سقط فيها أكثر من 800 عربي بين قتيل وجريح قبل 44 عاماً وسبقتها مذبحة مماثلة عام 1925 وظهور النفط في عربستان وراء تهميش الغالبية العربية
تمر في تلك الأيام الذكرى الـ44 لما يصفها عرب الأحواز في إيران بـ”مجزرة المحمرة”، لكن قبل أن نتطرق إلى حيثيات هذه الواقعة الأليمة التي شهدتها المحمرة، عاصمة إمارة عربستان التاريخية، في نهاية مايو (أيار) وأوائل يونيو (حزيران) عام 1979، يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً لنرى ماذا يمكن استخلاصه من عبر ودروس.
وصفت هذه المدينة الرابضة على تقاطع نهري كارون وشط العرب بـ”المحمرة” لحمرة الأفق عند غروب الشمس فيها، غير أن الدم الذي سال على أرضها خلال 100 عام منذ سقوط حكمها العربي حتى الآن زاد من حمرتها.
قبل الخوض في الموضوع تنبغي الإشارة إلى أن هذه المدينة شهدت مذبحة مماثلة خلال 27 و28 (تموز) 1925 على يد الجيش البهلوي الغازي راح ضحيتها 240 أحوازياً إثر تمرد بعض موظفي الحكم الخزعلي والجماهير العربية الذي عرف باسم “ثورة الغلمان” في تاريخ عربستان، وذلك بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على احتلال المحمرة. ومنذ ذلك الحين وخلال الحكمين البهلوي والجمهوري الإسلامي تكررت المجازر ضد العرب، بما فيها بعد الثورة الإسلامية، مذبحة الأربعاء الأسود وما تلاها كمذبحتي 2005 و2019، وكلها ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية وفقاً لمعايير الأمم المتحدة.
ماذا جرى في المحمرة؟
كان العرب والكرد آخر الشعوب التي التحقت بمسار الثورة التي انطلقت في 1978 من طهران ومن ثم اتسعت لتشمل قم وتبريز ومدناً وأقاليم أخرى، فيما لم يشارك البلوش في تلك الثورة التي انتصرت في فبراير (شباط) 1979 إلا بشكل ضئيل جداً. ولا أقصد بذلك المشاركة الفردية بل الجماهيرية التي تجلت بشكل تظاهرات وإضرابات واعتصامات. يمكنني القول إن الجماهير العربية في المحمرة نزلوا إلى الشوارع للمرة الأولى بأعداد كبيرة وهتافات عربية وذلك بمبادرة من الشيخ محمد طاهر شبير الخاقاني الذي أصبح أباً روحياً وسياسياً للحركة القومية الأحوازية.
وإذا قارنا بين الثورتين اللتين شهدتهما إيران خلال القرن الـ20، يمكننا القول إنه وبسبب الاستقلال الداخلي الذي كانت تتمتع به عربستان لم يشارك الشعب العربي الأحوازي في ثورة الدستور (1906- 1909) فيما شارك بقوة بعد إلحاقه بإيران وفي كل مدن الإقليم في ثورة 1979.
وتم إنشاء مركز ثقافي وتنظيم سياسي للعرب في المحمرة بعيد الثورة، تلتهما مراكز ثقافية مماثلة في الأحواز وعبادان والفلاحية والخفاجية، تصوراً من النشطاء بنهاية الحقبة الشاهنشاهية الاستبدادية وبدء حقبة ديمقراطية في إيران، غير أن الحكم الديني الوليد اكتفى بتغيير النظام الملكي البهلوي، لكنه لم يمس هيكل الدولة القومية الفارسية التي أرسى أسسها رضا شاه البهلوي، لذا قمع وبشدة ليس المراكز الثقافية والسياسية في عربستان فحسب، بل نظيراتها في تركمن صحراء (منطقة التركمان) وكردستان وأذربيجان.
لكن الأحداث في المحمرة كانت دامية، إذ سقط خلالها أكثر من 800 مواطن عربي بين قتيل وجريح خلال الفترة بين الـ30 من مايو إلى الثالث من يونيو 1979. ولعبت عناصر من الأقلية غير العربية في المحمرة وبالتحالف مع حاكم إقليم الأحواز وقائد القوات البحرية الإيرانية الجنرال أحمد مدني دوراً بارزاً في مجزرة المحمرة، ولم يتم ذلك لولا الضوء الأخضر من المرشد الأعلى الإيراني آنذاك روح الله الخميني.
لعنة النفط والسيول في عربستان
يذكر أن العناصر الفارسية التي تواطأت مع الجنرال مدني في قتل العرب كانت وحتى يوم سقوط الشاه، تتتلمذ في محضر الشيخ الخاقاني وتتفيأ تحت مظلته السياسية المعارضة لنظام الشاه محمد رضا بهلوي، وساندت حكومة مهدي بازرغان وقوى وشخصيات دينية وقومية بل يسارية، الجنرال أحمد مدني، منها كانت تعرف بالتقدمية مثل آية الله محمود الطالقاني وحزب تودة الشيوعي، فيما وقفت معظم الفصائل اليسارية وعدد من المنظمات الديمقراطية إلى جانب الضحية، أي الشعب العربي في المحمرة.
وكشف المستشار الأمني لمير حسين موسوي وهاشمي رافسانجاني محسن كنغرلو عن أن مدني قال له قبل المجزرة إنه “علينا أن نقتل من هؤلاء العرب قدر ما نستطيع، كي يخشونا ولا يخطئوا قيد أنملة هنا وهناك. يجب أن نقتل العرب فقط. وهو يعني من العرب، عرب إيران”، إذ شاهدنا تحالف القوى الدينية والقومية الفارسية ضد مطالب الشعب العربي الأحوازي التي تم تقديمها مؤطرة في 12 مادة، أهمها الحكم الذاتي لإقليم عربستان.
والأنكى في الأمر أن المذبحة ضد الأحوازيين تمت بعد ثلاثة أسابيع من زيارة الوفد الثلاثيني الذي أوفده الشيخ الخاقاني إلى طهران، وهذا يعني أن لغة السلطة في طهران إزاء لغة التفاوض الأحوازية تلخصت في استخدام الحديد والنار. وبعد المجزرة نثر الجنرال مدني الملح على جروح العرب مؤكداً في مقابلة مع صحيفة “آيندغان” الإيرانية أنه “فارسي نقي”.
جذور العداء للعرب
إذا بدا للأحوازيين أن يأخذوا العبر من أحداث المحمرة الدامية، فيجب أن يعرفوا أسباب ظاهرة معاداة العرب في إيران وجذورها وكذلك أن يتصدوا للأخطاء التي ارتكبت آنذاك وخلال المسيرة النضالية الأحوازية. يشمل عداء الأيديولوجية القومية الفارسية للعرب الذي يتميز عن عدائه للشعوب غير الفارسية الأخرى على رغم اضطهاد هذه الشعوب المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وفي هذا المجال يمكن أن نشير إلى أنه أولاً، نشأ الخطاب القومي الفارسي (الإيراني) من قبل رواد النهضة الفكرية الإيرانية في أواسط القرن الـ19 على ثلاثة أسس، الأول تبجيل تاريخ الفرس القديم قبل الإسلام والثاني معاداة العرب والثالث استيعاب إنجازات الحداثة الأوروبية.
فلا نرى هنا ذكراً لمعاداة أي قومية أخرى في إيران. فالكتب الأدبية والتاريخية والسياسية الفارسية المليئة بمقولة معاداة العرب، لم نر مثيلاً لها إزاء سائر القوميات في إيران ما عدا الأتراك الأذريين، مع الاختلاف بأن الإساءة للأخيرين تكون بشكل شفهي وتتجسد في النكت والازدراءات الكلامية، فيما الخطاب الفارسي المعادي للعرب مكتوب ومدون في الروايات والقصص والدواوين والكتب التاريخية والسياسية وتمارسه عملياً وسائل الإعلام بشكل شبه يومي، بل نسمعه في ملاعب كرة القدم والأمسيات الشعرية وفي بعض التظاهرات التي يطلق فيها هتاف “الموت للعرب” وفي الشعارات أو الإعلانات التي تنشرها بعض عيادات الأطباء والفنادق وسائر المؤسسات التي تمنع دخول العرب إليها.
ومن الأمثلة الأخيرة هو إعلان فندق “غراند هوتيل كيش” في جزيرة قيس (كيش) في الخليج وتعتذر فيه إدارة الفندق عن قبول مسافرين عرب على رغم أن السكان الأصليين للجزيرة هم من العرب.
فالكم الهائل من الأدبيات السياسية والفكرية والأدب المعادي للعرب خلال القرنين الأخيرين رسخ هذا العداء في أربعة أو خمسة أجيال متتالية من الإيرانيين ما عدا الفئات السياسية والواعية من الشعوب غير الفارسية التي راحت تتحرر من هذا الخطاب.
ماذا نعمل مع الأقليات غير العربية في عربستان؟
يؤكد الرحالة والمؤرخون الفرس والأوروبيون على أن سكان الأحواز وحتى أوائل القرن الـ20 كانوا عرباً فقط، لكن إثر اكتشاف النفط في عربستان بدأت الهجرة غير العربية إلى هذه الإمارة، غير أنها كانت محدودة بسبب سيطرة الحكم العربي عليها، لكنها انفلتت من عقالها بعدما تم إلحاق عربستان بإيران في عهد الشاه رضا البهلوي. وسيطرت هذه الأقلية ونتيجة دعم طهران عبر الأنظمة المتعاقبة على معظم القطاعات الاقتصادية والمناصب السياسية والمؤسسات الثقافية، وهمشت الغالبية العربية في كل هذه المجالات ولم تظهر اتجاهاتها الفاشية المعادية للعرب إلا بعد إطاحة حكم الشاه وانفتاح الوضع السياسي في البلاد.
فلا نرى مثل هذه الظاهرة وبهذه الشدة في سائر الأقاليم غير الفارسية كأذربيجان وكردستان لأسباب جيوسياسية وجيواقتصادية أو كانت الهجرة هناك أقل وتيرة، ونحن نعرف أن النظام البهلوي لم يغير أياً من أسماء الممالك والأقاليم إلا اسم مملكة عربستان، وهذا مؤشر آخر إلى مدى عدائهم للعرب في إيران، ناهيك عن تغيير اسم نحو 200 مدينة وقرية وأمكنة طبيعية وجغرافية في عربستان.
يدعي بعض الأحوازيين أن الأقلية غير العربية ستقوم بهجرة معاكسة في حال انفلات الأمور في إيران وهذا غير دقيق لأن ثورة فبراير 1979 لم تؤد إلى ذلك، بل فتحت شهية الفئات العنصرية منها لمواجهة العرب المطالبين بحقوقهم القومية. ويستند هؤلاء إلى فترة الحرب العراقية – الإيرانية ونحن نعرف أن تلك الحرب، بخاصة في الأعوام الأولى، أدت إلى هروب ليس العجم فقط بل العرب والعجم معاً إلى مناطق آمنة في إيران.
وبما أن حكام طهران (والمعارضة الشوفينية) يستثمرون في فئات من هذه الأقلية لتأليبها ضد العرب، يجب على الأحوازيين توطيد علاقاتهم مع الفئات الأخرى من هذه الأقلية (اللورية والفارسية) التي لم تتأثر بالخطاب الشوفيني الإيراني وعليهم أن يعترفوا بحقوق هذه الأقلية التي يختلف أمرها مع المستوطنين الذين تجلبهم السلطة للتضييق على الغالبية العربية في شركة النفط، بل توطنهم في أراضي العرب الزراعية مثل ما شاهدناه في الشعيبية والجفير وشمال السوس ومناطق أخرى من الإقليم. وفي هذا المجال يجب اجتناب السلوك المتشدد والهتافات المتطرفة كتلك التي حدثت في بعض التظاهرات التي تمت في المحمرة قبل الأربعاء السوداء، على رغم أن المقصر والمجرم الرئيس في تلك الأحداث هو النظام الإيراني.
مما سبق ذكره يتبين أن القضية الأحوازية أعمق وأكثر تعقيداً قياساً بالقضية الكردية والأذرية والبلوشية وأنه لا يمكن حل معضلة القوميات والشعوب في إيران من دون حلها.
المصدر: اندبندنت عربية