ما هو الهدف الذي ترمي إليه “الإدارة الذاتية” التابعة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من قرارها المفاجئ إطلاق محاكمات علنية لعناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسط عدم إعلان أي دولة دعمها هذه المحاكمات، والتي تأتي بعد سنواتٍ من تغييب أي معلوماتٍ عن التحقيقات الجارية مع تلك العناصر، وهل يمكن ربط التأكيد على “العلنية” بواقع التفاهمات الجديدة بين القيادات الكردية وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، في ملفات تعدّت التجارة البينية إلى الحديث عن جهدٍ يُبذل لتبييض صفحة الهيئة، ونزع صفة الإرهاب الموسومة بها دولياً، خاصة من الولايات المتحدة، الراعي الرسمي للعمليات العسكرية والمدنية للإدارة الذاتية؟
تضعنا المحاكمات المزعومة أمام تساؤلات كثيرة، فهل هي محاكمات تشمل كل الجنسيات، وتراهن على خوف الدول التي ينتمي لها المحتجزون، وهي أكثر من 50 دولة، بينما يزيد عدد المعتقلين عن عشرة آلاف، بينهم مئات من القياديين، وهم موزّعون على أكثر من عشرة سجون رئيسية تديرها “قسد”، وقد تجاهلت هذه الدول في معظمها دعوات “الإدارة الذاتية” إلى استلامهم، وتحمّل مسؤولياتها تجاه مواطنيها، ومحاكمتهم وفق قوانينها المحلية، أي هل هي مجرد استفزاز للدول، أم أنها محاكمات انتقائية تستهدف نزع السرّية عن أدوار دول بعينها، أو بغرض تبرئة دول أخرى من تدخّلها المباشر في رعاية هذا الحراك الإرهابي الذي بقي مجهول الهوية، والذي مثل ثورة مضادة لثورة السوريين، على غرار ما فعلته أيضا هيئة تحرير الشام، والتي يدور الحديث عن توافقات سياسية بينها وبين “الإدارة الذاتية”؟ هل التفاهمات السياسية الجديدة بينهما بغرض ضمان أمن المحاكمات، بعد أن تجاهلت الدول المعنية مد يد العون في هذا الملف، أم أننا أمام خطوة استباقية مشتركة، بين تنظيمات حكم الأمر الواقع المتضرّرة من أي حل شامل يهدف إلى إنهاء الوجود العسكري غير الحكومي في كامل الأرض السورية؟ وهذا ما يسوّقه مشروع المصالحات العربية والتركية مع النظام السوري، ويقتضي إعادة سيطرة النظام السوري على كامل مساحة سورية ما قبل 2011، وضمناً، يعني ذلك إتاحة المجال لحكومة الأسد لتقود حربها ضد التنظيمين العسكريين “قسد” و”هيئة تحرير الشام”، أو أن “قسد” اختارت أن تكون هذه المحاكمات جزءا من توطين مشروعيتها في إنشاء قوانينها ومحاكمها، وتثبيت رؤيتها لشكل سورية واعتماد الفيدرالية السياسية التي تسعى إليها، في مواجهة على جبهتين مع النظام السوري من جهة، والمعارضة من جهة ثانية، واللذيْن يعملان على السعي إلى استنساخ دستور شبه مركزي تحت شعار اللامركزية الإدارية؟
كان “داعش” غامضاً، على عكس السيرة المعروفة للإدارة الذاتية منذ نشأتها عام 2013 في أجزاء من محافظات الحسكة والرقة وحلب ودير الزور، وبرعاية أميركية لتمكين قواتها (قسد) من مهمة الحرب على “داعش”، بعد رفض الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة مع هيئة الأركان التي كانت تتبع له بقيادة سليم إدريس التعاون مع القوات الأميركية، وتنفيذ مخطّط الحرب على داعش فقط، ومروراً ببناء القيادات الكردية تشكيلها على جذور أحزابها ونشاطاتها المحلية أو المتداخلة مع حزب العمال الكردستاني وعلاقتها مع قادة جبال قنديل.
فقد تغطّى نشاط تنظيم داعش في سورية، منذ البداية، بطبقاتٍ من الغموض، كأنه قادم من المجهول، أو من بين صفحات رواية رعب، لم يتناس مخرجها الاهتمام بإكساب أبطال عمله “إكسسوارات الماضي” شكلاً من حيث ملابسه، وخطاباً بلغته، وفعلاً بأساليب تعذيبه، وطرائق قتله ضحاياه التي تتعارض مع القيم الإسلامية، ووحشية ما قبل المدنية والدين، رغم ادّعائهم مهمة إقامة دولة الخلافة الإسلامية. من حيث المبدأ، لا معلومات “موثّقة” عن كيفية تأسيس هذا التنظيم، أو عن داعميه الخارجيين، وآليات عمله، وتوظيفاته، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثر رواية “مرجّحة” أو “متداولة” في هذا الشأن تفيد بأن التنظيم نجم عن التلاقح بين بقايا تنظيم القاعدة، الذين استضافتهم إيران، بعد أن انهارت قواهم في أفغانستان، وبقايا ضباط الجيش العراقي من اللاجئين إلى سورية، أي أن أصابع الاتهام تتّجه، حسب المتداول، إلى الاستخبارات الإيرانية والسورية، بأنها التي صنعت هذا الوحش، الذي تمدّد، وتمرّد على صانعيه، وتشعبت توظيفاته أو استخداماته، من أطراف دولية أخرى.
يفيد ما تقدّم، أيضا، بأن ذلك الغموض المتعمّد شمل تنظيم داعش في المراحل التالية والمتأخرة، التي شهدت صعوده ثم انحساره، وضمنها على الأخص التي تتعلق بالتحقيقات التي جرت مع آلاف من الأسرى، من القياديين والكوادر والأعضاء الموجودين في معتقلاتٍ تشرف عليها “قسد”، فضلاً عن الموجودين في أسر عديد من الأطراف الدوليين والإقليميين، كأن ثمّة إجماعا لا ينقصه رغبة “قسد” أيضاً، التي تقصّدت، خلال كل السنوات التي تلت الاعتقالات، عدم الإفراج عن أي معلومات، بغرض فرض التعتيم على أي خبرٍ يوضح كيفية ظهور هذا التنظيم المتوحش، ولمصلحة من يعمل، وهو الذي فتك بالحراك الشعبي في العراق، وفتك بالثورة السورية، وأثّر سلباً على صورتها في الخارج، وأفاد النظام كثيراً، على نحو مباشرٍ وغير مباشر، كما وطّن التدخّل الخارجي بكل أشكاله، علماً أنّ ذلك التنظيم بات، في معظم مراحله، أداة وظيفية، أخطبوطية، لأطراف إقليمية ودولية عديدة، وحتى إن بعض جماعاته في سورية شغّلتها الدول المتدخلة في الصراع السوري في مواجهة الشعب السوري، وحراكه من أجل الحرية في بعض المناطق.
أكثر قوة على الأرض لديها مصلحة في كشف الغموض عن تنظيم داعش، وإعلان التحقيقات في هذا الشأن كانت “قسد”، التي تأخرت سنوات عن تأدية هذه المهمة، ليأتي إعلانها حالياً عن محاكمات علنية، كأنه يكمل وظيفتها السابقة في أسباب إخفاء المعلومات، وليس بهدف إعلان الحقيقة والحقائق عن هذا التنظيم، التي ربما لها مهمة جديدة في الحرب الدائرة اليوم في أماكن أخرى من العالم. والسؤال: هل سنشهد محاكمات فعلية وبمواصفات ترقى إلى هذه التسمية، أم مجرّد “ريبورتاجات” إعلامية تضعنا من جديد في نفق مظلم، بانتظار إشارة من هذه الدولة أو تلك لإنارته، أو إغراقه بمن فيه؟
بانتظار أن تقوم “قسد” بما عليها في هذا المجال، وشرح أسباب ما منعها من ذلك أو من الذي يمنعها، ولماذا …
المصدر: العربي الجديد