الأسد للروس يمكن أن يقال عن ارتهانه لإيران، ولو بأشكال أخرى ربما بات يدركها معظم السوريين.
ما استدعى الكلام السابق هو النزوع الشديد لمجمل الفعاليات السياسية السورية والإقليمية نحو تعزيز الوهم بجدوى القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، ليس لأن تلك القرارات ليست ذات قيمة في ذاتها، بل لأنها تحمل عوامل إعدامها في داخلها، أي أنها لا تحمل في طياتها أي عامل من عوامل تجسيدها أو تحقيقها على الواقع الفعلي، وذلك من جهة أن السبيل الوحيد الذي يضمن تنفيذها هو قناعة نظام الأسد وحلفائه بالانصياع لتلك القرارات والالتزام بما تقره المرجعيات الأممية، وإنْ تعذّر ذلك فمن الممكن اللجوء إلى الوصي الرسمي على النظام، أعني روسيا، للضغط على الأسد أو إجباره على الالتزام بالمسار التفاوضي والقبول بمضامين القرارات الأممية، وهذا الوهم الذي تجرّع السوريون تبعاته الموجعة سواء من خلال مسار أستانا أو من خلال اللقاءات العبثية لمسار اللجنة الدستورية، بل ربما كانت درجة الوهم أكثر كارثيةً حين يمضي البعض بالاعتقاد أن رأس النظام في سوريا يساير الروس أو ينصاع لهم بكل ما يريدون، إذ يمكن أن يكون أشدّ طواعية في أي شأن آخر من شؤون البلاد باستثناء التخلّي عن السلطة.
وبالفعل هو لم يقصّر في الطاعة في أي شان، حتى بكرامته الشخصية وأمام الملأ جميعاً حين تعرّض للإهانة المباشرة في أكثر من موقف، ولكن سوف يتحول هذا الخنوع والاستزلام إلى نقيضه من الصلف والاستكبار حين يطول الأمر وجوده على رأس السلطة، فبشار الأسد يرى في نفسه صاحب حق على الروس وعليهم أن يفوا بوعدهم طالما أنهم قبضوا مستحقاتهم كاملةً، وعند هذا الحدّ لن يبقى أي مجال للمساومة، ويبقى أمام بوتين إنْ شاء التخلص من الأسد هو قتله المباشر أو اغتياله فحسب، ولن يفعل ذلك بالطبع، على الأقل في المدى المنظور، طالما أن المصالح الروسية ما تزال توجب الحفاظ على الأسد.
يبقى التساؤل قائماً عن جدوى تكريس الجهود السورية والإقليمية للمطالبة بتنفيذ القرار 2254، علماً أن الجميع يدرك في قرارة ذاته أن المطالبة بتنفيذ القرار المذكور كالنفخ في قربة مثقوبة، ولئن كنا قادرين على تفهم العزف الذي تمارسه الدول العربية الساعية للتطبيع مع الأسد على وتر القرار الدولي 2254 باعتبار هذا العزف غطاء سياسياً لسلوك غير أخلاقي وخاذل لتضحيات وكرامة السوريين، فما هي الدوافع الكامنة وراء مشاركة المعارضات الرسمية السورية بالعزف على الوتر ذاته؟ بل لماذا ترى في المطالبة بتطبيق القرار الأممي سقفاً نهائياً لسيرورة نضالها مع إدراكها ويقينها الضمني بأن مشاركتها هذا العزف لن تؤدي إلّا إلى اتساع ثقب القربة كما يقال؟ هل ارتباطاتها أو ارتهانها للإرادات الإقليمية توجب عليها ذلك؟
المفترض أن الائتلاف وهيئة التفاوض كيانان يتصدران قيادة الثورة السورية، والمنطق يؤكّد أن قيادة الثورات تفكر وتعمل باستمرار على إيجاد وسائل وآليات نضالية جديدة كما تعمل على ابتكار خطط وبرامج متجددة موازية لقدرة الثورات على الابتكار والإبداع، فلماذا تُحجم المعارضة الرسمية السورية عن ذلك وتُؤثر الركون إلى الوصفات الجاهزة؟ هل إيثاراً للراحة والاستنقاع وإعفاء الذات من تبعات أي محاولة للتفكير والعمل، أم حفاظاً على مصالح أخرى؟ هذه التكهنّات لا تحمل في طياتها أي شتيمة أو تشكيك أو اتهام، ولكن من حق السوريين تكرار طرحها حتى تجيب المعارضة ذاتها عن تلك الأسئلة بوضوح يقنع الآخرين، وخارج أُطر التبرير المستهلكة والتقليدية، لتقطع الظن باليقين.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا