تتوالى اجتماعات الرباعية تباعاً، حيث تلتقي وفود تركيا وموسكو وطهران ودمشق الأسبوع المقبل على هامش اجتماعات أستانا في 20 و21 حزيران / يونيو 2023، على مستوى نواب وزراء الخارجية، في محاولة روسية وعبر خريطة طريق تطبيعية جديدة، لإنتاج تفاهم ما، أو اتفاق ينجز ما عجزت عن إنجازه حتى الآن، كل الاجتماعات التي سبقته في موسكو، لكن المؤشرات الموضوعية تشير إلى ضآلة احتمالات الجدية في الوصول إلى أي تفاهم حقيقي، بالرغم من تنازلات قدمها النظام السوري عبر تصريح أخير لرأس النظام، يؤكد فيه تراجعه عن الإصرار الذي طالما كان ينتجه قبل ذلك، من أن لا اجتماعات ولا رفع لمستوى اللقاء، قبل الشرط المطلوب إعلاميا من قبل النظام السوري بانسحاب كامل القوات التركية من الشمال السوري، أو على الأقل وعود بضمانة روسية لهذا المطلب، حيث تبين عبر التصريحات الأخيرة، أن لا إمكانية في إنجازه مطلقا، في المنظور القريب.
المشهد السوري والإقليمي يشير إلى أن تركيا لم تعد واقعة تحت حمل أو ثقل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث كانت تريد حينذاك الإسراع في تحقيق الاتفاق قبل الانتخابات لتحسين نتائج الاقتراع الانتخابي تماشيًا مع المزاج الشعبي التركي العام المتعلق بعودة اللاجئين السوريين، وتوقيع الاتفاق الذي يُفضي إلى ذلك، مع حماية الأمن القومي التركي من عصابات الـ (ب ك ك) المنتشرة شمال شرقي سوريا، أما اليوم وقد عَبَرت الحكومة التركية عتبة الانتخابات بسلام، وإلى بر الأمان، فلم تعد واقعة تحت الضغط الانتخابي الذي كان، ولا إمكانية اليوم أبدا للقبول بأي تفاهمات مع النظام السوري، وهي ليست مستعجلة في ذلك، قبل الوصول إلى ضمانات جدية وحقيقية من الدول الراعية (موسكو وطهران)، تلزم النظام السوري بتنفيذ اتفاق يؤدي إلى أهم مسألتين بالنسبة للأتراك وهما العودة الطوعية للاجئين السوريين وإنهاء وجود تنظيمات الـ (ب ك ك) بالقرب من الحدود التركية، والتي ماتزال تقلق راحة الأمن القومي التركي.
وإذا كان النظام السوري قد أضحى منتشيا لما وجده من هرولة تطبيعية مع بعض أركان النظام العربي الرسمي بعد حضوره داخل أروقة جامعة الدول العربية، فإنه يدرك أن الضغط الإيراني عبر التفاهمات الإيرانية السعودية في 10 آذار/ مارس الفائت في الصين، هو الذي أدى إلى ولوجه الجديد في مؤسسات الجامعة العربية، ضمن أجندات تفاهمية مصلحية تريد إيقاف القلق الأمني السعودي من كل ما كان يهدده عبر جماعات الحوثي في اليمن، وعبر التهدديات الأمنية الإيرانية الكبرى لمجمل السياسات السعودية. والنظام السوري يدرك أيضًا أن هذه المسألة غير ممكنة في التعاطي مع الدولة التركية الخارجة من انتخابات مهمة ومفصلية أدت إلى تفويض حكومة العدالة والتنمية والرئاسة التركية لخمس سنوات قادمة، بقوة واقتدار وتجربة ديمقراطية جعلت العيون العالمية شاخصة إلى مصداقية الممارسة الديمقراطية التركية، التي أنتجت انتخابات طالما كان يحلم الشعب السوري بمثلها لديه.
إذا المسألة مختلفة مع الأتراك وغير وارد موضوع المقارنة بين الحالتين، كما أن موسكو ليست في وضع إقليمي سياسي ولا عسكري، بعد حربها في أوكرانيا وغرقها في الوحل الأوكراني يجعلها في حالة ارتياح للضغط الجدي على تركيا، لتحقيق أي تفاهم غير مقتنعة بنتائجه، ولا يوجد ما يشير إلى احتمالات تطبيقه، في سياق وجود دولة سورية فاشلة، وعاجزة عن تنفيذ أي اتفاق مع تركيا يضمن الأمن القومي التركي، شمال شرقي سوريا، وليس من الممكن اليوم إعادة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، في ظل حالة اقتصادية ومعيشية سورية صعبة بل على حافة الهاوية، يستمر فيها التضخم الاقتصادي وهبوط الليرة السورية مقابل الدولار حتى تجاوزت عتبة 9000 ليرة سورية للدولار الواحد، وقلة الحيلة، وفراغ الخزينة السورية، مما جعل النظام السوري يتوسل بطلبه من الروس لأي قرض مالي ينقذه مما هو فيه، بعد أن تمنعت إيران عن إعطائه قروض جديدة، إبان وصول فاتورة قروضها عليه إلى ماينوف عن 30 مليار دولار.
علاوة على أن النظام السوري لم يعد بإمكانه تطبيق أو تنفيذ أي اتفاق يلزم (شمال شرقي سوريا) بأي تطبيق فعلي لإنهاء وجود الحالة الأمنية المقلقة للأتراك هناك، حيث الأمر لم يعد بيده، بل إن ما يمسك بذلك كانت وما تزال الولايات المتحدة الأميركية الممسكة بملف أوضاع قسد بكليته، وهي التي ستجمع دول التحالف قريبًا من أجل الحشد من جديد وراء قسد لإنهاء خلايا داعش كما أشارت تصريحات (بلينكن) في الرياض مؤخرًا.
لعل عجز النظام السوري الكلي والمطلق عن أي إمكانية تطبيقية للالتزام بأي اتفاق، يجعل من الدولة التركية غير متمسكة بتوقيع اتفاق معه قبل الـتأكد من أن هذه الاتفاقات أو التفاهمات سوف تعود عليها بالنفع وتحقيق المصالح التركية، دون الولوج في حرب عسكرية جديدة في الشمال السوري.
وليس ببعيد عن ذلك شلل النظام وعدم مصداقيته أساسا بأي ولوج جدي بالحل السياسي مع المعارضة السورية، وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وهو اليوم يماطل في كل الوعود التي منحها للمفاوض السعودي والعربي قبل عودته إلى الجامعة العربية، ومنها مسألة ومبدأ (الخطوة خطوة) التي تبين أنها (قبض الريح) ولا يوجد احتمالات إنفاذية لتحقيقه، في ظل وجود نظام سوري لا يفهم إلا لغة العسكريتاريا، ولا يؤمن بالحل السياسي أصلًا، ناهيك عن أوضاع المعارضة السورية المتهالكة، والتي لم تستطع حتى الجلوس إلى بعضها في تفاهمات بينية، قبل أن تعقد اجتماع جنيف الأخير لهيئة التفاوض بعد توقف دام أكثر من ثلاث سنوات، وجاء مؤخرًا ضمن طروف إقليمية ودولية لم تعد تسعف في إيجاد حل سياسي عملي في المنظور القريب.
اجتماعات الرباعية بالرغم من التطمينات الروسية، والاشتغال في الكواليس للوصول إلى خريطة طريق تضع الجميع على سكة التحرك نحو الأمام، إلا أنها ووفق كل المؤشرات المحيطة ليس بإمكانها الوصول إلى ممارسة جدية في الإنجاز، وهو ما أشار إليه الروس في أكثر من تصريح، بوضعهم احتمالات البطء وعدم الاستعجال في كنف المتابعين لتحركات هذه الاجتماعات، التي باتت (لزوم ما لا يلزم)، ولم تعد تحت ثقل أي تسارع أو إسراع في عجلتها.
مع الإشارة أيضًا إلى التأكيدات الأميركية والأوروبية على عدم أهمية وضرورة الإسراع بالمصالحة أو إعادة تأهيل وتعويم للنظام السوري، حيث شكك وزير الخارجية الأميركي كثيرًا بمصداقية الموقف أو الوعد السوري لتحقيق وتنفيذ الشروط الموضوعة أمامه عربيًا وتركيا تهيئة للتطبيع معه والمصالحة الجدية والحقيقية. وكذلك فعل الأوروبيون الذين مابرحوا يؤكدون عدم صدقية نظام بشار الأسد الوالغ بدماء السوريين، والذي يطلق الوعود إثر الوعود الكاذبة، دون تحقيق أي منها، خلا مسألة استمراره بالمقتلة الأسدية منذ 12 عاما ونيف.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا